سلسلة السيرة النبوية الطريق إلى الحديبية


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الثاني من دروس السيرة النبوية العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

وفي هذا الدرس إن شاء الله سنتحدث عن حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وأعظم أحداث الأرض بصفة عامة، وهو لحظة فارقة حقيقية في تاريخ الأمة الإسلامية، وله انعكاسات ليس فقط على الجزيرة العربية، ولكن على العالم أجمع كما سيتبين لنا إن شاء الله، وهذا الحدث العظيم هو صلح الحديبية.

ويكفي في وصف عظمة هذا الحدث أن الله عز وجل سماه بالفتح المبين، الفتح الذي جاء في الآية: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] الكثير من المفسرين يفسرون هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية، ويكفي الذين اشتركوا في هذا الخروج إلى صلح الحديبية من الصحابة أنه سبحانه وتعالى قد رضي عنهم تصريحاً في كتابه الكريم قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وكان عددهم (1400) صحابي، فهذا الجمع الهائل من الصحابة صرح ربنا سبحانه وتعالى أنه قد رضي عنهم، وهذا أمر يستوجب منا الوقوف والدراسة والتأني في بحث هذا الموضوع الهام الخطير، لكن لا نستطيع أن نفهم أبعاد صلح الحديبية إلا بالرجوع إلى ما ذكرناه في الدرس السابق، وقد ذكرنا فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب قال كلمته المشهورة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، ومن ثم كانت السنة السادسة من الهجرة هي السنة التي تلت غزوة الأحزاب، وكان في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك آثار كثيرة لخصناها في آخر الدرس السابق، ومجمل هذه الآثار: أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة لها قوة وهيبة وعظمة في قلوب جميع العرب بما فيهم قريش، وأن قريشاً بدأت تفتقد إلى الأعوان والأحلاف والأصحاب، وميزان القوى بدأ يسير في صف المسلمين على حساب قريش، هذا الأمر سيكون له مردود هام جداً في صلح الحديبية، كما سيتبين لنا الآن.

رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم دخول البيت الحرام مع أصحابه

في شهر شوال من السنة السادسة من الهجرة، يعني: بعد مرور سنة من غزوة الأحزاب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا: رأى أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين معتمرين، ورؤيا الأنبياء حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيأخذ أصحابه ويذهب في رحلة عمرة جماعية إلى مكة المكرمة إلى عقر دار قريش، وهذا أمر صعب جداً، فهم قبل سنة واحدة فقط جاءت الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل: ( 4000 ) من قريش والقبائل التي تحالفها، و( 6000 ) من غطفان، جاءوا يحاصرون المدينة المنورة بغرض استئصال المؤمنين بكاملهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مرور سنة واحدة من غزوة الأحزاب في شجاعة منقطعة النظير يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالتجهز لأداء العمرة، وليس بينه وبين قريش أي نوع من المعاهدات أو الصلح أو الاتفاقيات.

لما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم قبل الجميع من الصحابة ذلك دون تردد، بل اشتاقوا إلى الأمر، مع أن السفر إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت سواء للعمرة أو غيرها يحمل خطورة شديدة جداً عليهم، والمسلمون قد تحملوا الكثير والكثير قبل ذلك من قريش، وقريش لم ترع أي حق للبيت الحرام ولا للبلد الحرام، فقد انتهكت حرمة البلد الحرام قبل ذلك كثيراً، ومع ذلك لم يتردد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قبول الأمر النبوي بالذهاب إلى العمرة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاستفادة قدر المستطاع من قوانين المجتمع المشرك التي يعيش فيها، أي: الأعراف الدولية في ذلك الوقت، أعراف الجزيرة العربية، وأعراف قريش ذاتها تقضي بأن الذي يذهب إلى مكة المكرمة لأداء العمرة آمن مهما كان بينه وبين قريش من خلافات، فهل ستحترم قريش هذه القوانين القديمة أم لا؟! هذا ما سنراه.

فخرج المسلمون سعداء قد شرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، وهذا مهم جداً في بداية أي عمل، لذلك سيدنا موسى عليه السلام كان يقول: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]، فالإنسان عندما ينشرح صدره لعمل ما يكون أداؤه فيه أداء متميزاً.

لم يكن هناك أي نوع من الإكراه لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام للذهاب إلى هذا المشوار الصعب، لكن في المقابل من الناحية الأخرى جميع المنافقين تقريباً لم يستطيعوا الخروج إلى هذا المشوار الصعب، وترددوا كثيراً وفكروا كثيراً، وفي النهاية أخذوا القرار الحاسم أنهم لن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة؛ لأن هذا المشوار في نظرهم مشوار مهلك، كيف نذهب إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، ليس معنا أسلحة الحروب؟

لذلك لم يخرج مع المسلمين إلا منافق واحد اسمه الجد بن قيس .

كذلك الأعراب حول المدينة المنورة دعوا إلى الخروج، ولكنهم جميعاً أبوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك هذا الصف الذي خرج من المدينة إلى مكة هو صف خالص نقي طاهر، وعددهم ( 1400 ) مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في أوساط المؤمنين، وكما هو معلوم في الغزوات السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريباً بإذن الله عز وجل، فسنرى -إن شاء الله- نتائج عظيمة جداً نتيجة خروج هذا الصف النقي من المدينة المنورة، فقد كانوا ( 1400 ) وفي رواية: ( 1500 ) صحابي، وأخذ صلى الله عليه وسلم معه في خروجه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وكان هذا الخروج في غرة ذي القعدة سنة (6)هـ بعد سنة من الأحزاب، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، وفي ذي الحليفة التي هي الآن آبار علي وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة، هناك في ذي الحليفة أحرم صلى الله عليه وسلم وقلد الهدي، وكان قد أخذ معه مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحها في مكة المكرمة، وهذا من النوافل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ولبس لباس العمرة وبدأ بالتلبية؛ كل هذا ليدل على أنه لم يذهب إلى مكة إلا للعمرة فقط، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن هناك عيوناً كثيرة لقريش على الطريق، وهذه العيون لاشك أنها ستنقل الأخبار إلى مكة المكرمة، وهو لا يريد حرباً مع أ÷ل مكة ولم يذهب إلا للعمرة، وما رآه في الرؤيا هو فقط مجرد العمرة؛ ولذلك لم يخرج صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بسلاح المسافر، وفي طريقه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة كان يلبي: لبيك اللهم لبيك.. إلى آخر الدعاء.

توقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكراع الغميم

وصل صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى منطقة تسمى كراع الغميم، وهو على بعد ( 60 ) كيلو أو ( 64 ) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وهناك فوجئ عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً قد جمعت جيشاً وجمعت الأحابيش، والأحابيش: هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، وسميت بذلك؛ لأنهم اجتمعوا عند جبل اسمه حبشي، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عن مكة المكرمة.

فهذه المجموعة من القبائل جمعتها قريش لصد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة في مكة المكرمة، مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يذهب إلى مكة معززاً مكرماً ممنوعاً، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا، لكن كل هذا ضربت به قريش عرض الحائط، وبدأت التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين والعهود التي بينها وبين العرب قاطبة.

فوجد صلى الله عليه وسلم أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، هذا موقف خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا ( 1400 ) من المسلمين وبسلاح المسافر، ويقف أمامه عند كراع الغميم جيش، ليس من قريش فقط، ولكن من قريش ومن معها من القبائل المحالفة لها، فوقف صلى الله عليه وسلم وبدأ يأخذ الشورى بينه وبين أصحابه، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى في موقف من المواقف، إلا في حالة ما إذا كان هناك أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، إذا كان أمر حل أو حرمة فهنا لا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأي الصحابة فيه.

فمثلاً: الخروج من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة كان عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لذلك لم يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليأخذ رأيهم: نذهب أو لا نذهب؟ مع خطورة الأمر.

إذاً: ما دام ربنا سبحانه وتعالى أمر بكذا أو نهى عن كذا فلا مناقشة ولا تردد، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في قضية عسكرية فأخذ الشورى فيها، فقد جمع أصحابه في هذا الموقف الخطير الذي هم فيه، وشاورهم: هل نحارب هؤلاء الذين تجمعوا لنا أم نعود ولا ندخل إلى مكة؟ هل نغير على قبائل الأحابيش الخالية الآن من الرجال؛ لأن معظم جيش الأحابيش خرج للوقوف عند كراع الغميم؟ وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض فكرة الالتفاف حول هذا الجيش والميل على قبائلهم الفارغة من الجنود وقتلهم وسبيهم، فيكون ذلك عزة وقوة للمسلمين على الكفار، هذه كانت آراء مطروحة من الرسول صلى الله عليه وسلم طرحها على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ليختاروا ما يناسبهم، وعرض بعض الصحابة رضي الله عنهم آراءهم، فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، يعني: رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه ألا نسعى لقتالهم ولا نذهب إلى قبائل الأحابيش ولا نقاتل هذا الجيش، بل نكمل الطريق في محاولة الوصول إلى البيت، فإن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد إرهاب للمسلمين ولن يقاتل فنحن سنكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال قاتلناهم فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه، هذا ملخص رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قبلوا هذا الرأي واستحسنوه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أكملوا الطريق، لكن قريشاً كانت مصرة على منع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من دخول مكة المكرمة للعمرة؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان وقتها مشركاً، وهذه الفرقة من الفرسان حوالي ( 200 ) فارس، ووراءهم جيش مكة، وهذه الفرقة كانت في كراع الغميم، ولما اقترب الرسول عليه الصلاة والسلام وقف أمام هذه الفرقة المسلحة، وعند هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، والمسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن أوقاتها إلا في الظروف الضيقة المحدودة جداً، تكاد في السيرة تعد على أصابع اليد الواحدة، كما حدث في غزوة الأحزاب قبل كذا، لكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلوات في أوقاتها حتى في ميادين القتال، بل إنهم كثيراً ما كانوا يصلون الصلاة على خيولهم إيماءً إذا احتدم القتال، هذا اهتمام كبير جداً بقضية الصلاة، ووقف صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يصلون صلاة الظهر خلفه مؤتمين به صلى الله عليه وسلم، يركعون ويسجدون جميعاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كما ذكرنا ( 1400 )، فـخالد بن الوليد قائد فرسان المشركين رأى المسلمين في صلاتهم في حال الركوع والسجود، ورأى الجيش كله لا يرى مَنْ أمامه في وضع السجود، فوجدها فرصة للإغارة على المسلمين فهو فكر بذلك دون أن يظهر ما فكر فيه إلى أحد، لكن خالد بن الوليد لم يأخذ قراراً حاسماً، مع أنه يرى أن هذه فرصة ممكنة للهجوم على المسلمين، فسأل الذين حوله: هل هناك صلاة ثانية للمسلمين مثل هذه الصلاة؟ فقال له من حوله من المشركين الذين يعلمون أحوال المسلمين: نعم هناك صلاة يسمونها صلاة العصر، هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم.

فرأى خالد بن الوليد أن هناك فرصة للهجوم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولم يخبر بذلك أحداً من أصحابه من المشركين، فلما جاء وقت صلاة العصر وقف صلى الله عليه وسلم ليصلي بالمؤمنين فنزل عليه الوحي بصفة صلاة الخوف، وصلاة الخوف صلاة خاصة لا يقوم بها المسلمون إلا في الظروف الضيقة جداً، في حال ما إذا كان المسلمون في ميدان القتال ويخافون من عدوهم أن يغير عليهم فإن لهم أن يصلوا صلاة الخوف.

ومن صفة هذه الصلاة بأن الإمام الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية يصلي ركعتين ويصلي خلفه نصف الجيش، والنصف الآخر يقف للحراسة، وبعدما يصل الإمام إلى الركعة الثانية يقعد للتشهد ولا يقوم، وبقية الناس تسلم وتنتهي من صلاتها ركعتين؛ لأنهم يصلون صلاة قصر المسافر، وينصرف نصف الجيش الذي صلى ليقف في الحراسة ويأتي الذين حرسوا الجيش في صلاته الأولى ويصلون خلف الإمام ركعتين أيضاً، فالإمام يقف بعد التشهد الأوسط ويصلي ركعتين التي بقيت له من الصلاة الرباعية التي هو صلاها فيصلي بنصف الجيش الثاني ركعتين، فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الخوف صلى أربع ركعات، ونصف الجيش صلى الركعتين الأوليين، والنصف الثاني صلى الركعتين الأخريين.

إذاً: هذا الحكم نزل في الحديبية أمام خالد بن الوليد ، فـخالد بن الوليد كان يريد أن يهجم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولكن لم يقدر؛ لأن نصف الجيش وقف للحراسة، فقال كلمة عجيبة قال: إن القوم ممنوعون، يعني: هؤلاء عليهم حماية غير طبيعية، حماية فوق طاقة البشر، كيف صلوا هذه الصلاة للمرة الأولى في حياتهم بهذه الكيفية، من أعلمهم بما فكر فيه خالد ، مع أنه لم يطلع أحداً على ما كان يفكر فيه؟ ولعل هذا الموقف كان له أثر كبير في تفكير خالد بن الوليد في أن يسلم؛ فهو أسلم بعد صلح الحديبية بشهور قليلة.

المهم لم يستطع خالد بن الوليد أن يحارب المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الدخول في قتال مع المشركين، وبعد ما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة أخذ الجيش وانحرف عن جيش خالد بن الوليد متجنباً إياه، وبدأ في التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهو صلى الله عليه وسلم مصر على استكمال الأمر حتى نهايته، وخالد بن الوليد حين رأى ذلك الموقف أصبح متردداً في قضية القتال، وقال: إن القوم ممنوعون، ورجع سريعاً إلى مكة ليخبرهم بهذا الأمر.

وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الحديبية

لقد أكمل صلى الله عليه وسلم الطريق إلى مكة المكرمة إلى أن وصل إلى مكان يعرف بالحديبية، ويوجد هناك بئر، وهذا الموضع قريب جداً من مكة المكرمة، يقع بين التنعيم وبين مكة المكرمة، ويبعد التنعيم حوالي ( 5 ) كيلو من مكة المكرمة، فهو عليه الصلاة والسلام دخل في حدود مكة المكرمة نفسها، وأصبح الموقف شديد الحرج، ففي أي لحظة من اللحظات القادمة قد يحدث قتال عند إرادة دخول مكة المكرمة، لكن قبل دخول مكة المكرمة حدث أمر مفاجئ، حدث أن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم توقفت عن المسير، فالصحابة اجتمعوا ليدفعوا الناقة إلى القيام وإكمال المسيرة إلى مكة المكرمة، وكان الجميع متحمساً جداً لدخول مكة المكرمة، ورفضت الناقة أن تقوم، فقال الصحابة: (خلت القصواء خلت القصواء) أي: امتنعت عن القيام وعن التقدم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلت القصواء وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس من خلق القصواء أن ترفض الأمر الموجه إليها، وما ذاك لها بخلق: (ولكن حبسها حابس الفيل) يعني: أنه سبحانه وتعالى أراد لها ألا تتقدم، فهو أمر من الله عز وجل للناقة.

وقوله: (حبسها حابس الفيل) يعني: الفيل الذي كان يركبه أبرهة عندما أراد دخول مكة المكرمة، لكن الله أمره ألا يدخل، فوقف الفيل ولم يستطع أبرهة أن يدفع الفيل لدخول مكة، فهذا الأمر تكرر تماماً مع الناقة النبوية.

وقد تكرر هذا الموقف مع الناقة قبل ذلك، ومن أشهر المواقف التي حدثت مثل ذلك: عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ترك عليه الصلاة والسلام الناقة تسير إلى أن استقرت في مكان ما، وقال للصحابة من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: (دعوها فإنها مأمورة)، فنفس الموقف يتكرر في الحديبية؛ بسبب هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة مهمة جداً، وستفسر لنا هذه الكلمة أموراً كثيرة آتية بعد ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن أحس وشعر أن هناك وحياً واضحاً في هذه القضية، قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أنه سيقبل بالصلح مع قريش، فهو عليه الصلاة والسلام كان يشعر أن هناك وحياً في هذه القضية لم يكن مباشراً، لكنه فهمه من خلال وضع الناقة وعلم أنها مأمورة؛ وعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يريد قتالاً يتم بينه وبين قريش في ذلك الوقت، لذلك سيقبل عليه الصلاة والسلام بأي خطة تعظم حرمات الله، فهو يشترط في الخطة أن تعظم حرمات الله، فلن يقبل بظلم على المسلمين، ولن يقبل بمخالفة شرعية صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر في غاية الأهمية.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد مصالحة وخطة ليس فيها قتال، وهذا أيضاً سيفسر لنا قبول الرسول عليه الصلاة والسلام بصلح الحديبية بصورة واضحة؛ لأنه أمر مرضي له صلى الله عليه وسلم.

وبعد بقاء المسلمين في منطقة الحديبية أرسلت قريش أحد الرسل؛ جاء لكي يحل المشكلة بين المسلمين وبين قريش، وهذا الرسول هو بديل بن ورقاء الخزاعي فهو ليس من قريش وإنما من قبيلة خزاعة، ومعروف أن قبيلة خزاعة حليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب خزاعة، وقريش لم ترسل رجلاً منهم، لم ترسل زعيماً من زعمائهم يهدد ويتوعد، لا، لأن قريشاً تريد أن تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام بالسلم، وبنوع من الحسنى، وبتجنب القتال قدر المستطاع، ونحن قد نستغرب ونقول: كيف قبلت قريش العزيزة المنيعة القوية القبيلة الكبيرة المعظمة عند جميع قبائل العرب بلا استثناء، كيف تقبل هذه القبيلة الكبيرة بالجلوس مع الرسول عليه الصلاة والسلام في طاولة المفاوضات، مع عدم الضغط المباشر على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أقول: إن الذي حصل في السنة السادسة من الهجرة أثر تأثيراً كبيراً على سلوك قريش، الذي حصل من سرايا وغزوات متتالية في العام السادس من الهجرة كان فيه رفع الراية الجهاد وإظهار الهيبة الإسلامية والعزة الإسلامية في كل مكان، فكل هذا كان له تأثير سلبي واضح على نفسيات قريش، وكان له تأثير معنوي إيجابي رائع جداً عند المسلمين، مما جعل الموقف يكون بهذه الصورة.

أول رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد كان المسلمون على بعد عدة كيلو مترات قريبة جداً من مكة المكرمة، وبهذه العزة يقفون ينتظرون رسل قريش، وقريش لا تستطيع أن ترسل زعيماً من زعمائها وإنما تبعث واحداً وسيطاً يتوسط عند المسلمين أن يعودوا، فذهب بديل بن ورقاء الخزاعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليمنعه قدر المستطاع من دخول مكة، فقريش لا تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في ذلك الوقت، ولا تريد أن تحدث معه قتالاً؛ لأنها تشعر أنها أضعف من المسلمين، مع أن المسلمين ليس معهم إلا سلاح المسافر فقط، فوقف بديل بن ورقاء وحاول أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم تهديداً خفيفاً، لكن هذا التهديد لم يكن من قريش؛ لأن بديل بن ورقاء ليس قرشياً، فقال بديل مهدداً: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل. يعني: ما تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي وهما فرعان من قريش يعيشون في مكة تركتهم نازلين قريباً جداً من الحديبية، (معهم العوذ المطافيل) يعني: معهم الأبناء والأولاد وهم يريدون حربك يا محمد، فالحرب ستكون ضارية بينك وبين قريش، ثم يكمل بديل بن ورقاء ويقول: وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فماذا كان رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد رتب الرسول عليه الصلاة والسلام الكلمات ترتيباً سياسياً حكيماً بارعاً، وبين له فيه أنه فهم الموقف تمام الفهم، وأن قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة لم يكن قدوماً متهوراً غير مدروس، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل حسابه لكل نقطة، فماذا قال؟ قال: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين) يعني: نحن لسنا مخالفين لقوانين الجزيرة العربية، وإنما أنتم الذين تخالفون قوانين الجزيرة العربية، وقوانين قريش نفسها تقضي بأن ندخل إلى مكة المكرمة لأداء العمرة إذا أرادنا ذلك، بل على قريش أن تحمينا وتحرسنا بسيوفها، فنحن نسير وفق هذا القانون وأنتم تخالفون هذا القانون.

فهو في منتهى القوة يقول: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين).

الأمر الثاني: أنت تهددني بقريش وأنهم قد جمعوا العوذ المطافيل وجمعوا جيوشاً ليحاربوني، لا، أنا أعلم بوضع قريش، قال: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم) يعني: ليست قادرة على محاربة المسلمين، فقريش أضعف من أن تحارب، فقد عادت من الأحزاب في خزي واضح بعد أن فشلت في غزو المدينة المنورة، وقريش لم تحرك جيشاً واحداً لقتال المسلمين في خلال السنة السادسة من الهجرة، مع اقتراب المسلمين أكثر من مرة من حدود مكة المكرمة.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم القوة التي هو فيها الآن، ويفاوض من هذا الوضع القوي، ولذلك كلماته مسموعة وكلماته مرغوبة عند بديل بن ورقاء وعند القرشيين جميعاً، فقال هذه الكلمات: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا..)، فبدأ يعدد عروضاً في منتهى الوضوح، فقد أعطاهم ثلاثة عروض ليختاروا منها ما يشاءون.

العرض الأول: (فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: هذا العرض يقضي أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من قريش أن تضع الحرب بينه وبينهم مدة من الزمان، وهذه المدة سنة سنتان ثلاث عشر، ويتركون ما بيني وبين الناس، أنا أدعو الناس وهم يدعون الناس، وكل واحد يتصرف دون خشية من الطرف الآخر أن يدخل معه في حرب.

فهذا العرض يفسر لنا أن ما حدث في صلح الحديبية من كون القرشيين يطلبون المعاهدة والمدة كان مطلباً إسلامياً في البداية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب هذه المدة؛ لأنه يعلم تمام العلم أن الدعوة في الجو السلمي أكثر إنتاجاً وأعظم تأثيراً وأسرع إلى قلوب الناس منها في جو الحروب، لذلك كان يطلب صلى الله عليه وسلم من قريش أن تضع الحرب بينها وبينه مدة من الزمان؛ ليسمح له فيها بالدعوة في كل مكان دون قتال.

العرض الثاني: (وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا)، يعني: لو أرادوا أن يسلموا ويبقوا مثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا فعلوا ذلك، فنحن نرحب بهم في الإسلام.

إذاً: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الكلمات وهو بسلاح المسافر فهذا يدل على عزة الإسلام فعلاً.

العرض الثالث: (وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)، يعني: قتال إلى النهاية حتى الموت، فنحن لا نخشى القتال، بل نطلبه ونحبه؛ لأنه في سبيل الله عز وجل.

والسالفة أي: الرقبة، فهذا كان وضع الرسول عليه الصلاة والسلام، كلمات في منتهى القوة، وعروض ثلاثة واضحة جداً.

فقال بديل : سأبلغهم ما تقول، وأخذ العروض الثلاث وانطلق إلى مكة المكرمة، وعندما ذكر بديل هذه الأمور لزعماء مكة، كان المتوقع منهم أن يثوروا ويغضبوا، كيف يقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات، وهو على بعد خطوات قليلة من مكة المكرمة، وهم في عقر دارهم ومعهم الجيوش، لكن هذا لم يحدث، فقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب القرشيين.

هكذا يرفع المسلمون رءوسهم عندما يعتزون بدينهم.

ثاني رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد حاولت قريش قدر المستطاع أن يتجنبوا اللقاء والصدام مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان بسلاح المسافر، فأرسلوا الحليس بن علقمة ، والحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة زعيم الأحابيش المحالفين لقريش، فقريش للمرة الثانية لم ترسل قريش أحد زعماء قريش؛ لأنه قد يتهور في قرار لا يستطيع القرشيون تحمله، فأرسلوا الحليس بن علقمة ، والرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الحليس قال: (هذا من قوم يعظمون البدن)، يعني: من قبيلة بني الحارث بن عبد مناف وهم قوم متدينون يحترمون قواعد البيت الحرام وأعراف البيت الحرام، ويعظمون البدن، ويحترمون من جاء لأداء العمرة أو الحج في مكة المكرمة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عامله بما هو أهله، فأرسل في وجهه البدن؛ ليشعره أنه ما جاء إلى هنا إلا ليقوم بما يعظمه الحليس بن علقمة وقومه، فعندما أرسل البدن في وجهه واستقبله الصحابة يلبون: لبيك اللهم لبيك، لما رآهم الحليس بن علقمة قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.

فالرسول عليه الصلاة والسلام استطاع أن يكسب قلب الحليس بن علقمة حتى قبل أن يتم بينه وبينه كلام، فقد كان عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقه في منتهى الروعة، فـالحليس بن علقمة كافر، وبديل بن ورقاء كافر، وأبو سفيان كافر، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل قبل ذلك، وكل هؤلاء كفار، لكن كل واحد له طريقة تعامل، فهناك كافر غادر، وهناك كافر من نبلاء القوم، وهناك كافر لا يعظم أي دين، وهناك كافر يعظم الدين وإن كان ديناً باطلاً.. هكذا كل واحد له طريقة في التعامل، والرسول عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الرجل على قدر علمه وقدر بيئته وقدر ظروفه، وهذه هي الحكمة في حقيقتها.

إذاً: الرسول الثاني لقريش فشل في أداء ما تتمناه قريش، بل بالعكس فقد رجع إليهم وقال لهم: اسمحوا له بالدخول إلى مكة لأداء العمرة، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، لكن قريشاً ضربت بكلامه عرض الحائط، وقالوا: هذا الكلام لا يستقيم نحن نريد أن نمنعه مهما كانت الأعراف والقوانين.

ثالث رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد تأزم الموقف جداً عند قريش، فأرسلت الرسول الثالث وأيضاً ليس من قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي من قبيلة ثقيف، فقريش أرسلت واحداً تعتقد اعتقاداً جازماً أن المسلمين سيحترمون رأيه ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظماً جداً في كل الجزيرة العربية، وهذا الرجل هو عروة بن مسعود الثقفي ، وكما تعلمون عندما نزل القرآن الكريم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة وبلغ به الناس، وقف القرشيون وقالوا قولتهم التي حكاها الله عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهم يريدون سحب العظمة من الرسول عليه الصلاة والسلام وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتان هما: مكة والطائف، والرجل الذي يقصدونه من مكة: هو الوليد بن المغيرة ، والذي يقصدونه من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي هذا.

إذاً: جميع أهل مكة والجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل أعظم رجلين في داخل الجزيرة العربية بكاملها، لذلك أرسلوه للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

و عروة بن مسعود لكونه عزيزاً وسيداً جاء بكلمات تهذيبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت إن هدد ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه لن يكون ذلك مؤثراً على قريش؛ لأنه من ثقيف، فذهب عروة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أرأيت لو استأصلت قومك..)، انتبه لكلمات عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق، كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يقتل الناس وليس العكس، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء وأعلن أكثر من مرة: (إنا لم نأت لقتال أحد ولكن أتينا معتمرين)، فهو يريد حقاً تعطيه قريش لكل الناس، ولكنهم يخالفون ويرفضون إعطاء ذلك الحق، فهنا قلب للحقائق وتصوير المظلوم أنه الظالم وتصوير الظالم أنه المعتدى عليه، وهذا أمر متكرر كثيراً في التاريخ، من ذلك: كلام فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].

فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال: (أرأيت لو استأصلت قومك وقتلت كل من في مكة، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك)، انظر إلى القلب الواضح للحقائق، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إنه يريد أن يستأصل قومه، بل بالعكس هو طلب منهم أن يسمحوا له بالعمرة ويرجع إلى المدينة المنورة، ولم يسأل عن حقوقه داخل مكة المكرمة، ولم يسأل عن دياره، ولم يسأل عن أمواله، ولم يسأل عن كذا وكذا من حقوق الصحابة، فقد سلب هو أصحابه من أهل مكة كل هذه الحقوق، ومع ذلك تجد الكلمات معكوسة تماماً من عروة بن مسعود الثقفي هذه عاداتهم، ثم يقول عروة بن مسعود : (وإن الأخرى) يعني: إن هي غلبت قريش المسلمين، قال: (فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، هذا كلام في منتهى سوء الأدب، يعني: أن هؤلاء الذين معك كلهم إذا بدأت الحرب سيفرون ويتركونك، إنما هم أوباش من الناس، فهو يسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ويذكر أنهم جميعاً سيفرون عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعونه لقريش.

فهذا الرجل يهدد ويتوعد وليس كالذي سبقه الحليس بن علقمة ، فمثل هذا ما ينفع معه الكلام الهادئ وما ينفع معه العظة كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الحليس بن علقمة ، هناك رد ثان مناسب له، والذي تولى الرد عليه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع علمنا بـالصديق في رفقه ولينه ورقته ورحمته رضي الله عنه، لكن كل ذلك في موضعه، أما إذا كان في موضع العزة والقوة فهو أقوى الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان في كل حياته، وراجعوا ما قلناه في محاضرات الصديق رضي الله عنه وأرضاه عن قوة الصديق وبأسه رضي الله عنه.

فهنا وقف الصديق وتكلم بغلظة وشدة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك، قال رضي الله عنه وأرضاه بعد أن سب عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة، قال وهو مستنكر: (أنحن نفر عنه؟) يعني: هل الصحابة تفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعروة بن مسعود لما سمع السباب الذي قاله أبو بكر الصديق ومعلوم أن عروة بن مسعود زعيم وعظيم من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، لكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم، قال: (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) يعني: أنت كنت قد عملت معي معروفاً قبل كذا، ولأجل هذا المعروف لن أجيبك على هذا السباب الذي وجهته إلي، وحفظ للصديق معروفه القديم، والحمد لله أنه كان هناك معروف من الصديق ؛ لأننا لا نريد الحرب أن تقوم، والرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى لحرب مطلقاً في هذه الرحلة بفضل الله.

فلما هدأ الموقف وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم من جديد، وفي أثناء هذا الكلام كان عروة بن مسعود الثقفي يتحدث مع الرسول عليه الصلاة والسلام وكان يمد يده يتناول لحية الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبه، فكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه واقفاً بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان كلما رآه يمد يده ويمسك لحية الرسول عليه الصلاة والسلام أهوى بنعل السيف على يد عروة بن مسعود الثقفي ليمنعها من الوصول إلى لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الموقف مهم جداً؛ لأن اسم المغيرة الكامل هو المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه وأرضاه فهو ابن أخي عروة بن مسعود ، فهذا فيه إبراز معنى الولاء عند المسلمين لله ولرسوله وللمؤمنين، حتى وإن كان الذي يتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام الآن هو عم المغيرة بن شعبة مباشرة، فعم /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 172