سلسلة السيرة النبوية يوم أحد


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.

وقد تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات غزوة أحد، تحدثنا عن الإعداد الجيد لجيش الكفار، والذي بلغ تعداده ثلاثة آلاف مقاتل بعدة جيدة للحرب.

وكذلك تحدثنا عن الإعداد الجيد للجيش المسلم، وكما ذكرنا في الدرس السابق أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج بألف من رجال المسلمين، ولكن انسحب منهم قبل أن يدخل أرض المعركة (300) من المنافقين؛ فأصبح الجيش حوالي (700) من المسلمين.

وذكرنا أيضاً أنه إلى جانب الإعداد الجيد توافرت صفات الجيش المنصور في الجيش المسلم الخارج إلى أحد، من إيمان بالله عز وجل، وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن إيمان باليوم الآخر، وطلب الجنة والرغبة في الموت في سبيل الله، ومن أخوة وشورى، ومشاركة القائد لجنده .. وغير ذلك من صفات الجيش المنصور التي تحدثنا عنها بالتفصيل عند حديثنا عن غزوة بدر.

دخل الرسول عليه الصلاة والسلام أرض أحد، واحتل مواقع متميزة فيها، ووضع فرقة من الرماة على الثغرة الوحيدة الموجودة في أرض المعركة، وأكد عليهم مرة وثانية وثالثة عدم التخلي عن مواقعهم مهما كانت الظروف، قال صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن جبير قائد المجموعة: (انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك، ثم قال للرماة: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم) فكانت الأوامر في منتهى الوضوح، لا تفتح أي باب للاجتهاد عند الرماة، بل كلها تحمل معنى واحداً وهو الثبات فوق جبل الرماة.

التحام الجيشين

بدأ القتال يوم السبت السابع من شوال سنة ثلاث للهجرة بعد حوالي سنة من غزوة بدر، بدأ اللقاء في منتهى الشراسة، وأول لقاء دار كان حول راية الكفار، وكان يحملها فارس من بني عبد الدار اسمه طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وكان من أكبر وأعظم وأشرس فرسان قريش، كانوا يلقبونه بكبش الكتيبة، فكان طلحة بن أبي طلحة أول من طلب القتال من قريش.

وخرج بهيئته المرعبة وكان راكباً جملاً، فأحجم المسلمون عن مبارزته؛ لأن شكله كان مرعباً، فتقدم الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه وانطلق إليه، وقفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه من فوق الجمل إلى الأرض، وبرك فوقه وقتله رضي الله عنه وأرضاه.

فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام الزبير بن العوام رضي الله عنه يقتل كبش الكتيبة طلحة بن أبي طلحة قال: (إن لكل نبي حواري وحواريي الزبير) رضي الله عنه وأرضاه، واحتدم اللقاء بسرعة، واشتعلت أرض المعركة.

وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة وحمل الراية وطلب القتال، فخرج له حمزة رضي الله عنه وأرضاه وقتله.

ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعد وقتله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وهكذا خرج مسافع بن طلحة .

ثم خرج كلاب بن طلحة .

ثم الجلاس بن طلحة ، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار، هؤلاء الستة من بيت واحد من بيت أبي طلحة .

كانت مأساة بالنسبة لبني عبد الدار، ومع ذلك خرج منهم واحد اسمه أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب .

ثم خرج شريح بن خالد فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان .

ثم خرج واحد اسمه عمرو بن عبد مناف فقتله قزمان أيضاً.

ثم خرج ولد لـشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضاً، فقد قاتل قزمان قتالاً شديداً في يوم أحد.

فهؤلاء عشرة قد قتلوا كلهم من بني عبد الدار، وكان كل واحد منهم يسلم الراية للآخر؛ لأنهم كانوا قد عاهدوا أبا سفيان ألا يتخلوا أبداً عن الراية، وصدقوا في ذلك.

ثم خرج مولى لبني عبد الدار كان اسمه صواب من الحبشة قاتل قتالاً أشد من السابقين جميعاً حتى قطعت يده الأولى ثم الثانية، ثم قطع رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط، وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة، ولم يتسلمها أحد بعد ذلك.

كان اللقاء بأعلى مستوى، فالأرض كلها هجوم كاسح شامل، وكان شعار المسلمين في هذا اليوم: أمت أمت، وكانت البداية في صالح المسلمين، فقد قتلوا أحد عشر قتيلاً من غير أن يقتل واحد من المسلمين، فقد كان انتصاراً ضخماً ضعفت به معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ المسلمون يقتلون في الكفار ويسيطرون على الموقف تماماً، وقاتل جميع المسلمين بمنتهى الضراوة والقوة.

بلاء وقتال أبي دجانة وحمزة وغيرهما

كان من أبرز المقاتلين المسلمين في هذه اللحظات أبو دجانة وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فهذان قد فعلا الأفاعيل بجيش قريش.

أخذ أبو دجانة السيف الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم، وربط على رأسه عصابة حمراء، وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فجال في الأرض وقتل الكثير من المشركين.

وهناك موقف للزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان في نفسه غاضباً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطى السيف لـأبي دجانة ولم يعطه هو، فقال الزبير في نفسه: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله، فأعطاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع -أي: سأرى أبا دجانة ماذا سيفعل في هذه الموقعة حتى يعطى هذا السيف- فاتبعته فرأيته وهو يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل

ألا أقوم الدهر في الكيول.

والكيول: مؤخرة الصفوف، يعني: أقاتل في مقدمة الصفوف.

أضرب بسيف الله والرسول

قال الزبير بن العوام : فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، وكان في المشركين رجل شديد جداً يقتل كل جريح مسلم فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة فاجتمعا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته -بدرعه- فعضت بسيفه فضربه أبو دجانة فقتله.

وأخذ أبو دجانة يخترق صفوف الكفار حتى وصل إلى آخره، وكان في آخر الجيش النساء، فرفع سيفه ليضرب إنساناً. يقول أبو دجانة : رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة -وهي هند بنت عتبة - فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. هذا هو أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه.

وقاتل حمزة بن عبد المطلب أيضاً كقتال أبي دجانة رضي الله عنهما، قاتل قتالاً شديداً في كل الميادين، ولم يقف أبداً في وجهه أحد من المشركين، لكن وقف في ظهره أحدهم، وهو وحشي بن حرب أحد الغلمان في جيش المشركين، وله قصة، يقول وحشي بن حرب : كنت غلاماً لـجبير بن مطعم ، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير : إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق، المسألة مسألة ثأر تماماً، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهد الناس هداً ما يقوم له شيء، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته -يعني: في أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب -يعني: بعد أن ضرب حمزة بالحربة ذهب ليقتل وحشياً - وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيها ولم يكن لي بعده حاجة وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت.

لقد كان قتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم خسارة فادحة خسرها المسلمون، ومع قتل هذا الأسد العظيم رضي الله عنه إلا أن المسلمين ظلوا مسيطرين تماماً على الموقف في أرض أحد، فقد قاتل عامة المسلمين يومئذ قتالاً شرساً شديداً عظيماً، قاتل أبو بكر وقاتل عمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ .. كل المسلمين أبلوا بلاءً حسناً في ذلك اليوم.

وكان لـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه -وكان يومئذ مشركاً- نظرة عسكرية ثاقبة، رأى الثغرة التي من الممكن أن يلتف على المسلمين عن طريقها، فجاء خالد بن الوليد بفرقة من الفرسان والتف حول جبل الرماة، لكن فوجئ بسيل من السهام من كتيبة الرماة من فوق الجبل، فردت خالد بن الوليد ولم يستطع مع كل ذكائه وعبقريته وحنكته العسكرية أن يتجاوز هذه الكتيبة ويأتي الجيش المسلم من الخلف، وقرر خالد المحاولة مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة يفشل في تجاوز كتيبة الرماة التي قامت حتى هذه اللحظة بمهمتها على أكمل واجب.

انتصار المسلمين في غزوة أحد في أول الأمر

بدأت الهزيمة تدب في الجيش المشرك ثلاثة آلاف مشرك، كأنهم يقابلون ثلاثين ألف مسلم، مع أن المسلمين كلهم سبعمائة، وبدأ المشركون يفكرون في الهروب، وبدءوا فعلاً في الهروب، وعادوا يتراجعون إلى الوراء شيئاً فشيئاً، ثم بدءوا يولون وجوههم قبل مكة، حتى إنهم تركوا النساء وراءهم.

يقول الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير. يعني: انتهت الموقعة ومن الممكن أخذ النساء سبياً.

فكان نصراً عظيماً للجيش المسلم، لا يقل هذا النصر روعة عن نصر بدر، فالله سبحانه وتعالى قال: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] تحسونهم أي: تستأصلونهم، فالله سبحانه وتعالى وعد المسلمين إن كانوا صابرين ومتبعين لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم النصر في أحد وفي غيرها، وقد بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قبل الخروج إلى أحد، والمسلمون إلى هذه اللحظة ملتزمون تماماً بما قال لهم صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه يوم بدر؛ لذلك تحقق النصر حتى هذه اللحظة.

إذا وقفنا وحللنا فإننا سنجد أن هذا الجيش إلى الآن مؤمن بالله عز وجل، ومؤمن باليوم الآخر يطلب الجنة، والشورى طبقها، والإعداد الجيد طبقه، والقائد في هذا الجيش يعيش مع شعبه ويشترك معهم في كل صغيرة وكبيرة، وأخوة في الله واضحة في أثناء القتال، والأمل في قلوبهم، واليقين في نصر الله عز وجل يملأ نفوسهم، والأمر موسد إلى أهله، والصفات العشر التي تكلمنا عنها في غزوة بدر كلها متحققة إلى هذا الوقت في جيش أحد، فكان النصر للمسلمين.

انقلاب الموازين في آخر معركة أحد لصالح المشركين

بعد هذا الانتصار العظيم للمسلمين، وبعد هذا الهروب الكبير لجيش المشركين، تخلى بعض المسلمين عن صفة واحدة من هذه الصفات العشر، فتغير الموقف تماماً، ففي أثناء هروب المشركين من أرض المعركة متجهين إلى مكة ألقوا كل ما معهم من الأمتعة والممتلكات والأثقال والأحمال، ألقى المشركون الدنيا خلفهم؛ ليتخففوا، وليستطيعوا الهرب، ورأى الرماة المسلمون من فوق الجبل الدنيا التي ألقاها المشركون خلفهم، فأخذ الرماة قراراً عجيباً، أخذوا القرار بالنزول لجمع دنيا المشركين.

تخيل! المخالفة الواضحة الصريحة لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، النزول من أجل جمع دنيا المشركين، قالوا: الغنيمة الغنيمة! الغنيمة الغنيمة! فهذه الغنيمة وهذه الدنيا وهذه الأموال أعمت أبصارهم تماماً عن تذكر ما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم، لكن القائد عبد الله بن جبير وقف لهم وذكرهم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: الغنيمة الغنيمة! فكانت مخالفة متعمدة لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكلام القائد المباشر عبد الله بن جبير .

وهكذا نزل ثمانون في المائة من الرماة، حيث نزل أربعون من الرماة من أصل خمسين؛ ليجمعوا الغنيمة مع المسلمين، ورأى خالد بن الوليد الثغرة، وكان قائداً عسكرياً محنكاً، وأتى بفرقته بسرعة والتف من حول جبل الرماة، وحاول عبد الله بن جبير رضي الله عنه ومن تبقى معه من الرماة أن يمنعوا خالد بن الوليد من الدخول على الجيش الإسلامي من الخلف، لكنهم فشلوا، فحاول عبد الله بن جبير قتالهم إلا أن مجموعة من فرسان المشركين قتلوه ثم أبادوا بقية الرماة.

والتف خالد بن الوليد من وراء الجيش الإسلامي وصاح صيحة عالية جداً سمعها المشركون الذين يفرون، أدركوا منها أن خالداً التف حول الجيش الإسلامي فعادوا للقتال من جديد، وحصر المسلمون بين خالد بن الوليد من الخلف والمشركين من الأمام، وهكذا وضع المسلمون بين فكي كماشة، وأسرعت امرأة من المشركين كان اسمها عمرة بنت علقمة ، ورفعت اللواء الساقط على الأرض، واهتاج المشركون، وتحمسوا حماساً كبيراً في الهجوم على المسلمين، وقوتهم ذكريات بدر وذكريات الهزيمة الأولى في أحد، وبدءوا يضغطون على المسلمين من الناحيتين.

التفاف المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيل الصحابة أروع البطولات في الدفاع عنه

كان الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر الجيش المسلم ينظم الصفوف، ولما التف خالد بن الوليد حول الجيش الإسلامي، كان أول فرقة من المسلمين قابلها هي الفرقة التي فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ير خالد بن الوليد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن ما هي إلا دقائق وسيظهر؛ لأنه آخر الصفوف، فلابد أن يختار صلى الله عليه وسلم أحد اختيارين: إما أنه يهرب بالتسعة إلى أي مكان في أرض المعركة حتى يستطيع أن يقاوم من جديد، وإما أن ينادي الجيش حتى يجتمع من جديد، ويبدأ في محاولة لاستعادة الموقف على أرض أحد.

لكن لو نادى صلى الله عليه وسلم الناس فمن المحتمل أن المشركين الذين باغتوا المسلمين من الخلف يسمعون صوته، ولو سمعوا صوته لأحاطوا به عليه الصلاة والسلام وقتلوه، ومع ذلك في شجاعة نادرة اختار الرسول عليه الصلاة والسلام الحال الثاني، ونادى بأعلى صوته لاستعادة الموقف من جديد قال: (إلي عباد الله! إلي عباد الله! أنا رسول الله) وهكذا بدأ يعلي صوته؛ ليسمع المسلمون.

صار المسلمون في حالة اضطراب شديدة جداً، فذاك ينظر قدامه، وذاك ينظر وراءه، والمشركون في حالة نشاط عجيب، وصار الموقف مأساوياً، سمع خالد بن الوليد الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي، فانطلق إلى المنطقة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرها، وبدأت الفرقة التي حول الرسول عليه الصلاة والسلام تقاتل قتالاً شديداً، تسعة ضد فرقة كاملة من الفرسان، والرسول صلى الله عليه وسلم يشجعهم ويقول: (من يردهم عنا وله الجنة -أو يقول-: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة).

فتقدم أنصاري وقاتل قتالاً شديداً حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه، ثم تقدم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس، ثم تقدم سابعهم عمارة بن يزيد بن السكن رضي الله عنه وأرضاه، وكل هؤلاء السبعة من الأنصار، فقاتل عمارة قتالاً شديداً حتى أصيب رضي الله عنه وأرضاه، فسقط على الأرض، واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع رأسه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد وخده ملتصق بقدم الحبيب صلى الله عليه وسلم.

وتأثر الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف، قال: (ما أنصفنا أصحابنا)، تقدم الأنصار الواحد تلو الآخر، ولم يتقدم طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ، فأثار هذا الموقف حمية طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فقاما يقاتلان قتالاً شديداً، لكن ماذا يعمل اثنان وسط هذه المجموعة الضخمة من المشركين؟

وتقدم من الكفار عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص . تخيل! سعد بن أبي وقاص يدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخوه عتبة يقذف بالحجارة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفجرت الدماء من رأسه صلى الله عليه وسلم، وجاء عبد الله بن شهاب الزهري أحد المشركين فشجه شجة منكرة في رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إليه رجل اسمه عبد الله بن قمئة وضربه بالسيف ضربة شديدة على كتفه صلى الله عليه وسلم، وظل صلى الله عليه وسلم يشتكي منها شهراً كاملاً بعد ذلك، ثم ضرب وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخلت حلقتان من حلقات المغفر الذي كان فوق رأس الحبيب صلى الله عليه وسلم في وجنته، وابن قمئة يقول: (خذها وأنا ابن قمئة ، فقال صلى الله عليه وسلم: أقمأك الله) أي: أهلكك الله، واستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعد غزوة أحد بقليل وقع من فوق جبل في بلده وقتل.

وهكذا تفجرت الدماء من رأسه ومن جسده صلى الله عليه وسلم، وهو يمسح الدم من على وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟ فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]).

وفي هذا الموقف قام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وطلحة بن عبيد الله بعمل لا يستطيع أن يقوم به إلا جيش كامل، فقد كان سعد بن أبي وقاص يرمي بسهامه المشركين، مجموعة ضخمة من المشركين حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يرد سعد بن أبي وقاص بسهامه هذه المجموعة الضخمة، وأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء سعد بن أبي وقاص حتى قال له: (ارم سعد فداك أبي وأمي)، وهكذا جمع له صلى الله عليه وسلم أبويه يفديه بهما، فكان ذلك فخراً له رضي الله عنه وأرضاه.

وحارب طلحة بن عبيد الله حرباً ضروساً في ذلك اليوم، وقاتل من كل مكان حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت الجروح التي أصابت جسده إلى تسعة وثلاثين جرحاً، تخيل أن واحداً يتقطع بالسيف تسعةً وثلاثين جرحاً ولا زال يقاتل في سبيل الله، وجاء سهم من بعيد كاد يصيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فوضع طلحة يده أمام السهم، فدخل السهم في يده وأنقذ الرسول صلى الله عليه وسلم وشلت يد طلحة بهذا السهم رضي الله عنه وأرضاه.

بعد هذه الحرب الضخمة حول الرسول عليه الصلاة والسلام وصل بعض الصحابة رضي الله عنهم من بعيد، رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام في مأزق وفي موقف صعب، ففاء إليه مجموعة من الصحابة من مقدمة الجيش، وأول من فاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الناس حباً له أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وبينما هو يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى واحداً يقاتل حول النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان فقال: كن طلحة فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي. ثم وجده طلحة كما تمنى؛ لأن طلحة مقاتل شديد وفارس مغوار، فتمنى أن يكون طلحة ؛ حتى يستطيع أن يدافع الدفاع الأمثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم وصل أبو بكر الصديق وتبعه مباشرة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، ووجد أبو بكر الصديق أن حلقات المغفر قد دخلت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذهب لينزعها، فقال له أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر ! إلا تركتني، ونزل أبو عبيدة بن الجراح ، ووضع فمه على حافة المغفر، وبدأ يجذبها بخفة من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من قوة مسكة حلقة المغفر بأسنانه وقعت إحدى أسنانه رضي الله عنه وأرضاه، وخرجت إحدى حلقات المغفر، فأراد أبو بكر أن ينزع الحلقة الأخرى، فقال له ثانية: نشدتك بالله يا أبا بكر ! إلا تركتني، ونزع الحلقة الثانية وسقطت سن من أسنانه رضي الله عنهم أجمعين.

وقاتل الصحابة قتالاً شديداً حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورأى الرسول عليه الصلاة والسلام طلحة وهو ما زال يقاتل عن اليمين وعن اليسار بهذه الجراح الكثيرة؛ فقال لأصحابه لـأبي بكر وعمر وأبي عبيدة : (دونكم أخاكم، دونكم أخاكم فقد أوجب) أي: أدى كل الذي عليه، وسقط طلحة رضي الله عنه من الإصابات الكثيرة، وبدأ الصحابة يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى القرشيين.

وجاءت بعد ذلك مجموعة أخرى من الصحابة، جاء أبو دجانة ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وجاء حاطب بن أبي بلتعة ، وجاءت أم عمارة إحدى النساء تقاتل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان أبو طلحة الأنصاري يضع نفسه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليحميه من سهام المشركين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يضرب بالسهم من ورائه، فكان يرفع رأسه من وراء كتف أبي طلحة ، فكان أبو طلحة يقول له: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله!).

وكانت أم عمارة تقاتل عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما نظرت يميني ولا شمالي ولا أمامي ولا خلفي إلا وجدت أم عمارة تقاتل عني بسيفها).

نظر إليها صلى الله عليه وسلم نظرة إعجاب بقتالها، مع أنها امرأة ضعيفة وليست مكلفة بالقتال بالسيف في هذه الموقعة التي فر فيها بعض الرجال، فنظر إليها نظرة وهو يبتسم، فشاهدته أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها وهو يبتسم فقالت: (يا رسول الله! ادع الله أن نكون معك في الجنة، فقال: أنتِ معي في الجنة).

كانت تقاتل هي وزوجها وابنها جميعاً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وقتل عتبة بن أبي وقاص الذي كان يرضخ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقاتل قتالاً شديداً حتى تحطمت أسنانه رضي الله عنه وأرضاه، وأصيب بعشرين إصابة في جسده، كان أحدها سبباً في إصابته بالعرج الدائم بعد ذلك.

سقط الرسول عليه الصلاة والسلام في حفرة من الحفر التي فعلها المشركون ككمين للمسلمين، ولم يستطع أن يخرج من شدة الجراح التي في جسده صلى الله عليه وسلم، وأبو دجانة يرى السهام تأتي من كل مكان صوب الرسول عليه الصلاة والسلام، فوضع نفسه رضي الله عنه وأرضاه فوق الرسول عليه الصلاة والسلام، وغطى الحفرة بجسده حتى يتلقى السهام بظهره رضي الله عنه.

أثر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين

كان الجميع يقاتل حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يحمل راية المهاجرين، وقاتل قتالاً شديداً حول المصطفى صلى الله عليه وسلم فقطعت يمينه، فحمل الراية بشماله فقطعت شماله، فبرك على الراية رضي الله عنه وأرضاه وهو قابض عليها بعضديه، وجاء المشركون من خلفه وقتلوه، فسقط على الأرض وهو يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144].

وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن المشركون أنهم قتلوا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال ابن قمئة وكان هو الذي قتل مصعب بن عمير : قتلت محمداً، قتلت محمداً، وانتشر الخبر في أرض المعركة بكاملها، فكان هذا الخبر مأساة على المسلمين.

وهكذا أشيع أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد قتل، فالأمر لا يمكن أن يتخيلوه أبداً، فإنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف ينقطع الوحي؟ كيف لا تتم الرسالة؟ كيف؟ كيف؟ ظهرت أسئلة كثيرة في أذهان الناس، وأحبط كثير من المسلمين في أرض القتال.

ووصل الإحباط بالبعض إلى أن جلس على أرض المعركة دون قتال، القتال دائر من حوله وهو لا يرفع سيفه ليدافع حتى عن نفسه، هذا فهم خاطئ، فالقتال ليس من أجل المسلمين وليس من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما القتال في سبيل الله عز وجل، والله حي لا يموت، فلماذا القعود والإحباط؟!

إن قضية القتال في سبيل الله لا يجب أن تغيب أبداً عن ذهن المؤمن، بل عليه أن يكون كالصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه من المشاركين في غزوة أحد، لما رأى الناس قعدوا على الأرض ذهب إليهم وقال في إيمان عميق وفهم دقيق: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فإن الله حي لا يموت، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد.

قال ذلك أيضاً أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه، مر على بعض المسلمين وهم جلوس على أرض القتال، قد فقدوا روح القتال والمقاومة، فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في منتهى الشجاعة والقوة: قوموا فموتوا على ما مات عليه صلى الله عليه وسلم، إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت.

ثم قال وهو ينظر إلى المسلمين الذين أحبطوا وقعدوا على أرض القتال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المسلمين-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين-، ثم تقدم رضي الله عنه وأرضاه ليلقى المشركين، فلقيه

بدأ القتال يوم السبت السابع من شوال سنة ثلاث للهجرة بعد حوالي سنة من غزوة بدر، بدأ اللقاء في منتهى الشراسة، وأول لقاء دار كان حول راية الكفار، وكان يحملها فارس من بني عبد الدار اسمه طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وكان من أكبر وأعظم وأشرس فرسان قريش، كانوا يلقبونه بكبش الكتيبة، فكان طلحة بن أبي طلحة أول من طلب القتال من قريش.

وخرج بهيئته المرعبة وكان راكباً جملاً، فأحجم المسلمون عن مبارزته؛ لأن شكله كان مرعباً، فتقدم الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه وانطلق إليه، وقفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه من فوق الجمل إلى الأرض، وبرك فوقه وقتله رضي الله عنه وأرضاه.

فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام الزبير بن العوام رضي الله عنه يقتل كبش الكتيبة طلحة بن أبي طلحة قال: (إن لكل نبي حواري وحواريي الزبير) رضي الله عنه وأرضاه، واحتدم اللقاء بسرعة، واشتعلت أرض المعركة.

وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة وحمل الراية وطلب القتال، فخرج له حمزة رضي الله عنه وأرضاه وقتله.

ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعد وقتله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وهكذا خرج مسافع بن طلحة .

ثم خرج كلاب بن طلحة .

ثم الجلاس بن طلحة ، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار، هؤلاء الستة من بيت واحد من بيت أبي طلحة .

كانت مأساة بالنسبة لبني عبد الدار، ومع ذلك خرج منهم واحد اسمه أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب .

ثم خرج شريح بن خالد فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان .

ثم خرج واحد اسمه عمرو بن عبد مناف فقتله قزمان أيضاً.

ثم خرج ولد لـشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضاً، فقد قاتل قزمان قتالاً شديداً في يوم أحد.

فهؤلاء عشرة قد قتلوا كلهم من بني عبد الدار، وكان كل واحد منهم يسلم الراية للآخر؛ لأنهم كانوا قد عاهدوا أبا سفيان ألا يتخلوا أبداً عن الراية، وصدقوا في ذلك.

ثم خرج مولى لبني عبد الدار كان اسمه صواب من الحبشة قاتل قتالاً أشد من السابقين جميعاً حتى قطعت يده الأولى ثم الثانية، ثم قطع رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط، وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة، ولم يتسلمها أحد بعد ذلك.

كان اللقاء بأعلى مستوى، فالأرض كلها هجوم كاسح شامل، وكان شعار المسلمين في هذا اليوم: أمت أمت، وكانت البداية في صالح المسلمين، فقد قتلوا أحد عشر قتيلاً من غير أن يقتل واحد من المسلمين، فقد كان انتصاراً ضخماً ضعفت به معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ المسلمون يقتلون في الكفار ويسيطرون على الموقف تماماً، وقاتل جميع المسلمين بمنتهى الضراوة والقوة.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4059 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3969 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3934 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3780 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3716 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3647 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3636 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3569 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3452 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3399 استماع