شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 435-437


الحلقة مفرغة

اليوم عندنا عدة أحاديث:

أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا أم أحدكم الناس فليخفف, فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة, فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء )، والحديث متفق عليه.

تخريج الحديث

الحديث رواه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء.

ورواه مسلم أيضاً في صحيحه في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.

ورواه أيضاً أهل السنن: رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة.

والنسائي أيضاً في الإمامة، باب ما يجب على الإمام.

وأحمد في مسنده .

ورواه أيضاً مالك في الموطأ، في كتاب الصلاة، باب العمل في صلاة الجماعة.

ورواه البغوي والشافعي والبيهقي وعبد الرزاق وابن حبان .. وغيرهم، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

معاني ألفاظ الحديث

أما ما يتعلق بمعانيه:

فقوله: ( إذا أم أحدكم الناس ) أي: صلى بهم إماماً، وهم وراءه مأمومون، سواء كان ذلك في فرض أو في نفل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خص شيئاً من شيء، فيدخل فيه الإمامة في الصلوات المفروضات، كما يدخل فيه الإمامة في السنن والنوافل، التي تستحب لها الجماعة؛ كصلاة التراويح مثلاً.. ونحوها، هذا هو الأصل، وسوف يأتي مزيد بيان.

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فليخفف )، قال: ابن دقيق العيد في شرح العمدة : إن التخفيف هو من الأمور الإضافية، يعني: أنها من الأمور النسبية التي تختلف من حال إلى حال.

ثم قال رحمه الله: فقد يكون الشيء تخفيفاً بالنسبة إلى قوم، وتطويلاً بالنسبة لآخرين، ثم قال: وقول الفقهاء رحمهم الله: إنه لا يزيد في التسبيح على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود؛ إن هذا لا يخالف ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك، لماذا؟ قال: لأن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من حب الخير، والرغبة فيه، وفي إطالة الصلاة ما ليس عند غيرهم، فكان التخفيف في حقهم ربما تطويلاً لحق من جاء بعدهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، قال: والأولى في ذلك -أي: في حد التخفيف- هو ما روه أبو داود وابن ماجه والنسائي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم )، وفي رواية: ( واقدر بأضعفهم )، يعني: اجعله قدراً أو مقداراً، ( واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً )، والحديث سبق معنا تخريجه، وهو حديث حسن الإسناد، وأصله في صحيح مسلم .

والشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: ( واقدر بأضعفهم ) أو: ( واقتد بأضعفهم )، فهو دليل على حد التخفيف، وأنه يراعى فيه أضعف المأمومين؛ من هرم كبير السن، أو مريض، أو ضعيف في أصل خلقته، أو محتاج.. أو ما أشبه ذلك.

وفي بعض أحاديث الباب، وبعض شواهده ما يدل على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتخفيف، قال: ( أيكم أم الناس فليخفف )، ثم علل هذا الأمر بوجود الضعيف، والصغير والكبير، والمريض أو السقيم، وذي الحاجة، فدل على أن حق الإمام مراعاة ضعف المأمومين، بل مراعاة أضعفهم.

ولهذا روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي مسعود رضي الله عنه: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! والله إني لأتأخر عن صلاة الغداة )، صلاة الغداة هي صلاة الفجر: ( إني لأتأخر عن صلاة الغداة؛ من أجل فلان مما يطيل بنا، قال أبو مسعود

: فوالله ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد منه غضباً يومئذٍ، قال عليه الصلاة والسلام: إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليتجوز -أي: يخفف صلاته- فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ).

وهكذا أيضاً جاء في صحيح البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز؛ كراهية أن أشق على أمه ) صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أنس نحو حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

فدل ذلك على حد التخفيف، وأنه ينبغي أن يخفف الإمام تخفيفاً يراعي فيه حال أضعف الناس، حتى في شئونهم الدنيوية الخاصة، وحتى في أمورهم الشخصية، وحتى فيمن لا تلزمهم الجماعة أيضاً، كالنساء والصبيان، ولهذا قال: (وفيهم الصغير) يعني: الصبي، (والكبير) يعني: الهرم المسن، شريطة ألا يخل ذلك بواجبات الصلاة وأركانها.

قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن فيهم الصغير )، وفي رواية: ( وفيهم الضعيف )، وجاء في رواية: ( الكبير )، وفي رواية: ( السقيم )، وفي أخرى: ( المريض )، وهما بمعنى.

وفي رواية عند الطبراني قال: ( والحامل والمرضع ).

وفي رواية عنده أيضاً قال: ( والعابر السبيل )، ومعناها: إما المسافر، أو المار بالمسجد إلى حاجة فحبسته الصلاة، فجلس ينتظرها في المسجد.

وقوله: ( ذا الحاجة ) ربما يشمل كل هؤلاء أو جلهم، وربما يحمل قوله: ( ذا الحاجة ) على معنى خاص، فمن يكون عنده حاجة خاصة تستدعي أن يخفف الصلاة، أو تشغل قلبه عن الصلاة، أو يكون في إطالة الصلاة تفويتاً لحاجته، أو حبساً له عنها.

قوله: ( فيهم السقيم )، وقوله: ( الضعيف )، هل هما بمعنى واحد؟

عرفنا أن السقيم والمريض معنى واحد، لكن مرة قال: (المريض) ومرة قال: (الضعيف) هل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق؟

الكبير يدخل في الضعيف. لا بأس، يعني: نقول: بين المريض والضعيف فرق، حيث إن كلمة: (الضعيف) أشمل، فيدخل فيها المريض فهو ضعيف، ويدخل فيها الكبير أيضاً فهو ضعيف، ويدخل فيها ضعيف البنية في أصل الخلقة، ولو لم يكن ذلك لمرض ولا لكبر، فقوله: (الضعيف) أشمل منهما، أشمل من كلمة (السقيم) أو (المريض)، وأشمل من كلمة (الكبير).

قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء )، كما قال هاهنا، هذه رواية مسلم : ( فليصل كيف شاء ).

أما رواية البخاري فإنه قال: ( فإذا صلى وحده فليطول ما شاء ).

وقد استدل بهذا على جواز إطالة الصلاة، مهما شاء المصلي أن يطيل، لكن ينبغي أن يكون ذلك مرهوناً بالنسبة للمنفرد يعني، ينبغي أن يكون ذلك مرهوناً، بأن لا تخرج صلاة الفريضة عن وقتها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي قتادة : ( إنما التفريط على من لم يصل الصلاة، حتى دخل وقت الصلاة الأخرى )، فدل على أنه لا يسع قادراً أن يؤخر الصلاة، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، والحديث رواه مسلم وقد سبق أيضاً.

وقال بعضهم: لا بأس أن يطول الصلاة، حتى لو دخل وقت الأخرى، حتى يعني: خرج وقت الصلاة الأولى، ودخل وقت الصلاة التي بعدها، واستدلوا بقوله: ( فليطول ما شاء )، كما استدل بعضهم أيضاً بالأثر الصحيح الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه صلى صلاة الفجر فأطال، فقالوا: يا خليفة رسول الله! كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، أو لم نكن عنها غافلين)، فقالوا: هذا دليل على أنه حتى لو طلعت الشمس، وخرج الوقت، فإن ذلك لا يضر.

والصواب: أنه ينبغي أن يفرق بين حال وحال، فلو كان الإنسان دخل في الصلاة في وقتها المعتاد، لم يكن يسعه شرعاً أن يطيل الصلاة حتى يخرج وقتها، ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه؛ لا عن أبي بكر ولا عن غيره، فهذا شيء.

أما لو أنه أخر الصلاة لعذر، كأن يكون نائماً لم يستيقظ إلا قبيل طلوع الشمس، أو ناسياً، أو ما في حكمهما، ثم دخل في الصلاة، فإنه حينئذ يصليها بهيئتها المعتادة، ولا حرج عليه حتى لو خرج الوقت، لم؟ لأنه حينئذ ابتدأ وقت الصلاة منذ ذكر، أو منذ استيقظ؛ لحديث: ( من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها ).

فوائد الحديث

فوائد الحديث: ‏في الحديث فوائد، منها: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، كما قال النووي

رحمه الله في تبويبه على مسلم

: في تمام، أي: تخفيفاً لا يضر بأركان الصلاة وواجباتها. وفيها مشروعية مراعاة حال الناس في ذلك من المأمومين، وخاصة ضعفائهم، كالكبار والصغار والنساء والمرضى والعمال، ومن في حكمهم، ويستوي في ذلك الجماعات كلها كما أسلفت، سواء كانت فريضة أو نافلة؛ لأن العلة عامة. لكن هاهنا سؤال: أيهما أولى بمراعاة حال المأمومين الفرض أو النفل؟ الفرض أولى؛ لأن الفرض حتم واجب على كل أحد، فلا ينفع أحداً إلا أن يصليه، أما النفل فإن بإمكان المشغول أو المريض أو العاجز ألا يصليه أصلاً؛ لأنه ليس بواجب عليه، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً: ( أنه طول في صلاة الكسوف والخسوف، حتى قرأ قدر سورة البقرة، ثم ركع ثم قام وقرأ الفاتحة، وقرأ سورة أخرى نحوها، أو أقصر منها )، وإن كان هذا استثناء فيما يتعلق بصلاة الكسوف والخسوف، ولكنه من المعلوم أنه بالنسبة للنوافل، فإن الأمر فيها أيسر ولو أطال بعض الشيء، وإن كانت مراعاة حال المأموم مشروعة حتى في النوافل؛ لأن ذلك يجمع قلوبهم على الصلاة، ويحثهم عليها، ويشجعهم على المداومة، ولكن الاهتمام بذلك في الفرض أولى؛ لأنه لا يسع أحداً ترك الفريضة. قال الإمام الترمذي

رحمه الله في جامعه قال: وهذا -يعني: مراعاة التخفيف- قول أكثر أهل العلم، وكلام الترمذي

يوهم بأن هناك من خالف في ذلك، ولا أظن أن أحداً خالف في هذا، اللهم إلا أن ابن أبي شيبة

بوب في مصنفه، باب من رأى التخفيف، فربما يوهم في التبويب أن هناك من رأى ضده، ولكنه لم يذكر أحداً رأى خلاف ذلك، بل نقل عن الصحابة والسلف نصوصاً في ذلك، أسوق بعد قليل شيئاً منها. هذا قاله الترمذي

، قال: أكثر أهل العلم يرون التخفيف، ولكن غيره نص على أن المسألة إجماع، كما قال ابن عبد البر

، قال: وهذا أمر مجمع عليه. وقال مرة: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم. ونحو ذلك قال الإمام العراقي

في طرح التثريب : لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، يعني: في مشروعية التخفيف. وقد روى ابن أبي شيبة

في ذلك نصوصاً، منها نص عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص

عن أبيه رضي الله عنه: (أنه كان إذا صلى بالناس تجوز في صلاته وخفف، وإذا صلى في بيته طول، فقال له: ابنه مصعب بن سعد

: هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له أبوه: إننا أئمة يقتدى بنا)، أي: فنخفف مراعاة لحال المأمومين. وروى أيضاً عن أبي رجاء العطاردي

وهو من التابعين، من المخضرمين، عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام، ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أبو رجاء العطاردي

أنه قال: (رأيت الزبير

رضي الله عنه صلى صلاة خفيفة، فقال له: أنتم يا أصحاب محمد أخف الناس صلاة، قال له الزبير

: إنا نسابق فيها الوسواس)، أي: نصلي صلاة خفيفة نتقنها، ونستحضر القلب فيها، فنسبق بذلك وساوس الشيطان. ولما طعن عمر

رضي الله عنه، صلى بهم عبد الرحمن بن عوف

على ما هو معروف في الصحيح، فماذا قرأ عبد الرحمن بن عوف

في الصلاة؟ قرأ أقصر سورتين في القرآن الكريم، (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ))[النصر:1]، (( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ))[الكوثر:1]. قوله عليه الصلاة والسلام: (فليخفف): دليل على وجوب التخفيف؛ لأنه أمر والأمر يقتضي الوجوب، وهذا مذهب الظاهرية، وقال به جماعة من الفقهاء والسلف، أن التخفيف على الإمام واجب بقدر لا يشق على المأمومين، ولا يخل بالصلاة، فهذا هو الضابط العام، لا يطيل فيشق على المأمومين، ولا يتجوز في الصلاة تجوزاً يخل بواجباتها أو أركانها، هذا الضابط. ومثله كلام ابن عبد البر

وابن بطال

وغيرهما، فإنه يومئ إلى اختيارهم القول بالوجوب. أما الجمهور فيرون أن الأمر للاستحباب، ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أطال الصلاة. ومما ربما يشهد لقول الجمهور ما سبق قبل قليل، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيل فيها )، فدل على أنه ربما نوى الإطالة في الصلاة، مع أنه وراءه جماعة، كما هو ظاهر في النص. من فوائد الحديث أيضاً: تحصيل أعلى المصالح ولو فات أدناها، ودفع أعلى المفاسد ولو ارتكب أخفها، فتحصيل مصلحة اجتماع الناس على الصلاة، وعلى الجماعة مثلاً، وعلى الإمام أيضاً، وعدم اختلاف قلوبهم عليه، وتأليف قلوبهم على الخير والإسلام والطاعة، مقدم على مصلحة إطالة الصلاة، حتى ولو كانت عبادة وزلفى وقربى إلى الله جل وتعالى، وهذه قاعدة عامة ينبغي أن يفقهها طلبة العلم: أن تأليف قلوب الناس، وجمع كلمتهم، وتحبيبهم إلى الخير، من أعظم مقاصد الشريعة، التي ينبغي السعي إليها. من الفوائد أيضاً: أن للمنفرد أن يطيل الصلاة كيف شاء فرضاً كانت أو نفلاً، إلا أن يخشى خروج الوقت للفريضة كما سبق.

الحديث رواه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء.

ورواه مسلم أيضاً في صحيحه في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.

ورواه أيضاً أهل السنن: رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة.

والنسائي أيضاً في الإمامة، باب ما يجب على الإمام.

وأحمد في مسنده .

ورواه أيضاً مالك في الموطأ، في كتاب الصلاة، باب العمل في صلاة الجماعة.

ورواه البغوي والشافعي والبيهقي وعبد الرزاق وابن حبان .. وغيرهم، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

أما ما يتعلق بمعانيه:

فقوله: ( إذا أم أحدكم الناس ) أي: صلى بهم إماماً، وهم وراءه مأمومون، سواء كان ذلك في فرض أو في نفل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خص شيئاً من شيء، فيدخل فيه الإمامة في الصلوات المفروضات، كما يدخل فيه الإمامة في السنن والنوافل، التي تستحب لها الجماعة؛ كصلاة التراويح مثلاً.. ونحوها، هذا هو الأصل، وسوف يأتي مزيد بيان.

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فليخفف )، قال: ابن دقيق العيد في شرح العمدة : إن التخفيف هو من الأمور الإضافية، يعني: أنها من الأمور النسبية التي تختلف من حال إلى حال.

ثم قال رحمه الله: فقد يكون الشيء تخفيفاً بالنسبة إلى قوم، وتطويلاً بالنسبة لآخرين، ثم قال: وقول الفقهاء رحمهم الله: إنه لا يزيد في التسبيح على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود؛ إن هذا لا يخالف ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك، لماذا؟ قال: لأن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من حب الخير، والرغبة فيه، وفي إطالة الصلاة ما ليس عند غيرهم، فكان التخفيف في حقهم ربما تطويلاً لحق من جاء بعدهم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، قال: والأولى في ذلك -أي: في حد التخفيف- هو ما روه أبو داود وابن ماجه والنسائي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم )، وفي رواية: ( واقدر بأضعفهم )، يعني: اجعله قدراً أو مقداراً، ( واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً )، والحديث سبق معنا تخريجه، وهو حديث حسن الإسناد، وأصله في صحيح مسلم .

والشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: ( واقدر بأضعفهم ) أو: ( واقتد بأضعفهم )، فهو دليل على حد التخفيف، وأنه يراعى فيه أضعف المأمومين؛ من هرم كبير السن، أو مريض، أو ضعيف في أصل خلقته، أو محتاج.. أو ما أشبه ذلك.

وفي بعض أحاديث الباب، وبعض شواهده ما يدل على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتخفيف، قال: ( أيكم أم الناس فليخفف )، ثم علل هذا الأمر بوجود الضعيف، والصغير والكبير، والمريض أو السقيم، وذي الحاجة، فدل على أن حق الإمام مراعاة ضعف المأمومين، بل مراعاة أضعفهم.

ولهذا روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي مسعود رضي الله عنه: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! والله إني لأتأخر عن صلاة الغداة )، صلاة الغداة هي صلاة الفجر: ( إني لأتأخر عن صلاة الغداة؛ من أجل فلان مما يطيل بنا، قال أبو مسعود

: فوالله ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد منه غضباً يومئذٍ، قال عليه الصلاة والسلام: إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليتجوز -أي: يخفف صلاته- فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ).

وهكذا أيضاً جاء في صحيح البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز؛ كراهية أن أشق على أمه ) صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أنس نحو حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

فدل ذلك على حد التخفيف، وأنه ينبغي أن يخفف الإمام تخفيفاً يراعي فيه حال أضعف الناس، حتى في شئونهم الدنيوية الخاصة، وحتى في أمورهم الشخصية، وحتى فيمن لا تلزمهم الجماعة أيضاً، كالنساء والصبيان، ولهذا قال: (وفيهم الصغير) يعني: الصبي، (والكبير) يعني: الهرم المسن، شريطة ألا يخل ذلك بواجبات الصلاة وأركانها.

قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن فيهم الصغير )، وفي رواية: ( وفيهم الضعيف )، وجاء في رواية: ( الكبير )، وفي رواية: ( السقيم )، وفي أخرى: ( المريض )، وهما بمعنى.

وفي رواية عند الطبراني قال: ( والحامل والمرضع ).

وفي رواية عنده أيضاً قال: ( والعابر السبيل )، ومعناها: إما المسافر، أو المار بالمسجد إلى حاجة فحبسته الصلاة، فجلس ينتظرها في المسجد.

وقوله: ( ذا الحاجة ) ربما يشمل كل هؤلاء أو جلهم، وربما يحمل قوله: ( ذا الحاجة ) على معنى خاص، فمن يكون عنده حاجة خاصة تستدعي أن يخفف الصلاة، أو تشغل قلبه عن الصلاة، أو يكون في إطالة الصلاة تفويتاً لحاجته، أو حبساً له عنها.

قوله: ( فيهم السقيم )، وقوله: ( الضعيف )، هل هما بمعنى واحد؟

عرفنا أن السقيم والمريض معنى واحد، لكن مرة قال: (المريض) ومرة قال: (الضعيف) هل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق؟

الكبير يدخل في الضعيف. لا بأس، يعني: نقول: بين المريض والضعيف فرق، حيث إن كلمة: (الضعيف) أشمل، فيدخل فيها المريض فهو ضعيف، ويدخل فيها الكبير أيضاً فهو ضعيف، ويدخل فيها ضعيف البنية في أصل الخلقة، ولو لم يكن ذلك لمرض ولا لكبر، فقوله: (الضعيف) أشمل منهما، أشمل من كلمة (السقيم) أو (المريض)، وأشمل من كلمة (الكبير).

قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء )، كما قال هاهنا، هذه رواية مسلم : ( فليصل كيف شاء ).

أما رواية البخاري فإنه قال: ( فإذا صلى وحده فليطول ما شاء ).

وقد استدل بهذا على جواز إطالة الصلاة، مهما شاء المصلي أن يطيل، لكن ينبغي أن يكون ذلك مرهوناً بالنسبة للمنفرد يعني، ينبغي أن يكون ذلك مرهوناً، بأن لا تخرج صلاة الفريضة عن وقتها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي قتادة : ( إنما التفريط على من لم يصل الصلاة، حتى دخل وقت الصلاة الأخرى )، فدل على أنه لا يسع قادراً أن يؤخر الصلاة، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، والحديث رواه مسلم وقد سبق أيضاً.

وقال بعضهم: لا بأس أن يطول الصلاة، حتى لو دخل وقت الأخرى، حتى يعني: خرج وقت الصلاة الأولى، ودخل وقت الصلاة التي بعدها، واستدلوا بقوله: ( فليطول ما شاء )، كما استدل بعضهم أيضاً بالأثر الصحيح الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه صلى صلاة الفجر فأطال، فقالوا: يا خليفة رسول الله! كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، أو لم نكن عنها غافلين)، فقالوا: هذا دليل على أنه حتى لو طلعت الشمس، وخرج الوقت، فإن ذلك لا يضر.

والصواب: أنه ينبغي أن يفرق بين حال وحال، فلو كان الإنسان دخل في الصلاة في وقتها المعتاد، لم يكن يسعه شرعاً أن يطيل الصلاة حتى يخرج وقتها، ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه؛ لا عن أبي بكر ولا عن غيره، فهذا شيء.

أما لو أنه أخر الصلاة لعذر، كأن يكون نائماً لم يستيقظ إلا قبيل طلوع الشمس، أو ناسياً، أو ما في حكمهما، ثم دخل في الصلاة، فإنه حينئذ يصليها بهيئتها المعتادة، ولا حرج عليه حتى لو خرج الوقت، لم؟ لأنه حينئذ ابتدأ وقت الصلاة منذ ذكر، أو منذ استيقظ؛ لحديث: ( من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها ).




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4737 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4202 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4083 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3890 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع