جزيرة الإسلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

هذا هو الدرس (31) من الدروس العلمية العامة، في يوم السبت، ليلة الأحد 15 من شهر جمادى الأولى لعام (1411هـ).

أيها الأحبة الكرام: موضوع هذه الليلة: جزيرة الإسلام. وأود أن أنبه أن بعض الإخوة بمجرد أن ينتهي الإمام من الصلاة، يأتون سراعاً إلى هذا المكان، ولا شك أننا نعلم أن الإمام -مثلاً- له حق في البقعة التي صلى فيها، والمؤذن له حق في البقعة التي صلى فيها، والجماعة الذين في الصف الأول كذلك، والإخوة أصحاب التسجيلات يحتاجون إلى مساحة تكون فارغة يتحركون فيها.

مع هذا أقول: يعلم الله أنني إذا رأيت مثل هؤلاء الإخوة حتى من الشباب الصغار، أنني أحس بفرح كبير؛ لأننا ندرك أن مثل هؤلاء الشباب على أكتافهم -بإذن الله تعالى- يكون مستقبل الإسلام، وقد يكون من بين هؤلاء الصغار الذين ما لبسوا الغتر، قد يكون من بينهم -أحياناً- عالم جليل، وفقيه نبيل، وداعية ومرشد وخطيب ومجدد ومجاهد.

فنحن نفرح بمجيئهم إلى هذه المجالس، ونسر بذلك أيما سرور، لكن من باب المحبة، والحرص على البعد عن كل أمر قد يعيبك به الناس؛ أحببت أن أنبه إلى ذلك.

أحبتي الكرام: الله عزوجل وهو الخالق، وهو الذي يختار كما قال الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] خلق البشر، واختار منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخلق الخلق واختار منهم ما يشاء، وخلق الملائكة واصطفى منهم أفضلهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البلاد والأرضين واختار منها بقاعاً وهي أفضلها وأطهرها،يقول الله عزوجل: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] ويقول الله عزوجل: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75].

وهذا الاختيار والاصطفاء الإلهي لا بد أن يكون اختياراً على علم؛ لأن الله تعالى هو العالم، ولذلك قال عزوجل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] فالله عز وجل اختار من البشر أفضلهم، واختار من البقاع أفضلها، كما قال عزوجل: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32].

فضل مكة

أحبتي الكرام: هناك أماكن اختارها الله عز وجل واصطفاها واختصها، وهي أماكن كثيرة جداً، أذكر شيئاً منها، وبعض ما ورد في فضل هذه الأماكن بإيجاز واختصار، لأن الموضوع مهم وطويل.

فالله عز وجل اختار مكة والحرم من حولها، كما قال الله عزوجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا}.

فلا يجوز السفر إلى بقعة في الدنيا كلها بقصد العبادة، إلا لهذه الأماكن الثلاثة، لأن الله اختارها وجعل الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها.

ومثله في فضل مكة: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل، ولم يحرِّمها الناس} وفي حديث ابن عباس أيضاً: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام لا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، فإن أحد ترخَّص بقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله عز وجل أذن لنبيه ولم يأذن لكم}.

ومن المواقف الطريفة والعجيبة في فضل مكة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أُخرج منها في الهجرة، بعد أن آذاه كفار قريش واضطهدوه، واضطروه إلى الخروج من مكة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكانت آنذاك بلداً صغيراً محدوداً، ربما في حدود الحرم اليوم وما حوله، فلما تجاوزها النبي صلى الله عليه وسلم، وصار إلى الشمال الشرقي منها، ربما في المكان الذي توجد فيه الأسواق اليوم، التفت إلى مكة وهو يبكي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطباً مكة التي أحبها، قال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن.

ومثله ما رواه البخاري أيضاً: {أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما جعل زوجه وابنه إسماعيل في مكة، وذهب وتركهم لحقت به زوجته تقول له: يا إبراهيم، إلى أين تذهب وتدعنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ وهو لا يجيب، فلما رأت إصراره قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. فرجعت إلى ولدها، فجاءهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه}.

إذاً وهذا وصية من جبريل عليه السلام لأهل بيت الله وأهل حرمه، وسكان أرضه وبلاده الطاهرة الطيبة المقدسة المباركة، لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه.

فضل المدينة

المدينة المنورة -مثلاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { المدينة حرام، ما بين كذا إلى كذا وذكر موضعين، وفي رواية: ما بين عير إلى ثور المدينة حرام ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حَدَثاً، أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منهم صرفاً ولا عدلاً} هذا من فضل المدينة المنورة، كما جاء في حديث سهل بن حنيف أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهوى بيده إلى المدينة، وأشار إليها بيده وقال: {المدينة حرم آمن} والحديث في صحيح مسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يصبر أحد على لأواء المدينة وجهدها، إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة} وهو في صحيح مسلم، وذلك لأن المدينة فيها حُمَّى، قد تصيب بعض الذين يهاجرون إليها، أو يقيمون فيها، أو يسكنون بها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يصبر أحد على تعب المدينة وحمَّاها ولأوائها وجهدها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة}.

ولذلك -أيضاً- يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم: {المدينة كالكير تنفي خبثها} وفى رواية: {تنفي خبث الناس كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب}.

فإن المنافق لا يكاد أن يقر له بـالمدينة قرار، ولا يكاد أن يطيب له فيها دار، فهو فيها كالسجين، كالطير في القفص يحاول الفرار منها.

ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في آخر الزمان يخرجون من المدينة إلى الشام وإلى العراق وإلى غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: {المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} كما في حديث سفيان بن أبي زهير، وهو حديث متفق عليه.

ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً: {أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي طابة؛ تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب}.

إذاً الرسول صلى الله عليه سلم أُمر بأن يهاجر إلى مدينة طيبة مباركة مشرفة، وهي: المدينة النبوية، تأكل القرى، يسمونها يثرب، كما قال المنافقون: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13] وهي كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة.

ولعل من فضل المدينة ومكة: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا جاء المسيح الدجال لا يستطيع أن يدخل مكة ولا المدينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال}. وهذا الحديث متفق عليه. {على أنقاب المدينة -أي: أبوابها وطرقها- ملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون} أي: مرض الطاعون كوباء، فإنه لا يدخل المدينة، بمعنى: أن أهل المدينة لا يصيبهم الطاعون وباءً عاماً ينتشر ويفشو فيهم كما يفشو في البلاد الأخرى. وكذلك الدجال لا يستطيع أن يدخل المدينة.

قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي بكرة: {لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان يحرسانها}.

وفي الحديث الثالث: وهو حديث أنس رضي الله عنه­، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس بلد إلا وسيطؤه الدجال، -ليس بلد في الدنيا كلها إلا سيطأه الدجال- إلا مكة والمدينة، فإنه لا يطؤهما ولا يستطيع أن يدخل إليهما، لكن ينـزل في سبخة من السباخ القريبة من المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه فيها كل كافر ومنافق}.

إذاً قوله عليه الصلاة والسلام: {فيخرج إليه كل كافر ومنافق} دليل على أنه هذا درس وعبرة كبيرة -أيها الأحبة- أنه حتى في الزمان الذي يخرج فيه الدجال، وهو أكثر الزمان ظلمةً وقترةً وسواداً وفساداً وفتنة، حتى في ذلك الوقت يكون في المدينة المنورة، وفي جزيرة العرب، أناس كثيرون يحتاجون إلى النفاق، لماذا يحتاجون إلى النفاق؟ لماذا لم يجاهروا بكفرهم وردتهم وفجورهم؟ ذلك لوجود الخير، ووجود الشوكة للمؤمنين، والصالحين، والطيبين.

ولذلك حتى في زمان الدجال؛ المنافقون مستترون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون أن يُظْهِروا رءوسهم، أو يخافون على مصالحهم، ولذلك يستترون فإذا جاء الدجال كشفوا عن مقاصدهم ومآربهم، وكشروا عن أنيابهم، وخرجوا إلى الدجال في سبخة من السباخ المحيطة بـالمدينة.

ويكفي المدينة شرفاً وفضلاً وبهاءً ومكانة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن فيها بقعة من بقاع الجنة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عبد الله بن زيد المتفق عليه: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} وفي الحديث الآخر: {ومنبري على حوضي} فالرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن هذه البقعة المشرفة من مسجده صلى الله عليه وسلم أنها روضة من رياض الجنة، وهي اليوم تسمى: الروضة النبوية.

فضل الحجاز

ومن الأماكن الفاضلة: الحجاز بشكل عام، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه مسلم: {إن الدين يأرز بين المسجدين -مسجد مكة ومسجد المدينة- كما تأرز الحية في جحرها}.

إذاً يحنّ الدين وينضم ويجتمع إلى بلاد الحجاز، إلى مكة والمدينة وما بينهما.

وفى حديث جابر -وهو في صحيح مسلم أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز} فحكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأن بلاد الحجاز وأرض الحجاز مأوى للمؤمنين، يفيئون إليها مرة بعد أخرى، وأن الإيمان في أهلها أكثر، ولا شك أن هذه ليست تزكية مطلقة؛ لأن أهل الحجاز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم كفار معاندون، وكان فيهم منافقون مستترون بنفاقهم وكفرهم، وكان فيهم وفيهم... ولكن الغالب عليهم يومئذ الإيمان.

فضل اليمن

وكذلك الحال بالنسبة لأرض اليمن، وهي جزء من جزيرة الإسلام، وجزء من جزيرة العرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة: {أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن هذه الفضائل.

و اليمن يشمل مواقع عديدة، حتى أهل المدينة هم في الأصل من اليمن، وكذلك ما تيامن عن الكعبة فهو يسمى ويعد من اليمن، وليس مقصوراً فقط على البقعة الجغرافية التي تسمى اليوم اليمن، بل الأمر أشمل من ذلك، ويشمل كل ما كان عن يمين الكعبة.

فضل الشام

ومثله: بلاد الشام؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لها بالفضل، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وهو صحيح: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وذكر لأهل الشام فضائل أخرى، بل صنف فيه عدداً من أهل العلم كتباً خاصة.

أحبتي الكرام: هناك أماكن اختارها الله عز وجل واصطفاها واختصها، وهي أماكن كثيرة جداً، أذكر شيئاً منها، وبعض ما ورد في فضل هذه الأماكن بإيجاز واختصار، لأن الموضوع مهم وطويل.

فالله عز وجل اختار مكة والحرم من حولها، كما قال الله عزوجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا}.

فلا يجوز السفر إلى بقعة في الدنيا كلها بقصد العبادة، إلا لهذه الأماكن الثلاثة، لأن الله اختارها وجعل الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها.

ومثله في فضل مكة: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل، ولم يحرِّمها الناس} وفي حديث ابن عباس أيضاً: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام لا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، فإن أحد ترخَّص بقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله عز وجل أذن لنبيه ولم يأذن لكم}.

ومن المواقف الطريفة والعجيبة في فضل مكة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أُخرج منها في الهجرة، بعد أن آذاه كفار قريش واضطهدوه، واضطروه إلى الخروج من مكة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكانت آنذاك بلداً صغيراً محدوداً، ربما في حدود الحرم اليوم وما حوله، فلما تجاوزها النبي صلى الله عليه وسلم، وصار إلى الشمال الشرقي منها، ربما في المكان الذي توجد فيه الأسواق اليوم، التفت إلى مكة وهو يبكي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطباً مكة التي أحبها، قال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن.

ومثله ما رواه البخاري أيضاً: {أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما جعل زوجه وابنه إسماعيل في مكة، وذهب وتركهم لحقت به زوجته تقول له: يا إبراهيم، إلى أين تذهب وتدعنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ وهو لا يجيب، فلما رأت إصراره قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. فرجعت إلى ولدها، فجاءهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه}.

إذاً وهذا وصية من جبريل عليه السلام لأهل بيت الله وأهل حرمه، وسكان أرضه وبلاده الطاهرة الطيبة المقدسة المباركة، لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه.

المدينة المنورة -مثلاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { المدينة حرام، ما بين كذا إلى كذا وذكر موضعين، وفي رواية: ما بين عير إلى ثور المدينة حرام ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حَدَثاً، أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منهم صرفاً ولا عدلاً} هذا من فضل المدينة المنورة، كما جاء في حديث سهل بن حنيف أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهوى بيده إلى المدينة، وأشار إليها بيده وقال: {المدينة حرم آمن} والحديث في صحيح مسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يصبر أحد على لأواء المدينة وجهدها، إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة} وهو في صحيح مسلم، وذلك لأن المدينة فيها حُمَّى، قد تصيب بعض الذين يهاجرون إليها، أو يقيمون فيها، أو يسكنون بها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يصبر أحد على تعب المدينة وحمَّاها ولأوائها وجهدها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة}.

ولذلك -أيضاً- يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم: {المدينة كالكير تنفي خبثها} وفى رواية: {تنفي خبث الناس كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب}.

فإن المنافق لا يكاد أن يقر له بـالمدينة قرار، ولا يكاد أن يطيب له فيها دار، فهو فيها كالسجين، كالطير في القفص يحاول الفرار منها.

ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في آخر الزمان يخرجون من المدينة إلى الشام وإلى العراق وإلى غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: {المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} كما في حديث سفيان بن أبي زهير، وهو حديث متفق عليه.

ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً: {أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي طابة؛ تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب}.

إذاً الرسول صلى الله عليه سلم أُمر بأن يهاجر إلى مدينة طيبة مباركة مشرفة، وهي: المدينة النبوية، تأكل القرى، يسمونها يثرب، كما قال المنافقون: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13] وهي كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة.

ولعل من فضل المدينة ومكة: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا جاء المسيح الدجال لا يستطيع أن يدخل مكة ولا المدينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال}. وهذا الحديث متفق عليه. {على أنقاب المدينة -أي: أبوابها وطرقها- ملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون} أي: مرض الطاعون كوباء، فإنه لا يدخل المدينة، بمعنى: أن أهل المدينة لا يصيبهم الطاعون وباءً عاماً ينتشر ويفشو فيهم كما يفشو في البلاد الأخرى. وكذلك الدجال لا يستطيع أن يدخل المدينة.

قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي بكرة: {لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان يحرسانها}.

وفي الحديث الثالث: وهو حديث أنس رضي الله عنه­، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس بلد إلا وسيطؤه الدجال، -ليس بلد في الدنيا كلها إلا سيطأه الدجال- إلا مكة والمدينة، فإنه لا يطؤهما ولا يستطيع أن يدخل إليهما، لكن ينـزل في سبخة من السباخ القريبة من المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه فيها كل كافر ومنافق}.

إذاً قوله عليه الصلاة والسلام: {فيخرج إليه كل كافر ومنافق} دليل على أنه هذا درس وعبرة كبيرة -أيها الأحبة- أنه حتى في الزمان الذي يخرج فيه الدجال، وهو أكثر الزمان ظلمةً وقترةً وسواداً وفساداً وفتنة، حتى في ذلك الوقت يكون في المدينة المنورة، وفي جزيرة العرب، أناس كثيرون يحتاجون إلى النفاق، لماذا يحتاجون إلى النفاق؟ لماذا لم يجاهروا بكفرهم وردتهم وفجورهم؟ ذلك لوجود الخير، ووجود الشوكة للمؤمنين، والصالحين، والطيبين.

ولذلك حتى في زمان الدجال؛ المنافقون مستترون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون أن يُظْهِروا رءوسهم، أو يخافون على مصالحهم، ولذلك يستترون فإذا جاء الدجال كشفوا عن مقاصدهم ومآربهم، وكشروا عن أنيابهم، وخرجوا إلى الدجال في سبخة من السباخ المحيطة بـالمدينة.

ويكفي المدينة شرفاً وفضلاً وبهاءً ومكانة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن فيها بقعة من بقاع الجنة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عبد الله بن زيد المتفق عليه: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} وفي الحديث الآخر: {ومنبري على حوضي} فالرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن هذه البقعة المشرفة من مسجده صلى الله عليه وسلم أنها روضة من رياض الجنة، وهي اليوم تسمى: الروضة النبوية.

ومن الأماكن الفاضلة: الحجاز بشكل عام، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه مسلم: {إن الدين يأرز بين المسجدين -مسجد مكة ومسجد المدينة- كما تأرز الحية في جحرها}.

إذاً يحنّ الدين وينضم ويجتمع إلى بلاد الحجاز، إلى مكة والمدينة وما بينهما.

وفى حديث جابر -وهو في صحيح مسلم أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز} فحكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأن بلاد الحجاز وأرض الحجاز مأوى للمؤمنين، يفيئون إليها مرة بعد أخرى، وأن الإيمان في أهلها أكثر، ولا شك أن هذه ليست تزكية مطلقة؛ لأن أهل الحجاز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم كفار معاندون، وكان فيهم منافقون مستترون بنفاقهم وكفرهم، وكان فيهم وفيهم... ولكن الغالب عليهم يومئذ الإيمان.

وكذلك الحال بالنسبة لأرض اليمن، وهي جزء من جزيرة الإسلام، وجزء من جزيرة العرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة: {أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن هذه الفضائل.

و اليمن يشمل مواقع عديدة، حتى أهل المدينة هم في الأصل من اليمن، وكذلك ما تيامن عن الكعبة فهو يسمى ويعد من اليمن، وليس مقصوراً فقط على البقعة الجغرافية التي تسمى اليوم اليمن، بل الأمر أشمل من ذلك، ويشمل كل ما كان عن يمين الكعبة.

ومثله: بلاد الشام؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لها بالفضل، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وهو صحيح: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وذكر لأهل الشام فضائل أخرى، بل صنف فيه عدداً من أهل العلم كتباً خاصة.

جاء ذكر الجزيرة في أحاديث عدة، رأيت أن أسردها لكم مع شيء من التعليق عليها.

الجزيرة العربية عاصمة الإسلام

روى ابن عباس رضي الله عنه، كما في الصحيحين قال: {يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بلَّ دمعه الثرى، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد به وجعه، قال: ائتوني حتى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. قال: فاختلفوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فبعضهم قالوا: قربوا حتى يكتب لكم كتاباً. وبعضهم قالوا: ما شأنه صلى الله عليه وسلم؟ -استفهموا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فالذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه، ثم أوصاهم صلى الله عليه وسلم بثلاث:

الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.

والثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم -أي: أعطوا الوفود التي تبايع على الإسلام بمثل ما كنت أعطيهم- قال الراوي: ونسيت الثالثة} والثالثة كما ذكر أهل العلم، هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد، الذي وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام.

وفي حديث عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب } والحديث عند مسلم وفي رواية عند الترمذي قال: {لئن بقيت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب}. وعائشة رضي الله عنها تقول: [[آخر ما عهد للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا يترك بـالجزيرة دينان]].

لا يجتمع ولا يتساكن في جزيرة العرب دينان، وجزيرة العرب هي جزيرة الإسلام وجزيرة الإيمان، لا يساكنه فيها دين آخر أبداً. وحديث عائشة رواه أحمد، وسنده حسن.

ومثله حديث أبي عبيدة رضي الله عنه: {آخر ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: أخرجوا يهود الحجاز ونصارى نجران من جزيرة العرب }.

إذاً نص النبي صلى الله عليه وسلم على إخراج المشركين واليهود والنصارى، وبالذات يهود الحجاز، لأنهم كانوا موجودين في خيبر ونحوها، وكذلك النصارى كانوا موجودين في نجران، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم، والحديث رواه أحمد.

وروى مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان}.

هذا هو القسم الأول من النصوص الواردة في الجزيرة، وهي صريحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لهذه الجزيرة بأنها عاصمة الإسلام وبقعته، وتتميز عن كل بلاد الدنيا بهذا الحكم الخاص؛ أنه لا يجتمع فيها دينان، ولا يساكن الإسلام فيها ملة أخرى، لا شرك ولا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية، ولا غيرها.

وما ذلك إلا لأنها المنطلق الأول والأخير للإسلام، ولأن الله عزوجل كتب أن تكون هذه الجزيرة هي الدار، كما قال الله عزوجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9].

فهي دار الإيمان وبلاده وأرضه، التي يفيء إليها، ويأتي إليها أهل الإيمان من كل مكان وفى كل زمان.

تعليق على حديث: {إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب }

النوع الثاني من النصوص: ما رواه مسلم أيضاً، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم}. والحديث رواه مسلم، وقد جاء الحديث نفسه عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وجرير وأبو الدرداء وأبي بن كعب وعبادة بن الصامت وغيرهم، كلهم ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب}.

وهذا الكلام يحتمل أموراً منها:

أولاً: إن الشيطان يئس أن يعود أهل الجزيرة مرتدين كلهم، وإن وجد منهم ردة، ووجد فيهم شركاً، ووجد فيهم فساداً، لكن يئس الشيطان أن يرتد الناس كلهم عن الإسلام في هذه الجزيرة.

ثانياً: أن يكون المقصود الناس الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا، فإن الشيطان لما رأى انتشار الإسلام وعزته وقوته؛ يئس من رجوع الناس عن دينهم أو ردتهم عنه، واستسلم للأمر الواقع.

وذكر العلماء وجوهاً أخرى لهذا الحديث، ومنها:

أنَّ يأس الشيطان متعلق بالمصلين، فالذين يصلون وهم ورواد المساجد، قد يئس الشيطان منهم أن يعبدوه ويشركو في ولكنه رضي منهم بما دون ذلك، وهو التحريش بينهم، وإثارة العداوات والبغضاء، وملء القلوب بالإحن والضغائن، والكلام في الناس حتى تمتلئ القلوب بالضغائن والأحقاد.

هذا هو الذي تسلط به الشيطان على المؤمنين في هذه الجزيرة وفي غيرها، فنحن نرى المؤمنين وطلبة العلم -في كثير من الأحيان- يكون في قلوبهم الحسد البغضاء وسوء الظن والقيل والقال، إلى غير ذلك من الأشياء التي يوقد الشيطان نارها في قلوب المصلين، فيرضى منهم الشيطان بذلك ويكفيه منهم هذا.

تعليق على حديث: { عودة الجزيرة مروجاً وأنهاراً }

ومن النصوص الواردة في جزيرة العرب: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، وحتى يخرج الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها، ولا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً} وقوله عليه الصلاة والسلام: {حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً } يحتمل عدة أمور:

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود أن الناس ينشغلون في بعض الأزمنة بالحروب والمعارك والفتن ونحوها، عن الأرض والمزارع والمياه ونحوها، فيهملونها فتكون أنهاراً تسيح ليس لها أحد يهتم بها. وهذا ذكره النووي، وهو بعيد.

الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك بسبب عناية الناس بالزراعة، وحفرهم للآبار والعيون، وشقهم للترع ونحوها وزرعهم للأرض، وهذا ما نجد بوادره الآن في هذه الجزيرة؛ حيث اشتغل كثير من أهلها بالزراعة، وأخضر كثير من صحاريها الجرداء، وهو داخل -والله أعلم- في معنى الحديث.

الاحتمال الثالث: وهو من أقوى الاحتمالات: ما ذكره جماعة من العلماء المتخصصين في هذا العصر، أن هناك احتمالاً كبيراً أن تتحول الجزيرة -فعلاً- إلى أرض ذات هواء لطيف، وجو طيب، وهناك توقع لكثير من العلماء يقولون: احتمال مجيء ما يسمونه بالزحف الجليدي القادم من جهة الشمال إلى هذه الجزيرة، والذي يتسبب في تلطف هوائها، وحسن جوها، ومزيد اعتداله، وبناءً عليه يوجد في هذه الجزيرة فعلاً مروج حقيقية، وأنهار حقيقية، كما كانت موجودة فيها من قبل، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {حتى تعود جزيرة العرب } فقوله: (تعود) قد يدل بظاهره على أنها كانت مروجاً وأنهاراً في غابر الزمان، وتعود في آخر الزمان أيضاً مروجاً وأنهاراً، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فخالقها جل وعلا قادر على أن يفجر فيها الأنهار والعيون، وأن يحول جدبها إلى خصب، وأن يحول أراضيها الجرداء القاحلة إلى رياض خضراء مزهرة، والله تعالى على كل شيء قدير: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

ومن النصوص الواردة في الجزيرة العربية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رواه نافع بن عتبة، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله} إذاً المسألة بالترتيب أربعة أشياء، يا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام هكذا ذكر لكم نبيكم عليه الصلاة والسلام عملكم:

أولاً: تغزون -والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- جزيرة العرب، وهكذا كان، فإنهم غزوا الجزيرة حتى لم يمت النبي عليه الصلاة والسلام إلا ومعظم الجزيرة خاضع لحكم الإسلام، وجاءته الوفود من كل مكان ففتحها الله.

بعد ذلك انتقلوا إلى بلاد فارس، فغزوها ففتحها الله.

ثم انتقلوا إلى بلاد الروم، ولا زالت الحروب مع الروم ومع بلاد الروم.

ثم بعد ذلك الدجال وهو في آخر الزمان.

أربعة مراحل في تاريخ هذه الأمة، ذكرها صلى الله عليه وسلم، وظاهر من خلالها أن جزيرة العرب هي أول ما يفتح للإسلام، ويجتمع عليه أمر هذا الدين.

أيضاً من الأحاديث الواردة: حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوماً وهم يتذاكرون الساعة. فقال: ماذا تتذاكرون؟ قالوا: نتذاكر الساعة. قال صلى الله عليه وسلم: إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات} فذكر صلى الله عليه وسلم الخسف والدخان والدابة، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: {وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بـجزيرة العرب} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في جزيرة العرب خسف في آخر الزمان قبل قيام الساعة، ولعل هذا الخسف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، هو الخسف الذي بينه في حديث عائشة وأم سلمة وغيرهما، وهو في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يعوذ عائذ بالبيت} وفي أحد الأحاديث: {أنه صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام عبث في منامه -أي تحرك في منامه بحركة لم تكن معهودة منه- فلما استيقظ، قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! صنعت شيئاً لم تكن تفعله! قال عليه الصلاة والسلام: العجب أن ناساً من أمتي أو قوماً من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم}.

وفى رواية: {يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم} وفي رواية: {ثم لا ينجو منهم إلا الشريد الذي يخبر عنهم} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يسخر الأرض لنصرة قوم من أوليائه وحزبه وجنده، يعتصمون بذلك البيت ليس لهم منعة إلا سيوفهم واعتصامهم بالله جل وعلا وثقتهم به، فيؤمهم قوم، أي: يغزونهم ويقاتلونهم، وهم أقوى منهم وأقدر، فيسلط الله تعالى عليهم الأرض، فتفتح فمها ثم تبتلع هذا الجيش عن آخره، حتى يكون فيه أسواقهم ودوابهم ومن ليس معهم، والمجبور، والمستبصر، وابن السبيل، والتاجر وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم، يردون مورداً واحداً، ويصدرون مصادر شتى.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5141 استماع
حديث الهجرة 5027 استماع
تلك الرسل 4180 استماع
الصومال الجريح 4149 استماع
مصير المترفين 4127 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3981 استماع
مقياس الربح والخسارة 3931 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3875 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3840 استماع