مقاصد سورة فاطر
مدة
قراءة المادة :
33 دقائق
.
نور البيان في مقاصد سور القرآن"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".
(35) سورة فاطر
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلوات ربنا وتسليماته عليه وعلى آله وصحبه، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، علم الأمة والبشرية منذ بعثته عظمة الله تبارك وتعالى وهوان الشركاء الذين أشركهم الناس معه، علمهم كيف يعبدون ربهم وكيف يأتون إلى بيته الحرام معظمين من كل فجٍ عميق، بلغنا أذان سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ [الحج: 27]، يأتون مشياً وعلى كل وسيلة مواصلات هزيلةٍ ربما لا تبلغ بصاحبها فضلاً عمن امتلك وسيلةً سهلة، نشهد يا ربنا أنه تركنا على محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصل وسلم وبارك على هذا النبي المبارك وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين، وصلي علينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد..
عباد الله، فلا زلنا مع سلسلة الحديث عن مقاصد سور القرآن الكريم لنتخذ من كل سورةٍ رسالة مختصرة هي مقصد السورة وهدفها لنمضي به في هذه الحياة، عسى أن نعود إلى المصاحف ونتدبر السورة واحدةً بعد الأخرى لنرى ما فيها من الدروس والعبر، وربما يتيسر لنا لقاءٌ آخر من خلال هذا المنبر نستعرض فيه هذه الدروس فنسأل الله تعالى العون والتوفيق.
ومعنا اليوم سورة فاطر، وهي سورةٌ مباركةٌ سماها الله تعالى بهذا الاسم العظيم، كلمةٌ تعني الفطر بمعنى الشق، فطر الشيء إذا شقه، وخاصةً إذا كان هذا الشق لأول مرة ففيها معنى الإبداع والاختراع، فمن أبدع شيئاً لأول مرة فقد فطره، ومن اكتشفه وفعله قبل غيره لأول مرة فهذا أيضاً قد فطره[1]، وورد عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه عرف معنى هذه الكلمة، ولا غرابة فبعض القبائل تستعمل كلماتٍ بمعنى وقبائل أخرى تستعمل الكلمة نفسها بمعنى آخر، فعرف منها معنى الإبداع والاختراع من خلال خصمين جاءا يختصمان في بئر كلٌ يقول هذه بئري، حتى قال أحدهما أنا الذي فطرتها فحُكم له بها، فعرف أنه يقصد أنا الذي حفرتها أولاً، ولعله تركها بعض الوقت فجاء آخر وطهرها ونقاها وأعاد حفرها من جديد فظن أنها له، فحُكم بها للذي فطرها أول مرة وحفرها أول مرة[2].
وصف الله نفسه بهذه الكلمة ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ أي هو الذي خلق السموات والأرض لأول مرةٍ تُخلق فيها السموات والأرض، فلم يخلق أحدٌ سماءً ولا أرضاً قبل أن يخلقها الله، ولم تُخلق السموات والأرض قبل أن يخلهما الله، أول وجود لهما حين فطرهما الله تعالى وخلقهما، وأول من فعل ذلك وآخر من يفعله هو الله سبحانه وتعالى، فما لأحدٍ في ذلك من شرك أي اشتراك ولا مساهمة ولا معاونة لله تبارك وتعالى.
فسميت هذه السورة بهذا الاسم العظيم لأنه ورد في أولها كوصفٍ لله تبارك وتعالى ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[3]، ويقال لها أيضاً في التسمية سورة الملائكة لأن هذه السورة ذُكرت الملائكة في أوائلها وذُكرت بشيءٍ لم تذكر به الملائكة قبل ذلك في القرآن، من سورة الفاتحة إلى هنا لم تذكر الملائكة بما ذكرت به في سورة فاطر[4]، ذُكرت الملائكة قبل ذلك ببعض أوصافها ولكن هنا تُذكر ببعض خلقها، بوصف شيءٍ من خلقها ﴿ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا ﴾ أي للوحي، تبلِّغ الرسل في الأرض من البشر عن الله سبحانه وتعالى، ﴿ أُولِي أَجْنِحَةٍ ﴾ أي أصحاب أجنحةٍ ﴿ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ﴾ فكل ملكٌ له أجنحة وتختلف أجنحة الملائكة من ملكٍ إلى ملك، فكل ملكٍ له عدد، وقيل الله تعالى يُحدِث لأي ملكٍ أي عددٍ يشاؤه من الأجنحة فربما يبعثه في مهمةٍ بجناحيه ويبعثه في أخرى بخمسة أجنحة أو بعشرة أجنحة، وأقبل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تواعدا على الرؤية والمكاشفة في مكانٍ بمكة، جاء وأقبل وله ستمئة جناح، فهذا من زيادة الله أن نقصانه في الملك نفسه[5].
ذكر الله المثنى والثلاث والأربع، أي الجناحين والثلاثة أجنحة والأربعة أجنحة، وكنى عن الباقي عن الزيادات الباقية إلى ما شاء الله بقوله ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
فتسمى سورة فاطر لوصف الله نفسه فيها بأنه فاطر السموات والأرض، وتسمى سورة الملائكة لذكر وصفٍ لبعض خلق الملائكة وهو الأجنحة في هذه السورة دون غيرها مما سبق، أياً ما كان الأمر فإن كلمة فاطر هنا والتسمية بها هي الأرجح والأوضح والأليق[6]؛ ذلك لأن السورة مكيةٌ نزلت قبل الهجرة أيام تعليم الناس أركان العقيدة[7]، وكما عرفنا أن كل السور المكية تتكلم في هذا الباب العظيم، وتوضح ملامحه وتحدد أركانه وأسسه، وركزت السور المكية على أربعة أركان هي المهمة في تعلم العقيدة وتعليمها وكتابتها ووصفها في الكتب ينبغي أن يهتم الكتاب والشراح بذلك...
دون الخروج إلى مسائل خلافية...
الركن الأول معرفة الله تبارك وتعالى، الركن الثاني معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، الركن الثالث معرفة الرسالة، الركن الرابع والأخير معرفة يوم القيامة، ولكل واحدٍ من هذه الأربعة تفاصيل.
هذه السورة كما يبدو من اسمها، وكما يبدو من أولها وآخرها، الله فاطر السموات والأرض ويتصرف في الملائكة ويزيد لها في الأجنحة وينقص، وهو الرزاق الوحيد الذي يرزق العباد فليس للناس من يرزقهم إلا الله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾، إلى آخر السورة {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}، يعني ما أمسكهما، لا يستطيع أحدٌ الإمساك بالسموات والأرض إن أفلتهما الله، إن سيَّبهما، إن تخلى عنهما وعن ثباتهما لا يستطيع أحدٌ مهما كان أن يمسكهما لتستقر حياة الناس والخلائق بينهما، إلا أن يقول في آخر السورة ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾، ليلتقي مع قول الله في أول السورة ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
وهكذا يلتقي طرفا السورة على بيان عظمة الله سبحانه وتعالى، وهي عظمةٌ عظيمة لا تبدو من هذه الآيات فقط بل آياتٌ كثيرة في القرآن وصفت عظمة الله، ولا تزال عظمة الله أعظم مما سمعنا وأكبر مما عرفنا، لكن هذه إشاراتٌ وتذكيرات يذكرنا الله تعالى بها.
والسورة باسمها تدلّ على هذه العظمة أو تلك العظمة حيث وصف الله نفسه في اسم السورة بأنه فاطر السموات والأرض، وحينما تنظر أيها الإنسان إلى خلق السموات أو إلى خلق الأرض لا يتسع العمر أحبَّتنا الكرام، ولا تتسع العين لترى، ولا يكفي الجهد الإنساني في العمر كله لمتابعة خلق سماءٍ واحدة أو أرضٍ واحدة، إنما خلق السموات كبير جداً وخلق الأرض كبير جداً يفنى العمر وتعمى العين ويضع الجهد دون إدراكٍ لعظمة خلق السموات والأرض، ولذلك سألنا ربنا ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [النازعات: 27 - 33].
ويقول الله تعالى ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك: 3]، عد إلى السموات وانظر فيها هل ترى فيها شقوقاً كما تراها في أبنيتكم، ولئلا يدّعي أحدٌ أن عمره قصيرٌ لا يكفي لظهور تشققاتٍ في خلق السموات فلربما ظهر بعد عمري وبعد عمر من بعدي، فالله تعالى يقول له ولأمثاله: ﴿ ثُمَّ ﴾ على المدى البعيد وتراخي الزمان كما شئت ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ [الملك: 4] أي مكرراً مرةً بعد مرة دون عددٍ لمرات ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ أي لترى شقوقاً وصدوعاً وإنما ستكون النتيجة يرجع إليك البصر خاسئاً أي خاسراً، لم يفز بما كان يطلب، ولم يجد ما كان يبحث عنه، وهو حسيرٌ متحسر على ذلك الجهد الذي ضاع سدى، ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ ﴾ يعني يرجع، يرجع منقلباً بسرعة، فيها سرعة ﴿ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 4].
...
﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 57]، إذا كان هذا هو خلق السموات والأرض، خلقٌ عظيمٌ جداً أكبر وأعظم منا، فما بالك بمن فطر السموات والأرض، لا شك أن عظمته لا حدود لها ولا نهاية لها فهي عظمةٌ مطلقة، بينما هناك آلةٌ تعبد من دون الله لا حظ لها في العظمة ولا نصيب لها في الكرامة، في أواخر السورة يذكر الله تعالى ذلك قائلاً ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ ﴾ الحقيقة، الواقع الذي ينبغي أن تعلموه ﴿ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴾ لا يعد الظالمون أي الكافرون بعضهم بعضاً إلا غروراً، يعد بعضهم بعضاً أنه: لا قيامة ولا حساب، والجنة جنة الدنيا للغني المترف، وأن النار نار الدنيا للفقير المطحون الذي لا يملك قوت يومه ولا يملك أن يذهب لعبادة ربه في عمرة ولا شيء، لا يملك من أمر نفسه شيئا، هذا يعيش في النار، وأما المترفون فهم يعيشون في الجنة وهذا كله ينتهي بالموت فلا آخرة ولا بعث ولا جنة ولا نار...
هذا هو وحي الظالمين لبعضهم، قول الظالمين لبعضهم، وعد الظالمين لبعضهم، فيفتن بعضهم بعضا.
هذه السورة لبيان هذا الهدف تناولته على مراحل، بيَّنت عظمة الله تعالى كما قلنا، وذكرت مظاهر في الخلق تدل على ذلك، ذكَّرت الناس بنعمة الله الذي لا يُنعم عليهم غيره سبحانه، ذكَّرتهم بالرسل تذكيراً سريعاً وخاصةً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه إن كُذِّب فلا يغضب ولا يحزن فقد كُذِّب الذين جاؤوا من قبله أيضاً بالرسالات والبينات والكتب المقدسة، كُذِّبوا كلهم كذلك من أقوامهم فلا تغضب يا محمد ولا تحزن..
عليه الصلاة والسلام، وأكد الله على نبوته أنه مرسلٌ من ربه بالحق، وبالتالي بيَّنت السورة وفرقت بين أتباع المرسلين وغيرهم، فأتباع المرسلون على طريقهم وفي كرامتهم ويُكرمون معهم ومثلهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ لا خسارة فيها أبداً، فلو سُئلت ما هي التجارة التي لا تعرف الخسارة؟ هي التجارة مع الله...
تجارة لا تخسر أبداً، كل تجارةٍ معرضة للربح والخسارة إلا التجارة مع الله، فهي رابحة، فلا تحزن لا من حُجبت عن العمرة فأنت تتاجر مع الله إن كنت مخلصاً في طلبك لها نلت أجرها وأنت في بيتك وبلدك ووفر الله عليك مالك، فقل الحمد لله اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها، إن شاء الله تنال خيراً وترزق بعدها إن شاء الله عمرات.
لن يبقى بابٌ مغلقاً ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ﴾، إن بان لنا ذلك لحظة سوف يفتح الباب بعد ذلك لا حرج إن شاء الله والله على كل شيء قدير.
فالتجارة التي لن تبور، لن للمستقبل، للحال وللمستقبل، للأبد، لن تبور أبداً، فما خسرت شيئاً وإن ضاعت بعض أموالك في مصاريف التأشيرة وما إلى ذلك، فلك خَلَفٌ فيها بإذن الله يخلفها الله عليك في الدنيا ﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾، والله تعالى يعطيك ثواباً وأجراً بنيتك، فلن تبور تجارتك أبداً.
يبيِّن الله تعالى هؤلاء وأنهم جميعاً أتباع الرسل، كل من تبع على أي قدر ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ لم يفعل إلا الفرائض وقصَّر في شيءٍ منها، ﴿ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ﴾ فعل الفرائض فقط وأتقنها ولكن حرم نفسه من السنن والنوافل والتطوعات، ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ما ترك باب خير إلا وأنفق فيه، ما ترك فعلاً طيباً إلا وفعه بقدر استطاعته، ما ادخر جهداً ولا قصر في أمر، دائماً يتاجر مع الله بكل شيء، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ هؤلاء جميعاً الله يثبت لهم الفضل ولكن كلٌ على درجته، الفضل الكبير ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ يدخلونها جميعاً، الظالم لنفسه ببعض التقصير في الفرائض، والمقتصد الذي ما قصر في الفريضة وإنما ترك السنة، والسابق بالخيرات بإذن الله، الثلاثة يدخلون جنات عدن، ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ لذا قال بعض العلماء حُق لهذه الواو في كلمة يدخلونها تسمى في اللغة واو الجماعة، جمعت كل هذه الأصناف الثلاثة، ونحن المقصرون إن شاء الله نكون فيها ومعهم، يدخلونها حُق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، يعني حينما يقرأها القارئ ينبغي أن يذل لله وأن يشكر الله على فضله أن قبلنا في جنته مع تقصيرنا، مع قصور جهدنا، مع إهمالنا، مع السابقين بإذن الله.
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾، هؤلاء أتباع الرسل، لا حَزَن ولا خوف ولا بكاء على الدنيا ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا ﴾ أنزلنا وأقامنا فيه يوم القيامة ﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾، وانظر إلى الموقف الطريف الجميل الذي نتعلم منه الأدب واللياقة في الكلام والمعاملة، الله تعالى يثُبت الفضل لأتباع الرسل ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾، والله تعالى يثبت لهم هذا الفضل مع أن الفضل لله وحده لا شريك له، والمؤمنون أتباع الرسل يردون الفضل على الله، بل فضلك أنت يا رب ﴿ أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ ﴾، وكما جاء في آية أخرى ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ﴾ وهم يدخلون الجنة يقولون هذا ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾، الله يقول الفضل في ذلك لكم أنتم، أنتم تفضلتم وعبدتوني فهذا ثواب عملكم، والمؤمنون يقولون لا يا ربنا والله هذا فضلك أنت، لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، الفضل لك أنت.
ويذكر الله الكافرين والنار التي يحترقون فيها ويصطرخون فيها، يريدون أن يصرخوا فلا يجدون الصراخ، فالصراخ صعبٌ عليهم ومطلبٌ عزيز لا يجده أحدهم، لا يخرج له نفسٌ من الاختناق بدخان النار، وبالتالي لا يخرج له صوتٌ يستغيث به، فهو يصطرخ لا يصرخ، الذي يصرخ هذا نفسه يخرج ويحمل صوت صراخه فيبلغ الناس فربما ينقذه أحد، أما الذي يصطرخ فهو يطلب الصراخ ويتكلفه ولكن لا نفس يخرج ولا صوت يخرج، فلا يسمع به أحدٌ فلا يغاث إن استغاث، فلا يغيثه إلا الله سبحانه وتعالى بغيث عدله، بغيث عدله وانتقامه ﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾، فلا يعلم بصراخهم إلا الله فيغيثهم ويجب صراخهم الذي لم يسمعه أحد بعدله ﴿ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ﴾ ماء حار ﴿ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾ بئس هذا الشراب..
نعوذ بالله ﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾، وقالوا في التفسير يشوي الوجوه أي إذا أراد أحدهم أن يشرب بعض هذا الماء الذي هو كالمهل، الماء الحار، يشربه بفمه فيتصاعد بخار الماء من الإناء على جلدة وجهه فيسلخها ويحرقها ويسيل الجلد من سخونة بخار الماء فما بالك بالماء إذا دخل إلى الأمعاء ﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ نسأل الله العفو والعافية.
هؤلاء هم الذين خالفوا الرسل ويطلبون العودة إلى الدنيا، ويطلبون فترةً ملحقة، تعودوا على الدور الثاني، تعودوا على التأخر والتخلف فيريدون فرصةً أخرى إلى الدنيا ليعملوا صالحاً وليصلحوا ما أفسدوا، ولكن الله لا يجيبهم إلى هذا، انتهت دار الدنيا والدعاء والطلب، دار العمل والسعي والرجاء، إلى دار الجزاء، إلى دار الثواب والعقاب فلا رجعة لهم مرةً أخرى.
وتمضي السورة لبيان علم الله تعالى وعظمته سبحانه وتعالى وبيان أن الشركاء الذين يعبدهم الناس من دون الله لا يملكون شيئاً في خلق السموات والأرض، لأن الظالمين يُسوِّل بعضهم لبعض ويزين بعضهم لبعض في القول، فيغري بعضهم بعضاً، ويؤخذون جميعاً من شارع الضلال إلى نهاية الهاوية والهلاك والعياذ بالله.
ولا تزال السورة تحمل عنوان عظمة الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾ [فاطر: 41]، ويوم القيامة هؤلاء الكفار من طلبهم للعودة إلى الدنيا يقولون بالقسم ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ ﴾ وكانوا يقولون هذا الكلام في الدنيا قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو بُعث فينا نبي لاتبعناه ولكنا معه أهدى من الأمم كلها، من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم، لقد جاءكم النذير، لقد جاءكم الرسول البشير عليه الصلاة والسلام، لقد جاءكم ما كنتم تطلبون فلم تفعلوا شيئاً مما وعدتم به، ولم تتبعوا الرسول الذي جاءكم وهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، إذاً ﴿ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾.
وهكذا السورة تؤسس في القلب المؤمن رابطةً بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، الرب الحق والإله الحق الذي لا إله غيره، سورة فاطر أيها الأخوة الكرام ترتبط مع سورة سبأ كما رأينا ذلك عبر السور كلها، وما أجمل هذه الرابطة حين يختم الله تعالى سورة سبأ بقوله عن الكافرين: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾، لم يصلوا برأيهم وبمذهبهم واختراعاتهم وقراراتهم وقوانينهم إلى ما يشتهون، منع العمرة لم يمنع فيروس كذا ولا ضرر كذا بل هذه عبادة يستشفى بها ويستطبّ المؤمن بها، يشرب زمزم ماء الشفاء، يذهب إلى الله في بيته، فمثل هذا لا يصاب وإن أصيب فمرحباً بالمصاب، فما أجمل أن يموت الإنسان ملبياً محرمًا ليبعث يوم القيامة بهذا الشكل الجميل، ولكن ليس هذا هو السبب وإلا فالمصايف، ملاعب الكرة، هذه التجمعات الكثيرة على الهوى واللعب، هذه التجمعات بالملايين حول أغنية ومطرب، حول راقصٍ ولاهٍ، أهذا كله لا يؤدي إلى فيروس وإلى انتشار العدوى..
وإلى..
وإلى؟! قصرت العدوى على المتوضئين الطيبين المصلين الراكعين الساجدين الطوَّافين، القائمين لله في بيته، المعظمين له، والله لا يضيرهم الله أبدًا، ليس هذا هو، وسيبقى الفيروس رغم منع العمرة ولو مُنع الحج، نحارب من، ونمنع من؟ لابد أن نفكر قبل أن نقرر.
﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾، كان قومٌ أشد منا وأقوى منا تمكناً في الأرض وكانت لهم شهوات ورغبات ومصالح، يقصدون إليها وحيل بينهم وبين ما يشتهون، من الذي منعهم؟ من الذي حال بينهم وبين ما يشتهون ولم يصلوا إلى ما يريدون؟ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾، الله هو الذي فعل ذلك، فهو العظيم، هو الذي فطر السموات والأرض من قبل ذلك، هو الذي يخلق الخلق العظيم كالملائكة..
وهو يفعله دائماً، وقد هدد الله في هذه الأمة قائلاً في سورة الأنفال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ قلبك أيها الإنسان هو الذي تقرر به رغباتك وشهواتك وأهدافك وما تسمو إليه وما ترنو إليه، قلبك، الله يحول بين المرء وقلبه، يستطيع الله تعالى أن يمنعه من أن يتمنى، من أن يرجو، من أن يرى أمامه هدفاً، فيضله عن شيء يقصده، ويصرفه عن مقصده، ولا يوصله إلى غايته ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾، حيل فعلٌ ماضٍ مبني للمجهول، يعني لم يذكر فاعله في هذه الجملة، فهذه الجملة في نهاية سورة سبأ لم تذكر من الذي حال بين الكافرين وبين شهواتهم ورغباتهم وأهدافهم السامية النبيلة، كما يزعمون، من الذي فعل هذا؟ أول سورة فاطر ينطق بذلك.
ثم ملاحظة جيدة ينبغي أن نلتف إليها، بعد ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ يقول الله تعالى ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ حينما ترى الكافرين والعاصين والبغاة لا يصلون إلى أهدافهم افرح بنعمة الله، اسعد بنعمة الله، شُرع لك صيام يوم عرفة[8]، وشُرع لك صيام يوم عاشوراء، لماذا تصوم عاشوراء؟ لأن الله حال بين فرعون والفراعنة وبين قتل موسى، وهذه شهوة كانوا يشتهونها ورغبة كانوا يقصدونها حال الله بينهم وبينها، فصام ذلك اليوم اليهود شكراً لله على نجاة موسى، ونحن أيضاً تبعاً لنبينا عليه الصلاة والسلام، صامه قبل الهجرة وصامه بعد الهجرة ولكنه يومها أعلن عن سبب صيامه له، نحن أولى وأحق بموسى منكم يا يهود[9]، فنصومه لله شكراً على نجاة موسى، يعني على أن الله حال بينه وبين فرعون فلم يصل إليه بقوته وعنفوانه وجهده، إننا إن أردنا النجاة من الأمراض والأوبئة فالعودة إلى الله، العودة إلى الله وإلى القرآن هي الشفاء، هي الدواء، هي الوقاية والوقاء، العودة إلى الله تعالى هي السلامة، هي العافية في الدنيا والآخرة، هي طريق تحقيق الرغبات، ولذلك يدلنا الله تعالى على تعظيمه في هذه السورة، نعظمه من خلال تلاوة كتاب الله وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقنا الله، كما شرع الله لنا وكما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بين أيدينا.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
• • •
أيها الإخوة المسلمون الأكارم، هذه سورة فاطر تدلنا وتذكرنا بعظمة الله سبحانه وتعالى، وفي الحقيقة نحن المسلمين في هذه الأيام نحتاج إلى مثل هذه التذكرة وإن كانت نازلةً للكافرين وخطاباً لأهل مكة المعرضين، لكننا في هذه الأيام نكاد لا نقدر الله حق قدره، ولا نعظِّم الله تعالى حق تعظيمه، والله تعالى قد أمر بهذا في القرآن كثيرا وبيَّن المؤشر عليه، فقال ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾، تعظيم حرمات الله وتعظيم شعائر الله هذا من تعظيم الله تبارك وتعالى ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾، تعظيم حرمات الله وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، من تعظيمنا لله، وهذه مسألةٌ عقلية فالله لا يكلف إلا بما في الوسع والطاقة، فلن يكلفنا إلا بما تستقبله عقولنا نحن البشر، لم يكن التكليف شيئاً صعباً ولا غريباً ولا عجيباً، فإن العقول البشرية أنتجت قولاً مما يقال عنه الأمثلة الشعبية، قال الناس في كلامهم هذا كرامة العبد من كرامة سيده، يعني لو كرَّمت عبدك أو خادمك أو الصبي الذي يعمل في عملك عندك تحت يدك، لو جاءني من طرفك وكرَّمته فقد كرَّمت من؟ كرمتك أنت، وإن جاءني فأهملته وأهنته ورددته فإنما أهنتك أنت ورددتك أنت ولم أجبك أنت، فالمعاملة هنا مع هذا الشخص معاملة صورية إنما حقيقتها مع من أرسله وبعثه، هذا منطقٌ عقلي أنتجه الناس من عقولهم والشرع جاءنا بمثل ذلك، بما يقره العقل، بما يستوعبه العقل، الله لا تدركه الأبصار سبحانه وتعالى، الله ليس كمثله شيء، الله لا نراه، لا نسمع له صوتاً...
فلا نستطيع التعامل المباشر من طرفين مع الله، إنما التعامل مع الله عن طريق التعامل مع رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد مات الرسول من بيننا صلى الله عليه وسلم، صار التعامل في أيامنا مع الله من خلال التعامل مع رسالته التي أنزلها وبعثها واختار لها كل شيءٍ اختياراً دقيقاً، اختار لها الزمان والمكان والرسول الذي ينزل بها من الملائكة والرسول الذي يحملها من البشر، واختار لها أحسن كتبه وأفضل كلامه واختار لها كل شيء، شهر رمضان وليلة القدر من الزمان، كل شيء، مكة أفضل بقاع الأرض، هذه الرسالة العظيمة التعامل معها تعامل مع الله مباشرةً، فعلى قدر تعظيمنا لأمر الله يكون تعظيمنا لله عز وجل، وعلى قدر إهمالنا لشريعة الله يكون إهمالنا لحق الله وجناب الله سبحانه وتعالى.
هذا هو المؤشر الذي نلاحظ به مدى تعظيمنا لله، هل نحن فعلاً كما نقول، أو أننا نخالف ما نقول، نقول قولاً ونفعل فعلاً آخر، وعلى سبيل المثال بلغني على سبيل الكلام العارض أن شيخاً من الشيوخ الأفاضل كان يعطي درساً في مسجد بذات يومٍ من أيام الدروس لم يجد أمامه إلا عشرة رجال أو بضعة عشر رجلاً، من عشرة إلى خمسة عشر تقريباً فغضب جداً أين الناس، أين ذهبوا؟ فاعتذر بعض الحاضرين لفضيلته وقال والله يا شيخ لعلك لا تدري اليوم أو الليلة هناك ماتش، فالناس منشغلون بالماتش عنك، فغضب الشيخ وترك الدرس ولم يعد إليه، عقوبةً للناس، قال: أناسٌ لا يريدون العلم فعلمي أنزّهه عن ذلك، وهذا له أصلٌ في القرآن ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾ [عبس: 5، 6] يجلس في المسجد ينتظر الناس حتى ينتهوا من الماتش ويعودون إليه إن عادوا أو لا يعودون، كلا لا تفعل ذلك، غضب الشيخ، بعض الحاضرين غضب من الشيخ لا من الجمهور، وكان الأصل أن يغضبوا من جمهور الناس، في الصلوات التالية في الفرصة القادمة قبل الدرس الآخر كان ينبغي أن تقوم إدارة المسجد، أن يقوم بعض الناس، أن يكلم كل واحد صاحبه، أين كنت يا أخي ليلة كذا، فاتك خيرٌ كثير، فاتك عمرك، ماذا؟ الشيخ أعطانا درساً عظيماً جداً، كان ينبغي أن تسمع، أين كنت؟ في ماتش، وماذا يفعل لك الماتش، حرقت أعصابك، ضيعت وقتك، غضبت من إخوانك وأصحابك، هذا هو الذي حصلته لكن لو جلست مع الجالسين في المسجد ولم تتعلم شيئاً ولم تستفد شيئاً ولم تحفظ شيئاً عن الشيخ خرجت مغفوراً لك على الأقل، "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"[10]، يكرمه الله مع المكرمين، فأي ذلك خير؟!
فتعظيم الناس لمشاهدة ماتش على سبيل أو عن طريق تلفاز، لن يرى مباشرةً وبعضهم يذهب لذلك مباشرةً ولكن على شاشةٍ صغيرةٍ على الأقل، يستبدل هذا بدرسٍ في شريعة الله، بسماع معلومةٍ في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أحد طلاب العلم ذهب لأحد الشيوخ يوماً في الصباح، بكَّر له فالبكور بركة، وسأله عن مسألةٍ، مسألة في اللغة العربية في لغة القرآن، ليست مسألة في دخول الجنة، ليست مسألة في البعد عن النار، إنما هي مسألةٌ علمية وسيترتب عليها خير وإن كانت بعيدةً عن الجنة والنار، فسأله عنها فقال له الشيخ لا أجيبك حتى تقيم عندي اليوم وأعطيكها آخر النهار، مساومة ترضى خير وبركة لا ترضى انصرف، لا أعلمك الآن، وإذا بالطالب ينتظر إلى آخر النهار حتى يأخذ المعلومة من شيخه وأخذها، لولا صبره هذا ربما ما بلغتنا، فالعلم، علم الشريعة، كثيرٌ من الناس لا يحسن الوضوء....
امرأةٌ تسأل سؤالاً يدل على مدى الجهل في الأمة وخاصةً في النساء، تقول: أريد أن أعرف الفرق بين حال المرأة وهي بنت قبل الزواج، لماذا لا تقضي ما عليها من صلاةٍ أيام الحيض تصلي وتصوم أيام الحيض وإذا تزوجت وجب عليها الإفطار أيام الحيض وأيام النفاس وتقضي صيامها ولا تقضي صلاتها، فما الفرق بين البنت والمتزوجة، لماذا هذه لا تفطر ولا شيء وتصلي أيام الحيض وهذه لا تصلي؟! من أين جاءت بهذه المعلومة، من أين هذه الفتوى، لأن الناس أهملوا دين الله دخلت إليهم واندست إليهم فتاوى باطلة، واعتقدت هذا وفهمته وتريد أن تسأل عن الحكمة في ذلك، بينما الجواب أنه لا فرق بين البنت ولو صغيرة، وبين المرأة ولو كبيرة طالما يأتيها الحيض فيحرم عليها أثناء الحيض الصلاة والصيام وإمساك المصحف بغير حائل، ودخول المساجد والجلوس فيها، وهكذا لها نظامٌ معين في دين الله، متزوجة أو غير متزوجة، لكن الناس فهموا خطئاً.
بلَّغني شابٌ وكان من رواد هذا المسجد، بلَّغني أنه في صبيحة عرسه كان صابحاً يوم الجمعة هكذا فنزل بالثوب الأبيض، عروس ويذهب لعيد الجمعة فلابد أن يلبس أبيض، لبس الملبس الأبيض وأراد أن ينزل إلى صلاة الجمعة مع والده الذي هو ضيفٌ عنده، فقال له والده: أين تذهب يا بني؟ قال: أنزل لصلاة الجمعة يا أبي، قال: هل عليك صلاةٌ أصلاً حتى تصلي الجمعة؟ يا بني لا تنزل من بيتك ولا من عند عروسك أسبوعاً كاملاً لا صلاة عليك ولا شيء...
ما هذا وعلام يدل؟ يدل على جهل عظيم وعميق، هذا مثالٌ من النساء وذاك مثالٌ من الرجال فكيف بالأطفال، أين تعظيم الله فينا؟
شابٌ يبكي والله وهو يسأل، يبكي بكاءً مرّاً وتتقطع كلماته من البكاء، يعني كما نقول يتشنهف بيبكي ويتشنهف مش لاحق يتكلم، لماذا؟ بلغت سنه أن يستخرج بطاقة وهو ذو لحيةٌ صغيرة فأبواه وأهله واقفون له بالمرصاد لابد أن تحلق لحيتك قبل أن تستخرج البطاقة، وما أدراكم لعله لو حلق لحيته أثار الشك حوله لماذا حلقها، وماذا يريد أن يصنع، لماذا يغير شكله؟ اتركوا الأمور على حالها، فلن يصاب كل مسلم ولو أصيب فهو في سبيل الله ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، فتحمل في سبيل الله، ألا تعظّم الله، عظّم أمره إذاً، عظم سنة نبيه إذاً صلى الله عليه وسلم، عظم كل صغيرةٍ وكبيرةٍ بشريعته فإنه مهما كان الأمر سنة أو هيئةً في الدين فهو أفضل مما تنتجه عقولنا وتستخرجه آراؤنا.
[1] انظر: لسان العرب (5/ 55).
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1682) وابن جرير (11/ 283) وغيرهما، وانظر: الدر المنثور (7/ 3).
[3] انظر: التحرير والتنوير (22/ 247).
[4] انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 153).
[5] أخرجه النسائي في الكبرى (11540)، والترمذي (3278)، وأحمد (3915)، بسند حسنه الأرناءوط، وانظر البداية والنهاية: (1/39)، قال في هذا الحديث: (إسناده جيد).
[6]انظر: التحرير والتنوير (22/ 247).
[7] انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطيّة: (4/ 428).
[8] انظر: صحيح مسلم (1976)، وسنن أبي داود (2425).
[9] أخرجه البخاري (3216)، ومسلم (1910).
[10] أخرجه البخاري (6045)، ومسلم (2689).