شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 447-448


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

نحمد الله تعالى ونستعينه ونستغفره، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، ونصلي ونسلم على خاتم رسله، وأفضل أنبيائه، وخيرته من خلقه محمد عليه الصلاة والسلام.

هذه ليلة الإثنين الثامن من شهر صفر من سنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة، ورقم هذا الدرس حسبما عندي (161) من أمالي شرح بلوغ المرام.

الحديث الذي عندنا اليوم حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )، وهذا الحديث المصنف رحمه الله قال: رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان. ‏

تخريج الحديث

الفقرة الأولى: ما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه أبو داود كما ذكر المصنف في كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة من سننه.

ورواه النسائي أيضاً في كتاب الجماعة، باب إذا كانوا اثنين.

ورواه أيضاً البيهقي في سننه في الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة.

وخرج الحديث جماعة أشار المصنف لـابن حبان، فقد أخرجه في صحيحه .

وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده .

ورواه الضياء المقدسي في كتابه الأحاديث المختارة .

والطبراني في معجمه الأوسط .. وغيرهم.

هذا ما يتعلق بالتخريج.

أما ما يتعلق بتصحيح الحديث:

فقد صححه أيضاً أو حسنه جماعة، ذكر المصنف منهم هنا: ابن حبان، وهكذا الحاكم فإنه صحح الحديث في مستدركه على شرطهما.

وقد ذكر الحديث في كتابه الترغيب والترهيب الإمام المنذري، ونسب تصحيحه أيضاً إلى جماعة من أئمة الحديث، كـيحيى بن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وهكذا نسب غير واحد إلى علي بن المديني أنه صححه، فتصحيحه إذاً مشهور، وذكر النووي في كتاب الخلاصة، وهو كتاب في أحاديث الأحكام: أن الحديث رجاله ثقات وإسناده صحيح، وإن كان ذكر فيه راوياً سوف نعرض له بعد قليل.

ومن المعاصرين صحح الحديث الشيخ الألباني، والشيخ ابن باز رحمهما الله.

شواهد الحديث

للحديث أيضاً شاهد بمعناه عند الطبراني والبيهقي، من حديث قباث بن أشيم، وهكذا يضبط الاسم: قباث بن أشيم بفتح الهمزة وسكون الشين وفتح الياء، يعني: بوزن أحمر، وهذا السند عند البيهقي وغيره بمعنى حديث أبي هنا، وقال ابن حجر في فتح الباري : هو شاهد قوي، وقال آخرون: إن في إسناده نظراً.

طيب، سند الحديث: ذكرت لكن النووي وغيره ذكروا في إسناده رجلاً فيه كلام، هذا الرجل اسمه: عبد الله بن أبي بصير، في سند الحديث راو اسمه عبد الله بن أبي بصير، عبد الله بن أبي بصير هذا وثقه ابن حبان والعجلي، وتعرفون أن مذهب العجلي وابن حبان أنهم قد يوثقون كثيراً من المجهولين الذين لم يأت في حقهم جرح من الأئمة، فهم يتساهلون في التوثيق، والغالب على أمثال هؤلاء الذين انفردوا بتوثيقهم أن يكون فيهم شيء من الجهالة

فـعبد الله بن أبي بصير هذا وثقه ابن حبان، والواقع أنه ليس بالمشهور عند الأئمة، ومع ذلك فقد اختُلف على عبد الله بن أبي بصير هذا في إسناد الحديث، فمرة يقول عبد الله بن أبي بصير : عن أبيه، وأبوه كما سماه بعضهم: حفص، فيكون عبد الله بن حفص وكنيته أبو بصير، وأحياناً يقول عبد الله بن أبي بصير : عن أبي بن كعب رضي الله عنه، ولا يذكر أباه، وهذا يعتبر نوعاً من الاضطراب في الحديث.

لكن البيهقي في سننه ذكر عن شعبة وعن علي بن المديني أنهما قالا: إن عبد الله بن أبي بصير سمع الحديث من أبي بن كعب مع والده، كأنه ذهب هو وأبوه إلى أبي بن كعب فسمعا الحديث معاً، فسمعه هو من أبيه مرة أخرى أيضاً، فهو مرة يرويه عن أبيه، فيكون الإسناد نازلاً، هذا معروف نزول الإسناد، يعني: كلما طال اعتبر نازلاً؛ لأنه زاد فيه رجل، ومرة يرويه بعلو عن أبي بن كعب مباشرة، وهذا يسمى إسناداً عالياً، كلما قلَّ الإسناد قل احتمال الخطأ، فيسمى إسناداً عالياً، وكلما كثر الرجال سمي إسناداً نازلاً، فهكذا يقول البيهقي، ويرويه عن شعبة وعلي بن المديني .

والذي يروي عن عبد الله بن أبي بصير هو أبو إسحاق السبيعي من أئمة الحديث، وهو مرة يرويه هكذا ومرة يرويه هكذا عنه. هذا ما يتعلق بسنده.

وبناءً على ذلك نقول: إن أكثر الأئمة قد صححوا أو حسنوا هذا الحديث كما رأيتم، وإن كان فيه عبد الله بن أبي بصير وهو ليس بالمشهور، لكن ربما صححوه؛ لأنه ليس فيه رجل متكلم فيه، ولأن له شاهداً من حديث قباث بن أشيم عند البيهقي .. وغيره كما ذكرنا.

معاني ألفاظ الحديث

الفقرة الثانية: ما يتعلق بمعاني وألفاظ الحديث:

قوله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الرجل مع الرجل )، ما المقصود بالصلاة هنا؟ وأي صلاة؟

الظاهر أن المقصود صلاة الفرض، ويعزز هذا المعنى: أن في بعض روايات الحديث كما عند أبي داود وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الفجر، ثم انصرف إليهم وقال: أشاهد فلان؟ أشاهد فلان؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.. -ثم ذكر هذا الحديث- أن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده )، فهذا دليل على أن المقصود صلاة الفرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد صلاة الفجر، وتفقد الناس فيها، ولأنه فيما يتعلق بالنفل فإن الأمر فيها ليس على إطلاقه، وإنما فيه تفصيل ذكرناه سابقاً: أن من النفل ما يستحب له الجماعة، كصلاة العيد مثلاً، والكسوف، والخسوف، والاستسقاء.. وغيرها، والتراويح، والقيام عند كثير من الأئمة.

ومنها ما لا تشرع له الجماعة: كالسنن الرواتب مثلاً، وكصلاة الضحى.. وغيرها، وأنه لو صلى فيها جماعة جاز، لكن على ألا يلتزموا ذلك ولا يحافظوا عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده )، ما معنى الزكاة هنا؟

أزكى معناها: أفضل، وكلمة الزكاة جاءت في القرآن الكريم تقريباً على أربعة معان أو أكثر.

فمن معاني الزكاة في القرآن: المدح والثناء، مثلاً: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] يعني: لا يمدح الإنسان نفسه أو يزكيها.

ومن معاني التزكية أيضاً: الطهارة.

ومن معانيها: النماء والزيادة، كما في كتاب الزكاة وإخراج الزكاة.

وكذلك البركة، فإنها قد تطلق في الزكاة، ويراد بها البركة.

وكل المعاني الثلاثة واردة في موضوع: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى ) يعني: أبرك وأكثر أجراً ونمواً وخيراً، وكذلك أنها أزكى بمعنى: أفضل وأعظم وأطهر، فكل هذه المعاني الثلاثة واردة في الباب.

قال: ( وما كان أكثر فهو أحب إلى الله ) أكثر عدداً، وما كان أكثر عدداً في الجماعة فهو أحب إلى الله، فالمسجد الذي يكثر فيه المصلون، يكون أفضل من المسجد الذي يقلّون فيه، كما سوف يأتي.

فوائد الحديث

الفقرة الثالثة: ما يتعلق بفوائد الحديث: الحديث فيه فوائد: الفائدة الأولى: بيان ما تنعقد به الجماعة، فأقل ما تنعقد به الجماعة اثنان، كما نص عليه هنا، قال: ( صلاة الرجل مع الرجل )، فهذا بيان أقل ما تنعقد به الجماعة أنه اثنان، واحد منهم إمام والآخر مأموم، وهذا إجماع عند الفقهاء، فيما أعلم أنه لا يشترط ثلاثة مثلاً، كما عند النحويين، النحويون مختلفون في أقل الجمع، بعضهم يقول: اثنان، وبعضهم يقول: ثلاثة. لكن الفقهاء يرون أن أقل ما تنعقد به الجماعة اثنان: إمام، ومأموم، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( اثنان فما فوقهما جماعة )، وهذا الحديث وإن كثرت طرقه، إلا أنها جميعاً ضعيفة، فهو لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل غالب طرقه واهية، جاء عن أبي موسى الأشعري

، وعن أنس بن مالك

، وعن أبي أمامة

، وعن ابن عباس

، وعن ابن مسعود

.. وغيرهم، لكن جميع طرق هذا الحديث واهية ؛ ولذلك لا يحتج به، وإنما يكفينا في الاحتجاج بأن أقل الجماعة اثنان فصاعداً حديث ابن عباس

(لما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل). وحديث: ( من يتصدق على هذا )، في الرجل الذي جاء وقد فاتته الصلاة، والحديث عند أبي داود

، والترمذي

وحسنه من حديث أبي سعيد الخدري

فقال: ( من يتصدق على هذا، فقام رجل وصلى معه ). وكذا حديث حذيفة

(في صلاة الليل مع النبي صلى الله عليه وسلم) وهو في مسلم

في الصحيح. وأيضاً حديث الباب، حديث أبي بن كعب

، وحديث ابن مسعود

(لما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وأطال القراءة) وليس فيه دليل واضح؛ لأنهم لم يذكروا أنهم صلوا جماعة في رحالهم، وهناك حديث أشهر من كل ما ذكر حديث مالك بن الحويرث

، وهو في صحيح البخاري

: ( أنه لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم شببة متقاربون، فلما مكثوا عنده عشرين يوماً وليلة، قال: ارجعوا إلى أهلكم فعلموهم، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم )، وهم كانوا اثنين؛ ولذلك البخاري

رحمه الله بوَّب لحديث مالك بن الحويرث

في صحيحه قال: (باب الاثنان فما فوقهما جماعة) ثم ذكر حديث مالك بن الحويرث

، فتلاحظون في طريقة البخاري

في التبويب أنه بوَّب على ماذا؟ لفظ البخاري

هو لفظ الحديث الذي قلنا لكم: إنه حديث ضعيف، البخاري

لم يخرج الحديث ولكنه وضعه عنواناً للترجمة: (باب الاثنان فما فوقهما جماعة)؛ ليبين أن معنى الحديث صحيح، وإن كان لفظه لم يثبت، واستدل بحديث مالك بن الحويرث

في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ). إذاً: هذه الأحاديث تدل كلها على أن الاثنين فما فوقهما جماعة. وأيضاً: حديث: إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في الأوقات، أنه أمَّه أول الوقت، وأمه آخر الوقت، ثم قال له: ( الصلاة بين هذين الوقتين ). إذاً: عندنا سبعة أدلة تقريباً على أن صلاة الجماعة تنعقد باثنين فما زاد. الفائدة الثانية: فضل تكثير الجماعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـأبي

في هذا الحديث: ( الواحد مع الآخر أفضل من المنفرد، والثلاثة أفضل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )، فهذا دليل على أن الكثرة من المعاني التي تُدرك بها الفضيلة، يعني: من الأسباب التي تفضل جماعة على أخرى أن يكونوا أكثر عدداً؛ ولهذا نقول: إنه يستحب للإنسان إذا تردد بين جماعتين أن يذهب إلى أين؟ أن يذهب إلى أكثرهما عدداً، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، بل هو مذهب الجمهور أنه يختار الأكثر عدداً، إذا تردد بين مسجدين. لكن هل هذه الفضيلة مطلقة أم هي مقيدة بمعان أخرى؟ هي مقيدة بمعان أخرى، مثلاً: لو كان الإنسان إذا ذهب إلى الأكثر سوف تنكسر قلوب الجيران، ويقولون: لماذا فلان تجاوزنا وتركنا؟ ربما زهد فينا، أليس الأفضل القريب؟ بلى الأفضل القريب. طيب لو كان ذهابه ربما يحدث شيئاً في النفوس والصدور من الإحن والحزازات والبغضاء، هل يشرع أن يذهب للبعيد ويترك القريب؟ كلا، هنا تأتي فضيلة أعظم من مراعاة الكثرة: وهي مراعاة تطييب قلوب الجيران، وأداء بعض حقهم، وقد جاء في الجوار والقرب ما لا يخفى عليكم. كذلك لو كان الإنسان إذا ذهب إلى البعيد، ربما لا يصلي القريب صلاة جماعة؛ لأنهم يتفرقون ويصلي كل واحد منهم منفرداً، أو قد يكون القريب قليلاً جداً، بحيث إذا ذهب هذا للبعيد، وذهب هذا للبعيد لم يصل في المسجد أحد، فهل يشرع له أن يذهب للبعيد ويترك القريب؟ كلا. أيضاً المحافظة على إقامة الجماعة القريبة أولى من تكثير الجماعة البعيدة، التي هي كثيرة أصلاً. كذلك لو كانت الجماعة القريبة تحتاجه، مثل: إذا كان هو الأقرأ مثلاً، وهو الأفقه، ويحتاجونه في صلاة وإمامة، أو يحتاجونه في تعليم، أو تربية، هل الأفضل أن يذهب للبعيد أو القريب؟ القريب. إذاً: هذه كلها معان يراعى فيها القرب، ولا يراعى فيها الكثرة. كذلك: لو كانت الجماعة البعيدة مفضولة أصلاً، مثل أن يكونوا مثلاً أهل باطل، أو بدعة، أو ضلال، بينما القريبون أهل تقوى وخير وسنة، أيهما الأفضل في هذه الحالة؟ القريب، يكون الأفضل في هذه الحالة القريب. إذاً: هناك اعتبارات كثيرة جداً، لكن منها اعتبار الكثرة، فإذا تساوت الجماعتان مثلاً: تساووا في الفضل والسنة، وتساووا في القراءة، وليس هناك شيء يترتب على صلاته هنا، نقول: الكثير أفضل ولو كان بعيداً، إذا تساووا في الأمور والاعتبارات الأخرى. الفائدة الثالثة: فيه تفاضل الجماعات؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وما كان أكثر فهو أحب إلى الله )، دليل على أن الجماعات تتفاضل، يعني: بعض الجماعات أفضل من بعض. وهنا قد يقول لنا قائل: سبق أن شرحتم حديث ابن عمر

وأبي هريرة

.. وغيرهما في: ( أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس -أو سبع- وعشرين درجة ) أو ( ضعفاً ) ( أو جزءاً )، فكيف الآن تقولون: إن الجماعات تتفاضل، كيف نجمع بين الحديثين؟ إذاً: نقول في الجمع بين الحديثين: أن حديث (سبع وعشرين) أو (خمس وعشرين) هذا عام للجماعات كلها، يعني: هذا أقل ما يحصله من صلى مع جماعة هو سبعة وعشرون ضعفاً، أو سبع وعشرون درجة، لكن لا مانع أن يكون له فضل إضافي بسبب معنى آخر، مثل: كثرة الجماعة، أو فضيلتها، أو سنتها، أو بعدها.. أو غير ذلك من الاعتبارات التي يذكرها الفقهاء. ولذلك المالكية رحمهم الله نقل غير واحد من فقهائهم: أنه لا تفاضل، الأصل أن لا تفاضل بين الجماعات، وإنما الجماعات كلها سواء، واحتجوا بحديث: ( سبع وعشرين درجة ). ونقول: الراجح أن الجماعات تتفاضل؛ إعمالاً للنصوص الأخرى التي فيها التفاضل. من فوائد الحديث: قوله: ( وما كان أكثر فهو أحب إلى الله )، هذه كلمة: (أحب إلى الله) يستفاد منها إثبات صفة المحبة لله تبارك وتعالى، والنصوص في هذا من القرآن والسنة كثيرة: (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54].. (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ))[البقرة:222].. ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه ). وهذه من المعاني العظيمة جداً أن يعلم العبد أن ربه تبارك وتعالى يُحِب، وقد يحب الله تعالى بعض عباده؛ لإيمانه وتقواه، يعني: أنت لو عرفت أن شخصاً كبيراً يحبك، ويؤثرك على غيرك لكان هذا بالنسبة لك مصدر سعادة، فكيف لو علمت -ولله المثل الأعلى- أن الله تعالى الذي لا يقدر قدره وقدر أسمائه وصفاته إلا هو جل وتعالى أنه يحب بعض عباده، هذا شيء عظيم. ومن هنا تجد العبد المؤمن المدرك لمعنى المحبة، يحرص على الوصول إلى هذه المحبة بالأعمال والصفات والأخلاق والأحوال، التي يحبها الله تعالى، فتعلم أن الله تعالى مثلاً يحب الصلاة مع الجماعة، ويحب الذكر والقرآن، ويحب التوابين فتتوب، ويحب المتطهرين فتتطهر، ويحب المجاهدين فتجاهد، وتبحث عن الأعمال التي يحبها الله تعالى فتكثر منها؛ لتنال محبته ورضاه، ومن ذلك أن تحبه جل وعز، وتستشعر هذا المعنى. من فوائد الحديث أيضاً، هذه الفائدة الخامسة: تفاضل الأعمال الصالحة، نحن قبل قليل ذكرنا تفاضل الجماعات وهي نموذج، لكن هناك معنى أشمل: وهو تفاضل الأعمال الصالحة فيما بينها، فإن الأعمال تتفاضل ولو اتحدت صورتها أحياناً، فضلاً عن أن الأعمال قد تتفاضل فيما بينها لاعتبارات. ذكر القرافي

في الفروق وابن القيم

.. وغيرهما رحمهما الله، خصوصاً ممن كتبوا في أبواب التربية والتهذيب والسلوك والطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ذكروا الأسباب والأحوال التي تتفاضل بها الأعمال فيما بينها: فقد تتفاضل الأعمال غالباً بتفاضل أحوال العاملين، بما عندهم من الإخلاص، والصدق، وعدم إظهار العمل، وعدم الإدلال به، وعدم الحديث عنه، وكلما صح يقين المرء وصدق قصده، وحسنت نيته، كان عمله أفضل؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وفي الحديث الآخر: ( سبق درهم مائة ألف درهم ). إذاً: من أقوى وأعظم أسباب تفاضل الأعمال: ما قام في القلوب؛ ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى المصلين (( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ))[الماعون:5] وتوعدهم بالويل، فهذا إشارة إلى أهمية ما يقوم في القلب من عمل العبد. كذلك تفاضل الأعمال بذاتها، هذا هو السبب الثاني: تفاضل الأعمال بذاتها، فإن بعض الأعمال تكون أفضل من بعض، مثال: أيهما أفضل: قيام الليل أم طلب العلم؟ طلب العلم، لماذا؟ أولاً: إن طلب العلم بذاته أفضل، هو بذاته حتى لو لم يتعد، فهو كجنس عمل أفضل؛ لما يهدي إليه العبد من بيان ما يحبه الله، أن يعرف ما هو أحب إلى الله تبارك وتعالى؛ ولهذا نقل عن الزهري

ومالك

.. وغيرهما أنهم كانوا يقولون: (طلب العلم أفضل من نوافل العبادة لمن صحت نيته). ولاحظ قولهم: (لمن صحت نيته)، فهم أرجعوا الأمر كذلك إلى السبب الأول الذي ذكرناه قبل قليل: وهو القصد والنية، وما يقوم بقلب العامل. إذاً: السبب الثاني من أسباب التفاضل: أن يكون العمل بذاته أفضل من غيره، كما نقول مثلاً: إن الصلاة أفضل من مجرد الذكر؛ لأن الصلاة فيها ذكر، وفيها زيادة عليه بالقيام والركوع والسجود، وكما نقول مثلاً: إن القرآن أفضل من التسبيح، يعني: في الأحوال العادية، وهكذا يكون العمل أفضل من غيره بذاته. السبب الثالث من أسباب التفاضل: هو ما يترتب على العمل من النفع للآخرين، كما نقول مثلاً في الدرهم الذي سبق مائة ألف درهم، فهذا الدرهم ليس أفضل من مائة ألف درهم من حيث كثرة النفع؛ لأن الذي تبرع بمائة ألف ممكن يكون نفع مائة ألف إنسان، أو لا؟ ولكن الدرهم أفضل من جهة السبب الأول الذي هو الإخلاص، وقد تكون مائة ألف درهم لها الفضل الذي في الدرجة الثالثة: وهو كثرة النفع، وهذا أيضاً وجه من وجوه فضيلة العلم أنه متعد للآخرين. ولذلك نقول: العلم الفاضل، العلم الذي له هذه الفضيلة، أي علم؟ هل هو علم الجدل والمماحكة، والقيل والقال، والتبجح، والتصدر في المجالس، وأن الإنسان يكون عنده معلومات؟ هل هذا هو العلم الذي له الفضيلة؟ لا، العلم الذي له الفضيلة: هو العلم الذي يلامس القلب، ويقرب إلى الرب، ويكون فيه نفع للعباد. من فوائد الحديث وهي السادسة: فضل الألفة والاجتماع على الخير، مثل: الاجتماع على الصلاة، ومثل: الاجتماع على الذكر.. على الدعوة.. حتى على المباح، فإنه خير أحياناً من التفرق الذي يكون مصحوباً بفساد في القلوب، وتعكر في الأخوة، فالشريعة جاءت بالدعوة إلى الاجتماع والوحدة والألفة، بينما هذا المعنى على أنه معنى يتكرر كثيراً في القرآن والحديث، ونستطيع ألا نغادر حديثاً أصلاً إلا استخرجنا منه هذه الفائدة، لكن انظروا كم إن الأمم الكافرة اليوم أدركت فضيلة الوحدة والاجتماع، فصارت تتوحد وتجتمع، بينما نحن اليوم والبارحة بالذات سمعنا عن أيش؟ عن إلغاء مؤتمر القمة العربية، وأنا أقول الله أعلم، يعني: قد يقول البعض: إن هذا الإلغاء هو بحد ذاته إنجاز؛ لأنه ماذا تتوقع أن يحدث؟ لكن أنا والله لا أستطيع أن أنكر الحرقة التي أشعر بها في قلبي، حينما أجد هذه الأمة التي كل نصوصها، وكل دينها، وكل تاريخها، وكل ظروفها الواقعية تدعو إلى الوحدة، وإلى الاجتماع، وإلى التركيز على جوانب الاتفاق، بينما واقعها سواء كان الواقع السياسي، أو الواقع العلمي، واقع طلبة العلم، أو الواقع الدعوي، واقع الجماعات، أو الواقع الاجتماعي في المناطق والأقاليم والقبائل، كل واقعها يضج بألوان من التفرق والاختلاف، يوحي بأن في تربيتنا خللاً يحتاج إلى تدارك. من فوائد الحديث أيضاً: تفقد المصلين، تفقد الإمام ومن في حكمه لجماعته، فإن في أول الحديث كما أسلفت لكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشاهد فلان؟ أشاهد فلان؟ )، وبعض الناس عندنا في نجد كانوا يأخذون من الحديث العدد، مشروعية العدد في صلاة الفجر، وربما كثيرون منكم رأوا هذا، أنه كان الإمام -تريد تنصرف، لا تستحي إذا أنت مشغول أو شيء- كان الإمام يعدُّ المصلين واحداً واحداً، والذي أراه أن هذا لا يثبت في السنة. أولاً: لم يرد فيه إلا هذا الحديث، وقد ذكرنا لكم ما يتعلق بإسناده. ثانياً: أنه لم يرد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد الجماعة كل يوم، وإنما صلى بهم يوماً فربما لاحظ فيهم قلة، فسأل عن فلان وعن فلان وعن فلان، وهذا لا بأس به في كل وقت وفي كل حين، إذا شاهد الإنسان نقصاً في جماعته سأل، حتى لو في الدرس مثلاً، أو حلقة التحفيظ، أو الحلقة العلمية.. أو غيرها: أين فلان؟ أين فلان؟ إذا فقد أحداً يسأل عنه، وابن عمر

رضي الله عنه كان يقول: (إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن). يعني: إذا فقد الجماعة عما اعتادهم عليه، أما مسألة تحضير، يعني: يكون هناك دفتر تحضير، كل من جاء يسجل توقيع أو كذا، يعني: هذه ظاهرة غريبة على روح العبادات، التي الأصل فيها الدافع عند الإنسان يكون دافعاً إيمانياً وقوياً، وقد يعزز أحياناً بمثل هذه المعاني، لكن لا يكون هو الأصل، كان بعض الناس مثلاً أحياناً قد يصلي بدون وضوء؛ لأنه ما يمديه يتوضأ فيأتي إلى المسجد، من أجل أن يعمل تحضيراً، ثم يذهب ويتوضأ، أو يغتسل إن كان يحتاج إلى غسل ويعيد الصلاة، وربما يجد أنه إذا قام متأخراً يستطيع أن يذهب إلى مسجد بعيد ويدرك الصلاة فيه، لكنه لا يصلي فيه؛ خشية أن يتناوله بعض الناس بألسنتهم، مثلاً: لماذا غاب عن الصلاة؟

الفقرة الأولى: ما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه أبو داود كما ذكر المصنف في كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة من سننه.

ورواه النسائي أيضاً في كتاب الجماعة، باب إذا كانوا اثنين.

ورواه أيضاً البيهقي في سننه في الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة.

وخرج الحديث جماعة أشار المصنف لـابن حبان، فقد أخرجه في صحيحه .

وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده .

ورواه الضياء المقدسي في كتابه الأحاديث المختارة .

والطبراني في معجمه الأوسط .. وغيرهم.

هذا ما يتعلق بالتخريج.

أما ما يتعلق بتصحيح الحديث:

فقد صححه أيضاً أو حسنه جماعة، ذكر المصنف منهم هنا: ابن حبان، وهكذا الحاكم فإنه صحح الحديث في مستدركه على شرطهما.

وقد ذكر الحديث في كتابه الترغيب والترهيب الإمام المنذري، ونسب تصحيحه أيضاً إلى جماعة من أئمة الحديث، كـيحيى بن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وهكذا نسب غير واحد إلى علي بن المديني أنه صححه، فتصحيحه إذاً مشهور، وذكر النووي في كتاب الخلاصة، وهو كتاب في أحاديث الأحكام: أن الحديث رجاله ثقات وإسناده صحيح، وإن كان ذكر فيه راوياً سوف نعرض له بعد قليل.

ومن المعاصرين صحح الحديث الشيخ الألباني، والشيخ ابن باز رحمهما الله.

للحديث أيضاً شاهد بمعناه عند الطبراني والبيهقي، من حديث قباث بن أشيم، وهكذا يضبط الاسم: قباث بن أشيم بفتح الهمزة وسكون الشين وفتح الياء، يعني: بوزن أحمر، وهذا السند عند البيهقي وغيره بمعنى حديث أبي هنا، وقال ابن حجر في فتح الباري : هو شاهد قوي، وقال آخرون: إن في إسناده نظراً.

طيب، سند الحديث: ذكرت لكن النووي وغيره ذكروا في إسناده رجلاً فيه كلام، هذا الرجل اسمه: عبد الله بن أبي بصير، في سند الحديث راو اسمه عبد الله بن أبي بصير، عبد الله بن أبي بصير هذا وثقه ابن حبان والعجلي، وتعرفون أن مذهب العجلي وابن حبان أنهم قد يوثقون كثيراً من المجهولين الذين لم يأت في حقهم جرح من الأئمة، فهم يتساهلون في التوثيق، والغالب على أمثال هؤلاء الذين انفردوا بتوثيقهم أن يكون فيهم شيء من الجهالة

فـعبد الله بن أبي بصير هذا وثقه ابن حبان، والواقع أنه ليس بالمشهور عند الأئمة، ومع ذلك فقد اختُلف على عبد الله بن أبي بصير هذا في إسناد الحديث، فمرة يقول عبد الله بن أبي بصير : عن أبيه، وأبوه كما سماه بعضهم: حفص، فيكون عبد الله بن حفص وكنيته أبو بصير، وأحياناً يقول عبد الله بن أبي بصير : عن أبي بن كعب رضي الله عنه، ولا يذكر أباه، وهذا يعتبر نوعاً من الاضطراب في الحديث.

لكن البيهقي في سننه ذكر عن شعبة وعن علي بن المديني أنهما قالا: إن عبد الله بن أبي بصير سمع الحديث من أبي بن كعب مع والده، كأنه ذهب هو وأبوه إلى أبي بن كعب فسمعا الحديث معاً، فسمعه هو من أبيه مرة أخرى أيضاً، فهو مرة يرويه عن أبيه، فيكون الإسناد نازلاً، هذا معروف نزول الإسناد، يعني: كلما طال اعتبر نازلاً؛ لأنه زاد فيه رجل، ومرة يرويه بعلو عن أبي بن كعب مباشرة، وهذا يسمى إسناداً عالياً، كلما قلَّ الإسناد قل احتمال الخطأ، فيسمى إسناداً عالياً، وكلما كثر الرجال سمي إسناداً نازلاً، فهكذا يقول البيهقي، ويرويه عن شعبة وعلي بن المديني .

والذي يروي عن عبد الله بن أبي بصير هو أبو إسحاق السبيعي من أئمة الحديث، وهو مرة يرويه هكذا ومرة يرويه هكذا عنه. هذا ما يتعلق بسنده.

وبناءً على ذلك نقول: إن أكثر الأئمة قد صححوا أو حسنوا هذا الحديث كما رأيتم، وإن كان فيه عبد الله بن أبي بصير وهو ليس بالمشهور، لكن ربما صححوه؛ لأنه ليس فيه رجل متكلم فيه، ولأن له شاهداً من حديث قباث بن أشيم عند البيهقي .. وغيره كما ذكرنا.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4765 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4400 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4215 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4096 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4023 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3973 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3919 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3899 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3880 استماع