سلسلة السيرة النبوية يوم بدر


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.

تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات الغزوة العظيمة غزوة بدر، وذكرنا فروقاً هائلة بين صفات الجيش الذي ينصره رب العالمين سبحانه وتعالى، والجيش الذي يفتقر إلى أي تأييد، الجيش المنصور جيش مؤمن بالله، ويعمل لله عز وجل بكل ذرة في كيانه، والجيش المهزوم جيش كافر أو فاسق أو منافق أو عاص لا يعمل إلا لمصالحه الذاتية ولأهوائه الشخصية، لا يهمه إلا صورته أمام الناس.

الجيش المنصور جيش متفائل يوقن بنصر الله عز وجل له، والجيش المهزوم جيش محبط فاقد للأمل.

الجيش المنصور جيش حاسم غير متردد، والجيش المهزوم جيش متردد جبان لا يقوى على أخذ قرار.

الجيش المنصور يطبق الشورى فيما لا نص فيه، والجيش المهزوم جيش يطبق الديكتاتورية ليس فيه إلا رأي الزعيم فقط، ولا ينظر مطلقاً إلى آراء الشعب.

كانت صفات الجيش المنصور موجودة بكاملها في جيش المدينة المؤمن، وكانت صفات الجيش المهزوم موجودة بكاملها في جيش مكة الكافر، ولم تكن هذه فقط صفات الجيوش المنتصرة والمهزومة، فلا تزال هناك صفات أخرى كثيرة، سنتعرف عليها اليوم من خلال الحديث عن يوم الفرقان يوم بدر.

عملية الاستكشاف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش المشركين في بدر قبل القتال

وصلنا في الدرس الفائت إلى أن الجيش المكي عسكر في منطقة العدوة القصوى يعني: جنوب وادي بدر، والجيش المسلم اقترب من بدر في المنطقة الشمالية منه، وتعرف بالعدوة الدنيا.

قام صلى الله عليه وسلم بعملية استكشافية بنفسه هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستطاعا أن يعرفا مكان جيش مكة، لكن لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف أعداد القوم ولا قادتهم، فأرسل فرقة استكشافية ثانية كان فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، وأمسكت الفرقة غلامين من جيش العدو، وأحضروهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في استجوابهما. قال: (أخبراني عن قريش. قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى قال: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف)، فاستطاع أن يحدد بالضبط العدد الحقيقي لجيش مكة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الجمل يكفي مائة تقريباً للأكل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد).

إذاً: كل قادة مكة موجودون في جيش مكة الذي خرج إلى بدر، فأقبل الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين وقال لهم: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).

اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مكان موقعة بدر وسماعه لمشورة الصحابة

علم الرسول صلى الله عليه وسلم معلومات مهمة جداً عن الجيش المكي، فقام بترجمتها إلى أعمال، وبسرعة أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه، واتجه إلى أرض بدر؛ ليختار الأرض التي ستتم عليها الموقعة قبل عدوه، حتى يضع جيشه في مواقع إستراتيجية داخل أرض الموقعة، واختار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه مكاناً للنزول في أرض بدر، واستقر فيه في تلك الليلة، فجاء إليه الصحابي الجليل الحباب بن المنذر رضي الله عنه من الأنصار، وهو من الخبراء العسكريين المعروفين بدقة الرأي وعمق النظرة، وسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟)، يعني: إن كان هذا هو اختيار رب العالمين سبحانه وتعالى فليس لنا أن نختار، وإن كان اختياراً بشرياً مبنياً على الفكر العسكري والتدبير الحربي فمن الممكن أن ندلي فيه بآرائنا، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله! فإن هذا ليس بمنزل)، أي: هذا ليس مناسباً، قالها بوضوح دون خجل ولا مواربة؛ لأن الموضوع خطير وهذه مسئولية، فما الرأي إذاً؟ (قال الحباب : فانهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم -أي: أقرب ماء من قريش- فننزله وتغور -يعني: تخرب- ما وراءه من القلب -جمع قليب الآبار الموجودة في منطقة بدر- ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)، هذا هو منتهى الحكمة، فالماء في الصحراء في غاية الأهمية، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام دون أدنى تردد: (لقد أشرت بالرأي)، وبالفعل غير مكانه الأول ونزل في المكان الذي أشار إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه.

ولنا وقفة مهمة مع إيجابية الحباب رضي الله عنه، قد يتخيل الواحد منا أن أي واحد من الصحابة إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عمل شيئاً لا يقول رأيه؛ لاحتمال أن يكون وحياً، حتى ولو لم يكن وحياً لا يقول، والرسول صلى الله عليه وسلم أحكم البشر وأفضل العالمين، ومن المؤكد أن رأيه البشري أحسن من رأي الآخرين، لكن هذا التصور لم يكن عند الصحابة، بل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كان عندهم إيجابية رائعة، فلو رأى الصحابي شيئاً ويعتقد أن هناك ما هو أولى منه يذهب ويدلي برأيه، حتى لو لم يطلب منه ذلك؛ لأنه يدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ويجري عليه في الأمور التي ليس فيها وحي ما يجري على عامة البشر من اختيار صحيح مرةً وخطأ مرةً أخرى، أو على الأقل يختار خلاف الأولى في أمر من الأمور.

وهكذا أدرك الحباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وهكذا يفتح الرسول عليه الصلاة والسلام المجال الواسع لكل فكر وإبداع وإضافة، وبهذا تشارك كل عقول المسلمين لخدمة الأمة الإسلامية، فلو كان رأي الحباب خطأً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعرفه الرأي الصحيح، ويكون قد تعلم شيئاً، أو على الأقل قاتل وهو مقتنع بوجهة النظر الأخرى.

وهذا يرجعنا إلى مبدأ الشورى من جديد، ويرينا كيف نستفيد من طاقات المجتمع؟ وكيف يمكن أن نستغل المواهب الهائلة التي وزعها الله على خلقه بحكمة عجيبة؟ فلو كان هناك كبت لآراء الجنود لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام المكان المناسب في بدر، وهذا سيكون له ضرر على الأمة كلها لا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.

فالشورى أمر حتمي لأمة تريد النهوض، فإنه بعد النزول في المكان الذي حدده الحباب رضي الله عنه قام الصحابة بالإشارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر اختلف فيه الرواة، وهو بناء العريش أو مقر القيادة؛ لكن سواء تم بناء هذا العريش أو لم يتم، فإن الثابت حقيقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينعزل عن جيشه أبداً في موقعة بدر، فمع أنه القائد الأعلى للجيش قاتل معهم بنفسه، بل كان أقربهم إلى العدو. روى الإمام أحمد بن حنبل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس صلى الله عليه وسلم، ثم يقول علي بن أبي طالب : ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه).

فهذا كلام في منتهى الأهمية؛ لأنه يثبت لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مشاركاً لجيشه ولشعبه، ويعيش معهم في كل قضاياهم.

نزول السكينة والمطر والنعاس على جيش المسلمين

حصل في ليلة بدر أمران في غاية الأهمية غير النزول في مكان بدر:

أولاً: النعاس الذي غلب المسلمين في ليلة بدر بعدما وصلوا وعسكروا في المكان.

ثانياً: المطر الذي نزل في نفس الليلة، فالنعاس كان أمره عجيباً، كان المسلمون على بعد خطوات من الجيش المكي الكبير، ومع ذلك يصلون إلى حالة من السكينة وهدوء الأعصاب، فينامون بأمان تام في أرض بدر، ومعلوم أن الشخص لما يكون منشغلاً بشيء مهم لا يستطيع أن ينام بمنتهى الأمان وهو في وسط بيته، فما بالك بشخص نائم في أرض المعركة وهو منشغل بها، فمن الممكن أن تكون نهايته فيها؟

لكنه هدوء أعصاب عجيب، لا يفكر في عدد الأعداء، ولا يفكر في طريقة القتال، ولا يفكر في سيناريو المعركة، ولا يفكر في أولاده وزوجته، ولا يفكر في تجارته ولا حتى في نفسه، بل نائم في منتهى الراحة، ففي هذه الليلة نام الجميع إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ظل طوال الليلة يصلي ويدعو الله عز وجل أن ينصر هذا الجيش المؤمن.

على الناحية الثانية كان جيش مكة حيران لا يعرف النوم، فغداً موقعة مرعبة بالنسبة لهم، بالإضافة إلى أنه ليس مقتنعاً بالحرب أصلاً، وعلى ماذا يحارب، من أجل هبل واللات والعزى، أم من أجل القائد الزعيم أبي جهل ، أم من أجل القافلة؟ فالقافلة قد تجاوزت الخطر، وأبو سفيان عبر بها إلى بر الأمان فعلام القتال؟ فقد يموت المشرك غداً، أو يصبح أسيراً أو جريحاً أو هارباً ومطارداً، فيا لها من نفسية مضطربة مريضة! وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

كذلك المطر في ليلة بدر كان عجيباً جداً، فمنطقة بدر كلها عبارة عن واد صغير، فسحابة واحدة صغيرة قد تغطي الوادي كله، فنزول المطر في ليلة بدر على أرض بدر فقط غريب جداً، فقد نزل هيناً لطيفاً خفيفاً على المسلمين ونزل وابلاً شديداً معوقاً على الكافرين، شرب المسلمون واغتسلوا وتماسك الرمل في معسكرهم تحت الأقدام، فثبتت الأقدام، وذهبت عنهم وساوس الشيطان، وقد جاء الشيطان إلى بعضهم بسبب الجنابة وقلة الماء وقال لهم: كيف ستصلون؟ كذلك آية التيمم لم تكن قد نزلت بعد، فقال الله عز وجل: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].

أما الكفار فقد أحدث المطر مخاضة كبيرة عندهم، منعت التقدم وأعاقت الحركة، وليس لأحد طاقة بحرب الله عز وجل.

مقارنة بين دعاء المؤمنين لربهم ودعاء الكافرين يوم بدر

في صباح يوم بدر كانت أول كلمات الرسول عليه الصلاة والسلام دعاء لرب العالمين سبحانه وتعالى، دعا أمام الناس جميعاً ليذكرهم بالله عز وجل الذي بيده النصر والتمكين، رفع يده وقال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم من وقت خروجه من المدينة يدعو الله سبحانه وتعالى أن يأتي بالنصر، فعندما خرج من المدينة المنورة إلى بدر كان يقول: (اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم)، وقبل القتال كان يقول: (اللهم فنصرك الذي وعدتني)، وأثناء القتال كان صلى الله عليه وسلم شديد الابتهال إلى ربه، كان يرفع يده إلى السماء ويستقبل القبلة ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا رافعاً يديه إلى السماء حتى سقط رداءه من على كتفيه، فأتاه الصديق رضي الله عنه وأرضاه فرفع الرداء من على الأرض، ووضعه على كتف الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال له برقة وهو يمسك بكتفي الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك)، فانظر إلى طول الدعاء وطريقته حتى جعل أبو بكر الصديق يشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من كثرة الدعاء، ولم يكن هذا الدعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام فقط، بل كان من الجيش كله، فكل الجيش مرتبط بالله سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ [الأنفال:9] أي: جميعاً تستغيثون بالله، وكل هذا يؤكد على أهم صفة من صفات الجيش المنصور، ألا وهي صفة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والاعتقاد الذي لا ريب فيه أنه هو الذي ينصر ويمكن ويعز ويرفع سبحانه وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، هذا كان دعاء الفريق المؤمن.

لكن الغريب أن الكفار أيضاً كانوا يدعون الله، وعلى رأس الذين كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء أبو جهل ، كان يقول: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. ويستخدم نفس الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم. إن دعاء أبي جهل هذا يدعو إلى العجب والحيرة، فكتب السيرة تنقل لنا كثيراً مواقف في فترة مكة تثبت بما لا يدع أي مجال لشك أن أبا جهل كان يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق، ويعرف أنه نبي، ويعرف أن القرآن معجز ويعرف أن الملائكة تحرس النبي صلى الله عليه وسلم، عرف ذلك بوضوح في أكثر من موقف، ومع ذلك فهو الآن يدعو وبصوت يسمعه الجميع أن ينصر الله عز وجل الأحب إليه!

فتفسير دعاء أبي جهل يحتمل أمرين في رأيي، الأمر الأول: أنه يصنع نوعاً من التحفيز المعنوي لجنوده، فكثير من جنود الباطل يحسون بالضعف؛ لتفاهة قضيتهم، ولشعورهم المستمر أن المسلمين معهم قوة كبيرة أكبر من قوة البشر، فيقوم القائد الكافر بإيهام جنوده أنهم على حق، وأن مهمتهم سامية، وأنهم يعملون للخير، ليس خيراً لهم فقط، بل يعملون لخير المجتمع والوطن، بل والعالم، فقد يقنعهم كما كان يفعل أبو جهل بأن ما يقومون به من قتال هو جزء من الدين، وأنهم متدينون ومخلصون ومتبعون للآلهة، وهذه محاولة دنيئة لإضلال القوم، كما قال الله في حق فرعون: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:79]، وقال فرعون نفسه: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فيحاول أن يقنعهم أن كل الإجرام الذي يقوم به هو وأمثاله من الطواغيت ما هو إلا خير وهدى ورشاد وإصلاح، وهذا الأمر نراه كثيراً سواء في الطواغيت القدماء أو في الطواغيت المعاصرين، فكلهم يقولون: إنهم مصلحون.

الأمر الثاني: أن الطاغية حينما يستمر في إقناع الناس أياماً عديدة أنه مصلح ومتدين وأخلاقه عالية، يصدق نفسه أنه على خير، وقد كان من قبل يخدعهم بالباطل وهو يعرف أنه على باطل، كذلك البطانة التي من حوله تقنعه أنه على حق، وأنه عبقري ومصلح ومؤدب وخيِّر وطيب ورحيم؛ فيصدق الطاغية نفسه ويصدق أعوانه الذين من حوله، فيصبح مقتنعاً أنه على صواب، وهذه مرحلة في منتهى الخطورة تدل على عمى البصيرة، فلا يرى الحق من الباطل، ولا يستطيع أن يميز الصواب من الخطأ، ففي المرحلة الأولى كان يميز الصواب من الخطأ، لكنه كان يعمل الخطأ لهوى في نفسه أو لمصلحة أو هدف، أما الآن فإنه لم يعد يستطيع أن يرى: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198]، فعلى العيون غشاوة تحجب الرؤية تماماً: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، وفي الآذان عازل يمنع السمع كلية: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، فهو ميت فعلاً، وعلى قلوبهم أغلفة سميكة تمنع وصول أي موعظة أو عبرة: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25].

إذاً: الطواغيت والمجرمون يمرون بمرحلتين، المرحلة الأولى: مرحلة الخداع للآخرين حتى يحقق مصلحة معينة، وفي هذه المرحلة يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، لكنه يختار الباطل لهوى في نفسه.

المرحلة الثانية: مرحلة الطمس على البصيرة، وفيها لا يستطيع أن يميز الحق من الباطل، وبالتالي يفتقد أي إمكانية للهداية، ومن البديهي أن الذي يدخل هذه المرحلة لا يكون إلا من عتاة الإجرام، وأصحاب التاريخ الطويل في الصد عن سبيل الله، وهذا التحليل يفسر لنا كلمات كثيرةٍ، نسمعها من طواغيت ومجرمين ومعذبين لغيرهم، وناهبين للمال، وهاتكين للأعراض ومستبيحين للحرمات، ومع ذلك يتكلمون عن الفضيلة والشرف والأمانة والإصلاح!

وصلنا في الدرس الفائت إلى أن الجيش المكي عسكر في منطقة العدوة القصوى يعني: جنوب وادي بدر، والجيش المسلم اقترب من بدر في المنطقة الشمالية منه، وتعرف بالعدوة الدنيا.

قام صلى الله عليه وسلم بعملية استكشافية بنفسه هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستطاعا أن يعرفا مكان جيش مكة، لكن لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف أعداد القوم ولا قادتهم، فأرسل فرقة استكشافية ثانية كان فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، وأمسكت الفرقة غلامين من جيش العدو، وأحضروهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في استجوابهما. قال: (أخبراني عن قريش. قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى قال: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف)، فاستطاع أن يحدد بالضبط العدد الحقيقي لجيش مكة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الجمل يكفي مائة تقريباً للأكل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد).

إذاً: كل قادة مكة موجودون في جيش مكة الذي خرج إلى بدر، فأقبل الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين وقال لهم: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).