سلسلة السيرة النبوية الأحزاب


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية للعهد المدني.

في الدرس السابق تحدثنا عن الأحداث التي كانت بعد غزوة أحد، فإن الفترة التي أعقبت غزوة أحد كانت فترة عصيبة جداً على الدولة الإسلامية، اهتزت هيبة الدولة الإسلامية بصورة جعلت الكثير من الأعداء يطمعون فيها سواء من داخل المدينة أو من خارجها، وتحدثنا عن الأزمات الخمس التي مرت بالأمة الإسلامية في الشهور الستة الأولى بعد أحد، وانتهت الأزمة الخامسة منها بمواجهة مع يهود بني النضير، وبفضل الله انتصر المسلمون بالرعب الذي ألقاه الله عز وجل في قلوب اليهود، ونزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من المدينة إلى خيبر، وبخروج اليهود في ربيع أول سنة 4 هـ دخل المسلمون في مرحلة أخرى، استعادوا فيها كثيراً من هيبتهم، وكانت السنة التي تلت خروج يهود بني النضير سنة طيبة جداً من سنوات الدعوة، سكن فيها المنافقون، وانتشرت فيها سرايا المسلمين في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، بل وأخلفت قريش موعدها مع المسلمين في شعبان سنة (4 هـ) فيما عُرف في التاريخ بغزوة بدر الصغرى، وهدأ يهود بني قريظة وأقروا بالعهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أنه نتيجة استقرار أوضاع المسلمين، وتحرك القلق في قلوب جميع أعداء الأمة من يهود ومشركين ومنافقين، وبدءوا يفكرون في شيء يمنعون فيه الدولة الإسلامية من إكمال المسيرة، وتولى كبر التدبير لهذا الأمر فرقة من يهود خيبر ويهود بني النضير، وكونوا وفداً من حوالي (21) رجلاً، وتحرك هذا الوفد إلى الجزيرة العربية هنا وهناك؛ ليجمع الجموع لحرب المسلمين، واستطاعوا أن يحمسوا قريشاً على أن تخرج في (4000) مقاتل، واشتروا غطفان وبني سليم بالمال على أن يخرجوا في (6000) مقاتل، وتحركت هذه الجموع الضخمة (10000) مقاتل صوب المدينة المنورة، وكان الهدف استئصال المسلمين تماماً، ليس الغرض الانتصار في موقعة عابرة، ولكن الهدف هو إنهاء الوجود الإسلامي في الأرض بالمرة، ووصل النبأ المرعب إلى المدينة المنورة.

أما المنافقون فقد ظهر نفاق معظمهم، وقالوا: لا طاقة لنا أبداً بحربهم، وظهرت عليهم علامات الرعب والهلع، وهؤلاء المنافقون لم يكتفوا بالهلع والقعود، بل حاولوا أن يمنعوا الآخرين من الحرب بحجة أنها حرب لا طائل من ورائها، قال الله عز وجل: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:18-19] هذا كان رد فعل المنافقين.

أما المؤمنون الصادقون فإنهم ومع عظم الخبر إلا أنهم وجدوا فيه بشرى، والبشرى هي أن الله عز وجل وعد المسلمين بالنصر على أعدائهم إن هم تجمعوا لهم، ووعدهم بالنصر إن وصلت الأزمة إلى الذروة، أين هذا الوعد؟

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: هذا الوعد في قوله تعالى في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]المسلمون الآن يقتربون من مرحلة الزلزال، إذاً: النصر أيضاً يقترب.

بدأ المسلمون يفكرون في الأزمة القادمة بإيجابية، ما الذي سوف نعمل؟

أول شيء فعلوه: إقامة مجلس شورى، وهذه هي البداية الصحيحة، وعند مراجعة صفات الجيش المنصور الذي قلناه قبل هذا في بدر ستجدونها جميعها موجودة بالتفصيل في جيش الأحزاب، فهذه سنن وليست مصادفات، وهكذا أقيم مجلس الشورى المكون من المهاجرين والأنصار وغيرهما من القبائل المختلفة، بل إن فيهم من ليس عربياً أصلاً مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين، وهذه هي عظمة الدين الإسلامي، وانظر ما هي الخبرات التي تتراكم في الأمة الواحدة نتيجة جمع البشر من كل العناصر والقبائل والأجناس والبلاد تحت راية واحدة، فهذه أزمة الأحزاب، والله سبحانه وتعالى يجعل حلها على يد رجل ليس من العرب أصلاً، ولكنه من المسلمين، وهو سلمان الفارسي.

هذا الجيش الإسلامي يستفيد من خبرة الجيش الفارسي، ومن تجارب شعب كامل مثل شعب فارس، كما أن سلمان الفارسي لم يدخل في الجماعة المسلمة إلا منذ أيام أو شهور قليلة، ولعل هذه هي المشاركة الأولى مع الصف المسلم، ومع ذلك تجده قد انصهر تماماً في الصف المسلم، وأصبح عضواً فاعلاً في الأمة، وأصبح له رأي معتبر لا يشعر بأنه غريب، فهذه هي دولته وأمته وهذا هو دينه، وسلمان أسلم من بداية الهجرة، لكنه كان عبداً عند أحد اليهود، ولم يُعتق إلا قبل الأحزاب بقليل.

قال سلمان: (يا رسول الله! إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا) فعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة هذه الفكرة أعجبتهم، وسرعان ما ظهرت فيهم صفة الحماس وعدم التردد، وأخذوا القرار مباشرة، وهو لا بد أن نبدأ في الحفر حالاً.

نقف على واقعية المنهج النبوي، ما معنى واقعية المنهج النبوي؟

قد يقول قائل: كيف يجبن المسلمون عن اللقاء فيحفرون الخندق ولا يحاربون؟

الجواب: أن الإسلام دين واقعي، مع القناعة التامة بأن الله سبحانه وتعالى معنا إذا كنا معه، وسينصرنا إن نصرناه، إلا أننا نأخذ بكل الأسباب، فـ (10000) مقاتل مشرك ضد (3000) مقاتل مسلم، وهم جميع أهل المدينة من الرجال، هو لقاء غير متكافئ، خاصة أن هؤلاء العشرة آلاف يمكن أن يزيدوا، ويمكن أن يضموا إليهم يهود خيبر، ويمكن أن تأتي قبائل مشركة أخرى غير قريش وغطفان وبني سليم.

فاحتمال هذه الأحداث جعل الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة أن يختاروا محاولة تجنب اللقاء قدر المستطاع، فكانت فكرة الخندق فكرة ممتازة.

لم نهرب من أرض الموقعة ولم نتنازل عن شيء، وسيكون العدو في مأزق؛ لأنه لن يستطيع أن يعيش طويلاً بعيداً عن بلاده وطعامه وشرابه وتجارته، فسيصبح عامل الزمن في صالح المسلمين، وفعلاً كانت فكرة ممتازة، وأسرع النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ مجموعة من الصحابة وتفقد أطراف المدينة؛ لكي يرى المكان المناسب لحفر الخندق، فهو يأخذ بكل الأسباب، ووجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن شرق المدينة وغرب المدينة لها حماية طبيعية من المرتفعات الشرقية والغربية، وأيضاً جنوب المدينة محمي بغابات طبيعية وأحراش، بقيت منطقة الشمال ومنطقة الجنوب الشرقي،

ومنطقة الجنوب الشرقي فيها ديار بني قريظة، وهم إلى الآن على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعهد لا يقضي فقط بعدم معاونة قريش ولا إجارتها، ولكن يقضي أيضاً بالدفاع المشترك عن المدينة المنورة إذا داهمها عدو، وأياً كان هذا العدو، ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ليؤكد العهد معهم، فأكدوا العهد، وتأكيدهم هذا مهم جداً؛ لأن جيوش المشركين لو دخلت من عندهم فهذا معناه إنهاء الوجود الإسلامي تماماً، واستئصال شعب المسلمين بكامله.

إذاً: منطقة الشمال مفتوحة؛ ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بحفر الخندق في شمال المدينة المنورة؛ ليغلق المنطقة ما بين الحرة الشرقية والغربية، وإذا كان القرار سهلاً وسريعاً فالتنفيذ قد يكون مستحيلاً ليس صعباً فقط، فمشروع حفر الخندق مشروع لا يتخيله عقل بأي حال من الأحوال، مشروع جبار بمعنى الكلمة، الخندق عمقه خمسة أمتار، وعرضه خمسة أمتار في أقل التقديرات، وبعض التقديرات تصل إلى عشرة أو اثني عشر متراً، وطوله اثنا عشر كيلو متر، وهذه المعلومات أخذت من الموقع الرسمي للمدينة المنورة على الإنترنت (موقع مساحة المدينة المنورة)، هذه الأبعاد معناها: أن الأرض التي يراد حفرها لا بد أن يكون حجمها ثلاثمائة ألف متر مكعب، وهذا رقم مهول جداً، ولقد جلست مع أكثر من مهندس لنتصور الجهد الذي بُذل في هذا، ففي هذا الوقت قدرة العامل على الحفر في اليوم الواحد لا يتجاوز خمسة أمتار مكعبة ويكون الحفر في أرض رملية سهلة وبعمق متر واحد فقط، وكلما كان العمق أكثر قلّت قدرة العامل على الحفر؛ لأن عليه أن يحفر في أرض أصعب، ويخرج التراب وينقله بعيداً، ثم يرجع فينزل مرة أخرى، أو تكون هناك فرق كثيرة لحمل ونقل الأتربة الهائلة التي تخرج من الحجم الضخم الذي سنحفره.

كان تعداد الصحابة جميعهم في المدينة (3000) ولم يقم كلهم بالحفر، فهناك من هم مشغولون بالحراسة، وهناك من يخدم في أمور الطعام والشراب، ومنهم من يكون مريضاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لو أن كلهم شاركوا في الحفر فإنه من المستحيل أن تنتهي عملية الحفر للخندق في هذا الزمن القياسي، كان حفر الخندق في أسبوعين فقط، فلو أن كل صحابي سوف يشتغل (16) ساعة يومياً فإنه سوف يضاعف الشغل أيضاً، وهذا صعب جداً، وكل هذا مع افتراض أن الأرض رملية سهلة، فلو تخيلت أن الأرض صخرية فإنها تحتاج في زمننا هذا إلى معدات خاصة وأجهزة حفر متطورة، عندئذ ستعرف كيف كان هذا العمل جباراً، لو أضفت إلى هذا أننا نحفر لعمق خمسة أمتار وليس متراً واحداً، ولو أضفت إلى هذا أن نقل كميات التراب إلى أماكن بعيدة عن الحفر هي أيضاً مسئولية هؤلاء (3000) صحابي الذين يقومون بالحفر، ولو أضفت أن الخندق متسع في بعض الأماكن إلى أكثر من خمسة أمتار، ولو أضفت نقص خبرة المسلمين في هذا العمل، فهم أول مرة في حياتهم يحفرون خندقاً، ولو أضفت كثرة الأعداد العاملة وتوزيعها على (12) كيلو متر، كيف يمكن أن تدير فرقاً بهذه الضخامة؟ وإذا أضفت إلى كل ذلك أن هؤلاء يعملون في ظروف شديدة الصعوبة من جوع وبرد، وخوف من قدوم الأعداء في أي لحظة.

لو أضفت كل هذا فإنك ستعرف أن هذا عمل جبار، وهذا العمل في زماننا يحتاج لكي يتم في أسبوعين إلى أكثر من مائتي لودر، وشواكيش إلكترونية، وعشرات السيارات للنقل كي تأخذ الأتربة، وكذلك إدارة هندسية كاملة، ويحتاج إلى مجموعة من الاستشاريين المتخصصين في الحفر.

وإذا أردت أن تعرف صعوبة هذا المشروع قارنه مثلاً بمشروع الأنفاق، وانظر كيف كان صعباً، وقد أخذنا فيه عشر سنين، وتعطلت الدنيا في كل مكان.

إذاً: مشروع الخندق كان مشروعاً خرافياً، فإن أحد المهندسين كنت أحسب معه حجم هذا المشروع، فرمى القلم من يده وقال لي: هذا غير ممكن يا دكتور! الموضوع هذا ليس بإمكانيات البشر، قلت له: صدقت، هناك أشياء لا تستطيع أن تفهمها إلا أن تكون مؤمناً حقاً بالله عز وجل، تتذكرون غزوة بدر، وتتذكرون كيف تم النصر؟ وتتذكرون جندي البركة، وهو أن يضخم الله عز وجل من نتيجة جهد يبدو في ظاهره بسيطاً فينتج نتائج عجيبة.

البشر في العادة لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يعملوا هذا العمل، لكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يجعلهم يستطيعون لاستطاعوا، سواء بأيديهم أو كان معهم ملائكة أو جنود لا نراها، لكن هذا واقع رأيناه ونراه، وسنظل نراه إلى يوم القيامة ما دام أن هناك من يستحق نصر الله سبحانه وتعالى.

وحُفر الخندق العملاق وتم المشروع الجبار.

نجح مشروع حفر الخندق تماماً وكان عملاً جماعياً ضخماً، وهناك ضوابط جعلته ينجح، ما الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكي يعطي المشروع هذا أكبر فرص النجاح؟

أدار الرسول عليه الصلاة والسلام المشروع بكفاءة غير متخيلة، وضع لنا قواعد ناجحة للأعمال الجماعية، وأي عمل جماعي في أي مشروع كبير، حتى ولو كانوا مجموعة من المشركين إذا أخذوا بهذه القواعد فإنه سوف يتم النجاح، فما بالكم لو كانوا مؤمنين، والله سبحانه وتعالى يؤيدهم؟!

ما هي ضوابط العمل الجماعي الذي علمنا إياها الرسول عليه الصلاة والسلام؟

الضوابط كثيرة جداً، لكن لنأخذ منها أربعة ضوابط فقط.

مشاركة القائد لجنوده

أولاً: مشاركة القائد لجنوده، مشاركة الحاكم لأتباعه، مشاركة صاحب العمل لعماله، فلو شارك القائد جنوده فإنهم لا شك يخرجون أقصى طاقاتهم، وليس نتيجة خوفهم من القائد لا، وإنما نتيجة شعورهم بقضية مشتركة مهمة، نتيجة إحساسهم أن الموضوع هذا موضوعهم جميعاً.

فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المطاع والحاكم لدولة المدينة والقائد الأعلى لجيش المسلمين ينزل بنفسه ليحفر مع المسلمين، لا يشرف على الحفر فقط! وإنما يقوم بالحفر بنفسه، فيضرب بالمعول بنفسه، ويأخذ التراب بنفسه، وكشف عن بطنه حتى لا تعوقه الملابس عن الحركة، والصحابة لا يرون بطنه من التراب الذي غطاه.

وهذه هي ضوابط نجاح العمل الجماعي، مع أن الجيش جميعه في جوع ولا يوجد أكل، يقول أنس رضي الله عنه أيام الأحزاب: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير -و أنس في ذلك الوقت كان صغيراً فتخيل حجم كفه- قال: فيُصنع لهم بإهالة سنخة -والإهالة: هي الدهن، سنخة يعني: تغير لونها وطعمها من القدم- توضع بين يدي القوم والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. هو هذا أكلهم.

فإن قيل: ما الذي يأكله قائدهم؟!

قال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع صلى الله عليه وسلم عن حجرين).

إذاً: هنا القائد أكثر جوعاً من الشعب.

فهذا شعب يمكن أن ينجح في أعماله الجماعية، وكثيراً ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نسمع خطباً رنانة تدعو إلى الكفاح وإلى العمل والجهد وشد الحزام والانتماء، ثم لا نجد ممن يلقي الخطب الرنانة مساعدة في حفر الخندق، في الليل وحده شعب كادح وقواده مستريحون، شعب بائس وقواده مترفون، شعب جائع وقواده مشبعون، فكيف يمكن أن ينجح العمل في وضع مثل هذا؟

كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنده طعام قليل من اللحم والخبز، ولا يكفي إلا رجلين أو ثلاثة.

يقول جابر رضي الله عنه: رأيت في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً -جوعاً شديداً- وأراد أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه إلى ضيافته، وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك أكلاً، ولم يذهب معه ليأكل سراً، مع أن هذه أكلة اعتزم عليها، وليس من الحرام أن يأكل منها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الخندق، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الخندق! أخوكم جابر أعد لكم وليمة، وارتبك جابر ، فذهب إلى امرأته يقول لها: الفضيحة.. الفضيحة، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق، وكان تعدادهم ألفاً، فكيف سيكون موقف جابر وموقف امرأته؟ هناك موقف لطيف لامرأته، قالت لزوجها جابر : هل أعلمته أن الطعام لا يكفي إلا رجلاً أو رجلين؟ فقال: نعم. قالت: الله ورسوله أعلم. قالت ذلك بيقين.

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألف رجل، وبمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم أخرج لهم الطعام من البرمة والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعاً، ثم أكل منه هو صلى الله عليه وسلم، أكل صلى الله عليه وسلم آخر الناس؛ لأنه لا يرى نفسه وإنما يرى شعبه فقط.

إذاً: فهذا من أهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى، سواء كان العمل الجماعي يتكون من ثلاثة أو من عشرة أو من ألف أو من أمة كاملة؛ لا بد من مشاركة القائد لجنوده أولاً.

توزيع الأعمال على جميع الأفراد

ثانياً: توزيع الأعمال على الجميع، كثير من أعمالنا تفشل؛ لأن ثلاثة أو أربعة يأخذون العمل كله، وباقي الصف مستريح لا يشتغل، ونحن نظن أن الدنيا فيها إنجاز..! مع أن هذا العمل أقل من (10%) من الذي ممكن أن نعمله لو اشتغلنا جميعاً.

وزع الرسول صلى الله عليه وسلم الأعمال على الجميع، فالجميع يعملون، وليس هناك أحد أفضل من الآخر، ولا يوجد بينهم كسلان أو متهاون، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل عشرة من الصحابة مسافة أربعين ذراعاً، وعندما ينتهون منها يأخذون غيرها وغيرها .. وهكذا.

الجمع في الإدارة بين الرفق والحزم

ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق، ليس هناك من يمشي من غير إذن، والإذن ليس تمثيلاً وليس شيئاً روتينياً لا معنى له، بل إن القائد للعمل الجماعي إن لم يقبل الإذن عندها لا يوجد إذن، ولو أن هذه الطاعة ليست واضحة في ذهن العامل، عندها لا يوجد معنى للعمل الجماعي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي قوله تبارك وتعالى يوجه التعليمات لنا ولنبينا عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه أو ترى أن الظرف الذي يواجهه قهري فائذن له؛ لأن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، هذا طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعسف في استخدام هذا الأمر، بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفاً قهرياً طارئاً.

وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقومون به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم معناه الغلظة والجفاء والقسوة، وإنما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام كيف يمكن أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام مع اللطف في المعاملة والرقة في الحديث، بل وبالدعابة والمرح والترفيه!

عند لحظة حفرهم للخندق، واشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في نقل التراب، كان ينشد معهم شعر ابن رواحة رضي الله عنه: يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

وكان ينشده بنوع من الغناء، يمد صوته صلى الله عليه وسلم في آخره، ويراهم النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون في البرد والجوع ويقول: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).

وفي رواية: (فاغفر للمهاجرين والأنصار)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أن يقول الشعر، فيرد عليه الصحابة ويقولون:

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا

نعم. هناك حزم ونظام وترتيب وخطة، لكن في جو جميل من الألفة والمحبة والسعادة الحقيقية.

كيف لهذا العمل أن يفشل في هذا الجو؟ لا يمكن.

إذاً: قلنا ثلاث ضوابط مهمة للعمل الجماعي:

أولاً: مشاركة القائد لجنوده.

ثانياً: توزيع العمل على الجميع.

ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق.

رفع الهمة ببث الأمل في النفوس

هناك ضابط رابع مهم يجعلك تشعر بأن هذا العمل يمكن أن يكون فرصة النجاح فيه كبيرة، هذا الضابط: رفع الهمة ببث الأمل في النفوس.

لا أنسى أستاذاً كان يختبرني في الكلية امتحاناً شفوياً، ما إن دخلت عليه حتى قال لي: أسألك سؤالاً وأنا متأكد أنك لا تستطيع أن تجيب عنه! لماذا هذا الإحباط؟ لماذا تقتل في الذي أمامك كل أمل في النجاح؟

إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً في كل المواقف الصعبة، وهذا هو منهج حياته صلى الله عليه وسلم، والذي عمله أيام حفر الخندق كان فوق التخيل، ولم يقل لهم: هناك أمل في حفر الخندق، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على الأحزاب الآتية، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على العرب، لا، وإنما كان يرفع همتهم لما هو أعلى من كل أحلامهم، فهو يزرع بداخلهم أملاً في سيادة العالم، وليس في سيادة المدينة أو الجزيرة العربية فقط.

قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة: (باسم الله، الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة) يبشر بفتح الشام في لحظة حفر الخندق، ثم ضرب الثانية فقطع جزءاً آخر من الصخرة، فقال: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن) يقول لهم: أنا أرى قصر الحكم الفارسي ملكاً للمسلمين، ثم ضرب الثالثة فشق بقية الحجر وقال: (الله أكبر؛ أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني).

عظّم من أحلامك، كبّر أهدافك، ليست قضيتنا هي الحصار، ولا قضيتنا هي الدولة الصغيرة التي نحن نعيش فيها، لا، قضيتنا هداية العالمين، قضيتنا حمل هذه الرسالة إلى كل بقاع الأرض، ويبشرهم أن الكلام هذا ليس بأوهام، وإنما سوف يحصل بإذن الله، وسيصل الإسلام إلى فارس والروم واليمن، وسيصل إلى كل بقعة في العالم، قديماً وحديثاً؛ لأن هذا وعد ربنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد؛ ولهذا نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق، ولو كان عندهم يأس وإحباط ما كانوا ليستطيعوا أن يحفروا (20) أو (30) متراً مكعباً فقط، فما بالك في ثلاثمائة ألف متر مكعب. وحُفر الخندق ونجح المشروع، ومع ذلك لم ينته الامتحان بعد، لا زلنا سندخل في مرحلة الزلزال لنتخلص من كل المنافقين.

أولاً: مشاركة القائد لجنوده، مشاركة الحاكم لأتباعه، مشاركة صاحب العمل لعماله، فلو شارك القائد جنوده فإنهم لا شك يخرجون أقصى طاقاتهم، وليس نتيجة خوفهم من القائد لا، وإنما نتيجة شعورهم بقضية مشتركة مهمة، نتيجة إحساسهم أن الموضوع هذا موضوعهم جميعاً.

فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المطاع والحاكم لدولة المدينة والقائد الأعلى لجيش المسلمين ينزل بنفسه ليحفر مع المسلمين، لا يشرف على الحفر فقط! وإنما يقوم بالحفر بنفسه، فيضرب بالمعول بنفسه، ويأخذ التراب بنفسه، وكشف عن بطنه حتى لا تعوقه الملابس عن الحركة، والصحابة لا يرون بطنه من التراب الذي غطاه.

وهذه هي ضوابط نجاح العمل الجماعي، مع أن الجيش جميعه في جوع ولا يوجد أكل، يقول أنس رضي الله عنه أيام الأحزاب: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير -و أنس في ذلك الوقت كان صغيراً فتخيل حجم كفه- قال: فيُصنع لهم بإهالة سنخة -والإهالة: هي الدهن، سنخة يعني: تغير لونها وطعمها من القدم- توضع بين يدي القوم والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. هو هذا أكلهم.

فإن قيل: ما الذي يأكله قائدهم؟!

قال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع صلى الله عليه وسلم عن حجرين).

إذاً: هنا القائد أكثر جوعاً من الشعب.

فهذا شعب يمكن أن ينجح في أعماله الجماعية، وكثيراً ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نسمع خطباً رنانة تدعو إلى الكفاح وإلى العمل والجهد وشد الحزام والانتماء، ثم لا نجد ممن يلقي الخطب الرنانة مساعدة في حفر الخندق، في الليل وحده شعب كادح وقواده مستريحون، شعب بائس وقواده مترفون، شعب جائع وقواده مشبعون، فكيف يمكن أن ينجح العمل في وضع مثل هذا؟

كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنده طعام قليل من اللحم والخبز، ولا يكفي إلا رجلين أو ثلاثة.

يقول جابر رضي الله عنه: رأيت في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً -جوعاً شديداً- وأراد أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه إلى ضيافته، وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك أكلاً، ولم يذهب معه ليأكل سراً، مع أن هذه أكلة اعتزم عليها، وليس من الحرام أن يأكل منها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الخندق، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الخندق! أخوكم جابر أعد لكم وليمة، وارتبك جابر ، فذهب إلى امرأته يقول لها: الفضيحة.. الفضيحة، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق، وكان تعدادهم ألفاً، فكيف سيكون موقف جابر وموقف امرأته؟ هناك موقف لطيف لامرأته، قالت لزوجها جابر : هل أعلمته أن الطعام لا يكفي إلا رجلاً أو رجلين؟ فقال: نعم. قالت: الله ورسوله أعلم. قالت ذلك بيقين.

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألف رجل، وبمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم أخرج لهم الطعام من البرمة والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعاً، ثم أكل منه هو صلى الله عليه وسلم، أكل صلى الله عليه وسلم آخر الناس؛ لأنه لا يرى نفسه وإنما يرى شعبه فقط.

إذاً: فهذا من أهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى، سواء كان العمل الجماعي يتكون من ثلاثة أو من عشرة أو من ألف أو من أمة كاملة؛ لا بد من مشاركة القائد لجنوده أولاً.

ثانياً: توزيع الأعمال على الجميع، كثير من أعمالنا تفشل؛ لأن ثلاثة أو أربعة يأخذون العمل كله، وباقي الصف مستريح لا يشتغل، ونحن نظن أن الدنيا فيها إنجاز..! مع أن هذا العمل أقل من (10%) من الذي ممكن أن نعمله لو اشتغلنا جميعاً.

وزع الرسول صلى الله عليه وسلم الأعمال على الجميع، فالجميع يعملون، وليس هناك أحد أفضل من الآخر، ولا يوجد بينهم كسلان أو متهاون، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل عشرة من الصحابة مسافة أربعين ذراعاً، وعندما ينتهون منها يأخذون غيرها وغيرها .. وهكذا.

ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق، ليس هناك من يمشي من غير إذن، والإذن ليس تمثيلاً وليس شيئاً روتينياً لا معنى له، بل إن القائد للعمل الجماعي إن لم يقبل الإذن عندها لا يوجد إذن، ولو أن هذه الطاعة ليست واضحة في ذهن العامل، عندها لا يوجد معنى للعمل الجماعي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي قوله تبارك وتعالى يوجه التعليمات لنا ولنبينا عليه الصلاة والسلام: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه أو ترى أن الظرف الذي يواجهه قهري فائذن له؛ لأن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، هذا طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعسف في استخدام هذا الأمر، بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفاً قهرياً طارئاً.

وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقومون به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم معناه الغلظة والجفاء والقسوة، وإنما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام كيف يمكن أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام مع اللطف في المعاملة والرقة في الحديث، بل وبالدعابة والمرح والترفيه!

عند لحظة حفرهم للخندق، واشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في نقل التراب، كان ينشد معهم شعر ابن رواحة رضي الله عنه: يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

وكان ينشده بنوع من الغناء، يمد صوته صلى الله عليه وسلم في آخره، ويراهم النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون في البرد والجوع ويقول: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).

وفي رواية: (فاغفر للمهاجرين والأنصار)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أن يقول الشعر، فيرد عليه الصحابة ويقولون:

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا

نعم. هناك حزم ونظام وترتيب وخطة، لكن في جو جميل من الألفة والمحبة والسعادة الحقيقية.

كيف لهذا العمل أن يفشل في هذا الجو؟ لا يمكن.

إذاً: قلنا ثلاث ضوابط مهمة للعمل الجماعي:

أولاً: مشاركة القائد لجنوده.

ثانياً: توزيع العمل على الجميع.

ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق.

هناك ضابط رابع مهم يجعلك تشعر بأن هذا العمل يمكن أن يكون فرصة النجاح فيه كبيرة، هذا الضابط: رفع الهمة ببث الأمل في النفوس.

لا أنسى أستاذاً كان يختبرني في الكلية امتحاناً شفوياً، ما إن دخلت عليه حتى قال لي: أسألك سؤالاً وأنا متأكد أنك لا تستطيع أن تجيب عنه! لماذا هذا الإحباط؟ لماذا تقتل في الذي أمامك كل أمل في النجاح؟

إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً في كل المواقف الصعبة، وهذا هو منهج حياته صلى الله عليه وسلم، والذي عمله أيام حفر الخندق كان فوق التخيل، ولم يقل لهم: هناك أمل في حفر الخندق، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على الأحزاب الآتية، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على العرب، لا، وإنما كان يرفع همتهم لما هو أعلى من كل أحلامهم، فهو يزرع بداخلهم أملاً في سيادة العالم، وليس في سيادة المدينة أو الجزيرة العربية فقط.

قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة: (باسم الله، الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة) يبشر بفتح الشام في لحظة حفر الخندق، ثم ضرب الثانية فقطع جزءاً آخر من الصخرة، فقال: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن) يقول لهم: أنا أرى قصر الحكم الفارسي ملكاً للمسلمين، ثم ضرب الثالثة فشق بقية الحجر وقال: (الله أكبر؛ أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني).

عظّم من أحلامك، كبّر أهدافك، ليست قضيتنا هي الحصار، ولا قضيتنا هي الدولة الصغيرة التي نحن نعيش فيها، لا، قضيتنا هداية العالمين، قضيتنا حمل هذه الرسالة إلى كل بقاع الأرض، ويبشرهم أن الكلام هذا ليس بأوهام، وإنما سوف يحصل بإذن الله، وسيصل الإسلام إلى فارس والروم واليمن، وسيصل إلى كل بقعة في العالم، قديماً وحديثاً؛ لأن هذا وعد ربنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد؛ ولهذا نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق، ولو كان عندهم يأس وإحباط ما كانوا ليستطيعوا أن يحفروا (20) أو (30) متراً مكعباً فقط، فما بالك في ثلاثمائة ألف متر مكعب. وحُفر الخندق ونجح المشروع، ومع ذلك لم ينته الامتحان بعد، لا زلنا سندخل في مرحلة الزلزال لنتخلص من كل المنافقين.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4059 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3969 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3934 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3780 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3715 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3647 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3636 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3569 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3452 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3399 استماع