شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 432-434


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

اليوم عندنا ثلاثة أحاديث تقريباً، هي أربعة لكن نأخذ منها ثلاثة ...

الحديث الأول حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة، فصلى فيها فتتبع إليه رجال فصلوا بصلاته، -وفيه قال:- أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة )، والحديث كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى: متفق عليه. ‏

تخريج الحديث

هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه في مواضع: منها: كتاب الأذان، وضمن كتاب الأذان يوجد أبواب، بعضهم يقول: في كتاب الجماعة، أو كتاب الإمامة، هذا كتاب ضمن كتاب الأذان في صحيح البخاري، وليس موجوداً في النسخة المطبوعة، فهو في النسخة المطبوعة ضمن كتاب الأذان، باب صلاة الليل.

وكذلك رواه مسلم رحمه الله، في كتاب المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته.

ورواه أيضاً أبو داود في الكتاب نفسه، في باب فضل التطوع في البيت.

والترمذي في الباب نفسه، أيضاً في الصلاة، باب التطوع في البيت.

والنسائي في كتاب الإمامة.. وغيرهم، رواه جماعة من أهل العلم، كالإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.. وغيرهما.

هذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه الله، لم أجده بحروفه في شيء من هذه المراجع، لكن أقرب الألفاظ إلى لفظ المصنف، هو ما ذكره البخاري رحمه الله في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، فإن البخاري رحمه الله قال فيما يرويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة، أو حصيراً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال بكم صنيعكم حتى خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم -أو قال: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم) هذا لفظ- فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ).

هذا أقرب لفظ لما ساقه المصنف رحمه الله، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

معاني ألفاظ الحديث

فيما يتعلق بألفاظ الحديث:

قولها رضي الله عنها: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم )، بالراء، وفي رواية للبخاري : (احتجز) بالزاي، والمعنى متقارب، أي: أنه احتجر ذلك، أي: جعله حجرة، أي: حوطه عليه الصلاة والسلام.

وقوله: (احتجز) بالزاي أي: جعله حاجزاً بينه وبين الناس.

والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك حتى يصلي فيه، فيكون هذا الحصير الذي احتجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله كالحائط، يكون ذلك سترة له في صلاته، ويمنع التشويش عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

قوله: (حجرة)، وفي رواية: (حجيرة)، والحجيرة: تصغير حجرة، وأيضاً هذا في صحيح البخاري جاء في بعض الألفاظ بالزاي: (حجزة) وهو كما سبق.

وقوله: (مخصفة) هاهنا، أي: أنها من خصف، والخصف: هو بفتح الخاء والصاد: هو ما يتخذ من الخوص، سواء كان من خوص النخل أو غيره، يسمى خصفاً، والفرش الذي يصنع من الخوص، ويقعد عليه يسمى خصفاً، وهذا لا يزال معروفاً عند العامة إلى اليوم.

وقولها رضي الله عنه في حديث الباب وفي رواية البخاري : (فتتبع إليه رجال) هكذا: تتبعوا إليه، وأصل التتبع هو الطلب، والمعنى: أنهم طلبوا موضع النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا إليه؛ ليصلوا بصلاته.

وفي رواية لـمسلم رحمه الله قالت: ( حتى اجتمع إليه ناس )، وهو يبين المعنى، وجاء في لفظ في حديث عائشة رضي الله عنها، وهو بمعنى الحديث هذا، أنها قالت: ( فثاب إليه رجال )، والخطابي رحمه الله رواه بلفظ: ( فآب )، وفي رواية: ( فثار )، والمعنى واحد: (ثاب) و(آب) و(ثار)، ثاب وآب معناهما متقارب، أي: رجع، وثاروا أي: قاموا إليه وجاءوا، والمعاني هذه كلها تدور حول أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا بصلاته. ‏

المقصود بالمرء في الحديث

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل صلاة المرء في بيته )، المقصود بالمرء هاهنا الرجل أو المرأة؟

المقصود جنس الرجال، ويخرج من ذلك: النساء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن )، فقوله: (وبيوتهن خير لهن) دليل على أن المرأة صلاتها في بيتها أفضل، سواء في ذلك النافلة أو ماذا؟ أو المكتوبة، أما إن قالوا له: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، فهو الرجل خاصة.

فضل تأدية النوافل في البيت إلا ما استثني

وأيضاً قوله: ( أفضل صلاة المرء )، المقصود بالصلاة هاهنا: الصلوات النوافل، لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك نوافل أيضاً بقرائن وأدلة صحيحة، مثل: الصلاة التي يشرع لها الجماعة، النافلة التي تشرع لها الجماعة كصلاة التراويح في المسجد، وأيضاً غير صلاة التراويح كالاستسقاء، والعيدين، وصلاة الكسوف، فهذه الصلوات كلها تشرع لها الجماعة، فتشرع في المساجد أيضاً.

هذا رقم واحد مما يستثنى.

ورقم اثنين مما يستثنى: تحية المسجد، وذلك؛ لأنها إنما تفعل بمناسبة الدخول إلى المسجد، والبقاء والمكث فيه، وإن كان في هذا نظر، من حيث إن المقصود والله تعالى أعلم الصلوات التي تصح في البيوت وفي المساجد، فيقال: إنها في البيت أفضل، أما تحية المسجد فقد لا يتصور أن يقال: إنها في البيت أفضل؛ لأنها لا تشرع أصلاً إلا بمناسبة أو سبب دخول المسجد، ولكن عدها بعض أهل العلم مما يستثنى من حديث الباب.

ثالثاً: صلاة الجنازة، إن قلنا: إنها مما تشرع لها الجماعة فهذا شيء، ومع ذلك صلاة الجنازة ما كانت تصلى في المسجد إلا أحياناً، الغالب أنها كانت تصلى خارج المسجد، لكن من المعلوم أنها ليست في البيوت؛ لأنها داخلة فيما تشرع له الجماعة.

الثالث: ما يشرع لمناسبة البقاء في المسجد، كصلاة ركعتين بعدما تطلع الشمس قدر رمح، في حق من جلس في المصلى بعد صلاة الفجر، حتى تطلع الشمس، وقد جاء في هذا أحاديث سبقت.

الرابع مما يستثنى: صلاة العودة من السفر عند القائلين بها، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المسجد، فيصلي فيه ركعتين ) كما في حديث كعب بن مالك، وهو حديث متفق عليه.

الخامس: ركعتا الطواف، فإن السنة أن تصلى في المسجد خلف المقام، كما جاءت في ذلك أحاديث قولية وفعلية عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

السادس مما يستثنى: الصلاة في مسجد قباء، وكذلك الصلاة التي نقلها ابن عمر وغيره: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً، فيصلي فيه ركعتين ).

أيضاً مما يستثنى من ذلك ذكره جماعة: التنفل قبل صلاة الجمعة، سواء قبل الزوال أو بعده، فقد جاء في الحديث الذي في الصحيح قال: ( من جاء المسجد يوم الجمعة ثم صلى ما كتب له ... )، فهذا ظاهر أن المقصود في المسجد لمشروعية المبادرة إلى الصلاة، كما في الحديث المتفق عليه: ( من راح في الساعة الأولى.. ) .. إلى آخر الحديث، فالتنفل يوم الجمعة قبل الزوال أو بعده مما يستثنى أيضاً.

كم صارت المستثنيات؟

سبعة أنواع.

كذلك صلاة النوافل في الحرم المكي أفضل، ثم الحرم المدني، وهذا أيضاً يدخل فيما يستثنى فيما يتعلق بالحرم، خاصة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، ومسجد مكة، إن قلنا: إن الفضيلة خاصة بالمسجد، فينبغي أن يقال: إن الصلاة فيه أفضل، وإن قلنا: إن الفضيلة عامة، كما هو الأقرب وعليه تدل النصوص، أن الفضيلة عامة لكل الحرم، فحينئذ تكون الصلاة في البيت إذا كان داخل الحرم أفضل من الصلاة في المسجد.

أقول: إن الحديث فيه صلاة النافلة في البيت، وصلاة النافلة في البيت فيها ثلاثة أمور:

أولها: المستثنيات من ذلك، وقد ذكرناها.

أسباب تفضيل صلاة النافلة في البيت على المسجد

الأمر الثاني: الأسباب في تفضيل صلاة النافلة في البيت على المسجد، وهذا فيه عدة أسباب:

أولها: أن ذلك أبعد عن الرياء، وأخفى عن الأنظار، وأقرب إلى تحقيق الإخلاص لله جل وتعالى.

السبب الثاني: أن ذلك يكون سبباً في طرد الشيطان من المنزل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: ( إن الشيطان لا يقرب البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ).

السبب الثالث: أن ذلك يكون سبباً لنزول الملائكة في البيت، ونزول الرحمة، وأن يشمل الأهل والأطفال، ومن في المنزل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم وغيره عن أبي موسى : ( مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله مثل الحي والميت ).

السبب الرابع: لئلا يكون في ذلك تشبيه للبيوت بالقبور؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر المتفق عليه: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ) أي: كهيئة القبور لا يصلى فيها، فيكون في ذلك إبعاد للبيوت عن أن تكون على هيئة القبور التي يتجنب الناس الصلاة فيها. هذا فيما يتعلق باختيار البيت لصلاة النافلة.

أما كونها لا تقام في المسجد، فقد ذكر بعضهم، كما نقله ابن أبي شيبة عن حذيفة وغيره: أن من أسباب كراهية النافلة في المسجد، أو تفضيلها على الأقل في البيت على المسجد؛ لئلا يتفرق الناس بعد أن اجتمعوا، فهم اجتمعوا على صلاة الفريضة، فإذا صلوا النافلة فرادى في المسجد ترتب على ذلك تفرقهم، وهذا فيه غرابة؛ لأن مؤداه أن تكون الصلاة القبلية التي قبل الفريضة أن تكون مشروعيتها مطلقاً في المسجد أفضل؛ لأن الأمر متعلق بما بعد الفريضة.

وأيضاً: هذه العلة لم يرد فيها نص يعتمد عليه.

أقوال العلماء في صلاة النافلة في البيت

النقطة الثالثة في موضوع صلاة النافلة في البيوت: هي مسألة أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وهي مسألة يسيرة انقسم فيها أهل العلم إلى ثلاثة أقوال:

القول الأول: صلاة النوافل المطلقة في البيت وأدلته

الأول: وهو مذهب الجماهير، وهو المعروف عن أكثر الأئمة المتبوعين والصحابة والسلف رضي الله عنهم: أن السنة أن يصلي الإنسان النوافل المطلقة في بيته،إلا ما استثني مما ذكرته قبل، أما بقية النوافل المطلقة فتصلى في البيت، بما في ذلك السنن الرواتب قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، وبعد العشاء، وقبل الفجر .. وهكذا بقية السنن الرواتب، فالجمهور يقولون: السنة أن تصلى في البيت، وكذلك قيام الليل، وصلاة الضحى، النوافل المطلقة في أي وقت شاء.

بل صرح بعضهم بأنه يكره أن يصليها في المسجد، نقله ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه.

بل جاء عن بعضهم التصريح: بأن بعض النوافل لا تجزئ إلا في البيت، كما نقله عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند (فإنه سأل أباه عمن يقول: إن راتبة المغرب لا تجزئ إلا في البيت؟ فقال له أبوه: عمن هذا؟ من الذي يقول هذا؟ قال له: محمد بن عبد الرحمن -يعني: ابن أبي ليلى - فقال الإمام أحمد : ما أحسن هذا، أو قال: ما أحسن ما قال، أو: ما أحسن ما نقل) على حسب ما جاء في اللفظ، جاء فيه الشك، فالمهم أن الإمام أحمد استحسن هذا؛ وذلك لأنه جاء في أحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى راتبة المغرب: صلاة البيوت: ( جاء إلى بني عبد الأشهل وهم يصلونها بعد الصلاة، فقال: هذه راتبة البيوت، وقال: صلوها في بيوتكم )، فكان محمد بن أبي ليلى وبعض السلف يسمونها: صلاة البيوت، ويرى بعضهم أنها لا تجزئ إلا أن يصليها في بيته.

بل نقل الإجماع على ذلك الإمام النووي رحمه الله، قال: ولا خلاف في هذا عندنا، ومعنى كلامه: أي: عند الشافعية، وهذا لا إشكال فيه، لا إشكال في نقل إجماع الشافعية على ذلك، لكن الأمر أن ابن العربي رحمه الله المالكي نقل الإجماع، ومثله ابن عبد البر نقل إجماع العلماء، فـابن العربي يقول: لم يختلف أحد من أهل العلم في ذلك، وابن عبد البر يقول: إنهم مجمعون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل. هذا القول له، والصواب أنه لا إجماع، ولكن هذا مذهب الجمهور.

أدلتهم:

أولها: حديث الباب وهو صريح: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، وهو مطلق يدل على أن الصلاة في البيت أفضل، ويستثنى من ذلك المكتوبة بنص الحديث، ويستثنى منه ما سبق بدلالة أحاديث ونصوص أخرى، وفي بعض ألفاظ الحديث: ( خير صلاة المرء في بيته )، والمعنى واحد.

الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الراتبة في بيته، وهكذا معظم النوافل، فالرواتب القبلية والبعدية، وما بعد الجمعة، وراتبة الفجر.. وغيرها، كلها جاء في أحاديث كثيرة جداً لا يمكن حصرها، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بيته، حتى الركعتان اللتان كان يصليهما بعد العصر لما فاتته راتبة الظهر، كان يصليهما في بيته، كما جاء في حديث أم سلمة وغيرها.

الدليل الثالث: حديث ابن عمر وقد ذكرته قبل قليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أيها الناس اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً ) أي: اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم، وقد يقال: إن هذا البعض المقصود به ماذا؟ النوافل؛ لأن الصلاة نوعان: فرائض، ونوافل، فالفرائض في المسجد، والنوافل في البيوت، وهي بعض الصلاة.

الدليل الرابع: حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل في بيته نصيباً من الصلاة؛ فإن الله تعالى جاعل من صلاته في بيته خيراً )، والحديث رواه مسلم وأحمد وأهل السنن.

(فإن الله تعالى جاعل من صلاته في بيته خيراً)، خيراً بإزالة الشياطين.. بنزول الرحمة.. بنزول الملائكة.. بتعليم الأهل.. بتعليم الأطفال.. إلى غير ذلك من ألوان الخير. هذه بعض أدلتهم.

القول الثاني: صلاة رواتب النهار في المسجد ورواتب الليل في البيت

القول الثاني في المسألة وهو مذهب مالك والثوري رحمهما الله: قالوا: الأفضل فعل رواتب النهار في المسجد، ورواتب الليل في البيت، وهذا ربما حكاه بعضهم رواية عن الإمام أحمد ؛ لأنه نقل عنه كما ذكر ابن قدامة في المغني : عن الأثرم [ أن أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى سأله رجل: عن الركعتين بعد الظهر أين تصليان؟ قال: في المسجد، قال: فالركعتان قبل الفجر؟ قال: في البيت، قال: وبعد المغرب؟ قال: في البيت ]. فأفتى الإمام أحمد بأن الراتبة بعد الظهر تصلى في المسجد، أما راتبة الفجر وراتبة المغرب فتصلى في بيته، وهذا معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق براتبة الفجر وراتبة المغرب مستفيض، وربما متواتر عنه عليه الصلاة والسلام، فقد يقال: إن الإمام أحمد يوافق مالكاً والثوري على ما ذكرا، وقد لا يقال ذلك؛ بسبب أن راتبة الفجر هل هي تعتبر من رواتب الليل أو رواتب النهار؟

هي أول صلوات النهار؛ ولهذا كانت صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، فهذا إشكال.

الجواب عما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله فيما ظهر لي أن يقال: إن الإمام أحمد رحمه الله كان حفياً بالنصوص، وقافاً عندها، كما نقل عنه هذا في مسائل كثيرة جداً مما اختلفوا فيه، فكان يقول بمقتضى النص فيما ورد النص فيه، ولا يطرده فيما عدا ذلك، فمثلاً نقل عنه رأيه في سجود السهو: هل هو قبل السلام أو بعد السلام؟ فكان يقول: إنه بعد السلام فيما ورد فيه النص، وفيما عدا ذلك فهو قبل السلام؛ لأن هذا هو الأصل في الصلاة، أنها قبل السلام، ويقول: إنه بعد السلام فيما ورد فيه النصوص، مثلما جاء ذلك في حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود .. وغيرهما، وهكذا هاهنا، فلعله قال: إن راتبة الفجر وراتبة المغرب أنها تفعل في البيت؛ لأنه جاء في ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعلهما في المنزل، أما راتبة الظهر فلم يرد فيها بخصوصها نص، فقد يقال بذلك، والله تعالى أعلم.

القول الثالث: صلاة الرواتب كلها في المسجد وأدلته

القول الثالث في المسألة ونقل عن جماعة عن السلف: أنهم كانوا يقولون: إن الاختيار والأفضل فعل الرواتب كلها في المسجد، وهذا أشار إليه بعض الشافعية، أن الأفضل فعل الرواتب كلها في المسجد، ولا أعلم لهم في ذلك دليلاً.

والقول الراجح هو القول الأول: أن السنة فعل النوافل المطلقة كلها في البيت؛ لعموم حديث الباب وأدلته، وعدم وجود ما يعارضها مما قال به الآخرون، وهذا هو الأصل.

فوائد الحديث

حديث الباب فيه فوائد كثيرة، نسردها اختصاراً للوقت: منها: جواز النافلة جماعة، كقيام الليل وغيره، وقد جاء في روايات في حديث الباب: ( أن ذلك كان في رمضان ) كما في البخاري

. فهو دليل أيضاً -وهذه فائدة ثانية- على مشروعية صلاة التراويح جماعة في المساجد في رمضان، وقد جاء في ذلك أحاديث تذكر في بابها. الفائدة الثالثة: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، أي: أن تدخل معه بعدما كبر للصلاة منفرداً، وتنوي الائتمام به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في الصلاة منفرداً، ثم تتابع إليه هؤلاء الرجال وثابوا إليه، فصلوا بصلاته عليه الصلاة والسلام، وهكذا جاء في حديث ابن عباس

في قيام الليل: ( لما صلى ليلة مبيته عند خالته ميمونة

خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ). الفائدة الرابعة: الغضب للمخالفة مخالفة الأمر والشرع؛ ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، والبخاري

بوب عليه رحمه الله، وذلك -غضب النبي صلى الله عليه وسلم- لأنه خشي أن تفرض عليهم؛ ولهذا قال : ( ما زال بكم صنيعكم حتى خشيت أن تفرض عليكم )، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إليهم تأديباً لهم وتنكيلاً وإلا لم يخف عليه مقامهم، وقد يكون من أسباب غضبه: أنهم رفعوا أصواتهم، وجاء في بعض الألفاظ: ( أنهم حصبوا بابه عليه الصلاة والسلام ) أي: رموه بالحصباء؛ ولهذا قال في رواية عند مسلم

عن الزهري

: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة ) أي: أنه ما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك، وقد أدبهم الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ))[الحجرات:2]. وقال سبحانه: (( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ))[الحجرات:4-5]. الفائدة السادسة: مشروعية السترة في الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الحجيرة التي احتجرها من خصف جعلها سترة له عليه الصلاة والسلام. السابعة: فضل صلاة الليل؛ فإن تلك كانت صلاة الليل. الفائدة الثامنة: سد الذرائع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذا العمل مع أنه يحبه، تركه خشية أن يفرض على أمته؛ ولهذا كانت صلاة القيام في رمضان جماعة في المساجد مشروعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فيها ثلاث ليال أو أربع، وإنما تركها عليه الصلاة والسلام خشية أن تفرض، فلما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذهب هذا الخوف، فصلى الصحابة جماعة، كما هو معروف مشهور. الفائدة التاسعة: فضل صلاة النافلة في البيت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، وفي حديث ابن عمر

: ( صلوا في بيوتكم )، فضل صلاة النافلة في البيت. الفائدة التاسعة: مشروعية الجماعة، ومشروعية الجماعة في المساجد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام استثناها فقال: ( إلا المكتوبة )، والمقصود بالمكتوبة الجماعة. الفائدة العاشرة: فضيلة صلاة الفريضة في المسجد، ولو صلاها منفرداً، بمعنى: أنه لو فاتته صلاة الجماعة في المسجد، فهل له أن يعود إلى بيته ليصليها، أو الأفضل أن يصليها في المسجد؟ ظاهر الحديث أن الأفضل أن يصليها في المسجد؛ لأن قوله: ( إلا المكتوبة ) مطلق، يعني: سواء صلاها في جماعة، أو صلاها منفرداً، وقد جاء في ذلك أحاديث صحيحة أنه إذا جاء فوجدهم قد صلوا، فصلاها في المسجد أدرك الأجر. الفائدة الحادية عشرة: جواز الائتمام بالإمام ولو كان بينك وبينه حاجز، إذا كان يرى الإمام أو يرى من يصلي بصلاته والصفوف متصلة، حتى لو كان بينه وبينهم حاجز، كجدار أو قال الحسن

-كما رواه البخاري

تعليقاً- لو كان بينهم وبينه نهر أو شارع، إذا كانت الصفوف متصلة والصوت مسموعاً، وكان يرى الإمام أو يرى من يصلي بصلاته. هذه بعض فوائد حديث الباب.

هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه في مواضع: منها: كتاب الأذان، وضمن كتاب الأذان يوجد أبواب، بعضهم يقول: في كتاب الجماعة، أو كتاب الإمامة، هذا كتاب ضمن كتاب الأذان في صحيح البخاري، وليس موجوداً في النسخة المطبوعة، فهو في النسخة المطبوعة ضمن كتاب الأذان، باب صلاة الليل.

وكذلك رواه مسلم رحمه الله، في كتاب المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته.

ورواه أيضاً أبو داود في الكتاب نفسه، في باب فضل التطوع في البيت.

والترمذي في الباب نفسه، أيضاً في الصلاة، باب التطوع في البيت.

والنسائي في كتاب الإمامة.. وغيرهم، رواه جماعة من أهل العلم، كالإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.. وغيرهما.

هذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه الله، لم أجده بحروفه في شيء من هذه المراجع، لكن أقرب الألفاظ إلى لفظ المصنف، هو ما ذكره البخاري رحمه الله في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، فإن البخاري رحمه الله قال فيما يرويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة، أو حصيراً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال بكم صنيعكم حتى خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم -أو قال: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم) هذا لفظ- فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ).

هذا أقرب لفظ لما ساقه المصنف رحمه الله، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

فيما يتعلق بألفاظ الحديث:

قولها رضي الله عنها: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم )، بالراء، وفي رواية للبخاري : (احتجز) بالزاي، والمعنى متقارب، أي: أنه احتجر ذلك، أي: جعله حجرة، أي: حوطه عليه الصلاة والسلام.

وقوله: (احتجز) بالزاي أي: جعله حاجزاً بينه وبين الناس.

والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك حتى يصلي فيه، فيكون هذا الحصير الذي احتجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله كالحائط، يكون ذلك سترة له في صلاته، ويمنع التشويش عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

قوله: (حجرة)، وفي رواية: (حجيرة)، والحجيرة: تصغير حجرة، وأيضاً هذا في صحيح البخاري جاء في بعض الألفاظ بالزاي: (حجزة) وهو كما سبق.

وقوله: (مخصفة) هاهنا، أي: أنها من خصف، والخصف: هو بفتح الخاء والصاد: هو ما يتخذ من الخوص، سواء كان من خوص النخل أو غيره، يسمى خصفاً، والفرش الذي يصنع من الخوص، ويقعد عليه يسمى خصفاً، وهذا لا يزال معروفاً عند العامة إلى اليوم.

وقولها رضي الله عنه في حديث الباب وفي رواية البخاري : (فتتبع إليه رجال) هكذا: تتبعوا إليه، وأصل التتبع هو الطلب، والمعنى: أنهم طلبوا موضع النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا إليه؛ ليصلوا بصلاته.

وفي رواية لـمسلم رحمه الله قالت: ( حتى اجتمع إليه ناس )، وهو يبين المعنى، وجاء في لفظ في حديث عائشة رضي الله عنها، وهو بمعنى الحديث هذا، أنها قالت: ( فثاب إليه رجال )، والخطابي رحمه الله رواه بلفظ: ( فآب )، وفي رواية: ( فثار )، والمعنى واحد: (ثاب) و(آب) و(ثار)، ثاب وآب معناهما متقارب، أي: رجع، وثاروا أي: قاموا إليه وجاءوا، والمعاني هذه كلها تدور حول أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا بصلاته. ‏

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل صلاة المرء في بيته )، المقصود بالمرء هاهنا الرجل أو المرأة؟

المقصود جنس الرجال، ويخرج من ذلك: النساء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن )، فقوله: (وبيوتهن خير لهن) دليل على أن المرأة صلاتها في بيتها أفضل، سواء في ذلك النافلة أو ماذا؟ أو المكتوبة، أما إن قالوا له: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، فهو الرجل خاصة.