مقدمة في الفقه - تعبد الإمام الشافعي واجتهاده


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد كانت حال الإمام الشافعي كحال الإمامين المتقدمين، وكحال الإمام الرابع الذي سيأتينا، ساداتنا الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، فلهم صلة قوية برب البرية سبحانه وتعالى، فاستمعوا لبعض أخباره في ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

خشوعه وبكاؤه من خشية الله

روى الإمام ابن حجر كما في توالي التأسيس صفحة ثمان وتسعين، والقصة انظروها في طبقات السادة الشافعية الكبرى في الجزء الثاني صفحة إحدى عشرة ومائة، وقال: إسناد الأثر جيد، عن بحر بن نصر ، وهو بحر بن نصر بن ثابت الخولاني المصري، توفي سنة سبع وستين ومائتين، مترجم في التقريب، قال عنه الحافظ في التقريب: أبو عبد الله ثقة، ثم رمز له (س ك ن)، إشارة إلى أنه من رجال النسائي في مسند مالك ، فللإمام النسائي كتاب في مسند الإمام مالك ، في الرواة عن الإمام مالك كما للإمام الدارقطني كتاب في ذلك، وللخطيب كتاب في ذلك، فلم يروَ له في الكتب الستة، إنما روى له النسائي في مسند مالك ، ولذلك ذكره الحافظ في التقريب وقال: إنه ثقة، وانظروا ترجمته في السير في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وخمسمائة، وقال: هو الإمام المحدث الثقة، بحر بن نصر من تلاميذ الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، يقول هذا العبد الصالح: كنا إذا أردنا أن نبكي -انظروا إلى أحوال أئمتنا وخشوعهم وإخلاصم وصلتهم بربهم رضي الله عنهم وأرضاهم- قال بعضنا لبعض: قوموا إلى مجلس أبي عبد الله المطلبي ، إلى مجلس الإمام الشافعي . الذي يريد البكاء نحضر عنده قليلاً حتى يذكرنا بالآخرة، قال: فكنا إذا جئنا عنده استفتح القرآن، فنتساقط ويكثر عجيجنا، نتساقط: أي: يغمى علينا عندما يقرأ القرآن بصوته العذب الخاشع، نتساقط ويكثر عجيجنا، صراخنا عويلنا بكاؤنا نحيبنا نشيجنا، إذا أراد المسلمون أن يبكوا في ذلك الوقت يذهبون إلى مجلس الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

قراءته القرآن وقيامه الليل

كان كما في توالي التأسيس صفحة ثمان وتسعين، والأثر في مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ، وفي مناقبه وآدابه للإمام ابن أبي حاتم ، وانظروه في السير في الجزء العاشر صفحة تسعين: كان رضي الله عنه وأرضاه يختم القرآن كل يوم مرة، فإذا صار شهر رمضان ضاعف العدد، يختم مرتين، ستين ختمة في شهر رمضان.

وتقدم معنا هذه البركات التي تحصل لأئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين من باب إكرام الله لهم، وفي نشر الزمان وتوسعة الوقت لهم، والله على كل شيء قدير، وهذا الختم الذي كان يفعله الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كان يختم ختمة في كل يوم، وفي رمضان ختمتين، كان يختم الختمة والختمتين في صلاته أيضاً، قال: يفعل كل ذلك في صلاته، يقع منه ذلك في صلاته رضي الله عنه وأرضاه، سوى ما يقرأ بعد ذلك في الصلوات المفروضة وفي النوافل التي هي رواتب، هذا في تهجده رضي الله عنه وأرضاه، وقد تقدم معنا مثل هذا عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكثيراً ما كان يختم القرآن بركعة واحدة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

وكان رضي الله عنه وأرضاه كما في الحلية وغير ذلك، انظروا الأثر أيضاً في السير في الجزء العاشر صفحة خمس وثلاثين، كان يقسم ليله إلى ثلاثة أقسام: ثلث لمدارسة العلم والتصنيف والتأليف، وثلث للتهجد لقراءة القرآن وذكر الرحمن والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وثلث للنوم. قال الذهبي معلقاً على أحواله الثلاثة: قلت: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية، ثم هذا النوم -يعني عندما ينام- يستعين به على الأمرين على العلم والعبادة. ونومه أيضاً عبادة عندما يحصل له في نومه ما يعجز عن تحصيله في يقظته، وتقدم معنا في ترجمة الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه ما نام نومة إلا رأى النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، طاعة في نوم ويقظة، صارت أحوالهم كلها مباركة رضي الله عنهم وأرضاهم.

هذه الحالة للإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كانت تلازمه في السفر وفي الحضر، روى الإمام البيهقي في المناقب، وهكذا الإمام ابن عبد البر في الانتقاء صفحة تسعين، وانظروا الأثر في السير في الجزء العاشر صفحة ثمان وخمسين، عن الربيع بن سليمان ، قال: حججنا مع أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم، فكان إذا ارتقى شرفاً وهبط وادياً يبكي. لا يرتقي شرفاً مرتفعاً أكمة ولا يهبط وادياً إلا ويبكي، يقرأ القرآن ويذكر الرحمن ويبكي، هذا حاله في سفره وفي حضره.

إخلاصه لله تعالى

إخوتي الكرام! العبادة لله والإخلاص له شأن عظيم في حياة الإنسان، فالإنسان يُعان ويُوفق بمقدار عبادته، وبمقدار إخلاصه لربه، يُحفظ العبد على قدر نيته، والله يقول في كتابه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].

ذكر أئمتنا الكرام في ترجمة شيخ الإسلام حفص بن غياث ، وتقدم معنا حاله توفي سنة خمس وتسعين بعد المائة، وحديثه في الكتب الستة، إمام فقيه مبارك، عندما نظر أبو يوسف رضي الله عنه أجمعين في أقضيته وتأملها، قال: حفص ونظراؤه يُعانون بقيام الليل، حفص أراد بعلمه ربه سبحانه وتعالى، فوفقه الله وسدده، أراد بعلمه وجه الله، فوفقه الله، حفص ونظراؤه يُعانون بقيام الليل، وهكذا هذا الإمام المبارك أبو عبد الله الشافعي وسائر أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين جمعوا بين العلم والعمل، واكتملت فيهم هذه القوة النظرية العلمية والقوة العملية الإرادية الطلبية رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

أما ما يدل على إخلاصه لربه سبحانه وتعالى فهذا كثير، من ذلك: ما ثبت في كتاب مناقب الشافعي للإمام البيهقي، والأثر أيضاً في كتاب مناقب الشافعي وآدابه للإمام ابن أبي حاتم ، وهو في توالي التأسيس في صفحة ست ومائة وست وأربعين ومائة، وهو في السير وفي غير ذلك، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: وددت لو أن الخلق كلهم تعلموا كتبي وما نُسب إلي حرف منها. يتعلمون ما في هذه الكتب ويعملون به، ولا يقال: هذا علم الشافعي ، إنما تحصل لهم الهداية، وينتفعون، وأنا أحصِّل أجراً عند الحي القيوم، ولا أريد في هذه الحياة ذكراً ولا مباهاة ولا فخراً، وددت لو أن الخلق كلهم تعلموا كتبي وما نُسب إلي حرف منها!

قارن بين هذا وبين أعمالنا في هذا الحين، ومتاجرتنا بدين رب العالمين، لا يرضى الواحد منا في هذه الأيام أن يؤلف كتاباً وأن يبيعه بثمن مرتفع، لا, بل يحرم بعد ذلك نشره والاقتباس منه، وتصوير صفحات منه، على تعبيرهم: حقوق الطبع محفوظة! أما أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم فما طلبوا عرَض الدنيا على علمهم، بل الواحد يتمنى لو أن الخلق كلهم تعلموا علمه ولم يُنسب إليه حرف من ذلك, هذا هو حال من أرادوا الله بعلمهم، فخلَّد الله ذكرهم ورفع قدرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وكان يقول: لو تعلموا علمي ولم يُنسب إلي أؤجر عليه ولا أريد أن يحمدوني. أؤجر عليه، هذه أمنيتي، أن أنال الأجر عند الله، ولا أريد أن يحمدني أحد، هذا حقيقة دليل واضح على صدق وإخلاص هذا الإمام المبارك رحمة الله ورضوانه عليه.

وكان يقول كما في مناقب الإمام الشافعي أيضاً، وتوالي التأسيس صفحة أربع عشرة ومائة، وانظروا الأثر في السير في الجزء العاشر صفحة تسعة عشرة، قال: ما ناظرت أحداً على الغلبة. إذا تباحثت مع طالب علم مع شيخ مع إمام لا أقصد من المباحثة أن أغلبه، إنما أقصد أن يظهر الله الحق على لساني أو على لسانه، ما ناظرت على الغلبة لأتغلب عليه، وما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ! سبحان الله! يتمنى أن يكون الصواب مع من يناظره، وما ناظرت أحداً إلا وأحببت أن يسدد ويوفق ويعان، وأن يظهر الله الحق على لسانه.

هذا هو الإخلاص، يتمنى عندما يناظر أن يكون الحق مع من يناظره من أجل أن يستفيد علماً، وأن يحصل نفعاً، لا يناظر على الغلبة، وإذا تناظر اثنان في مسألة أو أكثر، وأرادوا وجه الله سيصلون إلى الحق ولابد، وأئمتنا يقولون دائماً: الاختلاف سببه إما جهل أو سوء قصد، فإذا كان سبب الاختلاف جهلاً، إذا ظهرت الحجة وسطعت واستبان الحق انتهى، كل واحد سوف يتبعه، وإذا كان سبب الاختلاف سوء القصد، فهذه بلية البلايا ورزية الرزايا: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:1-2].

فالحق ظهر، لكن القلوب ما تريده، فإذا كان الجهل وخفاء الحق هو سبب الاختلاف فهذه مسألة سهلة، إذا ظهر الحق سيهتدي الإنسان، لكن إذا كان السبب سوء قصد وخبث نية وفساد طوية، كلما زدت في الحُجج زاد في العناد والمحادة.

فانظر لهذا الإمام المبارك إذا ناظر أحداً يتمنى أن يسدد وأن يوفق وأن يعان وأن يظهر الله الحق على لسانه، وما ناظر على الغلبة، وما ناظر أحداً فأحب أن يخطئ، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

تواضعه لربه تعالى

ومن تواضعه لربه أنه كان يقول كما في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وخمسين، والأثر ينقله عنه قرينه وصاحبه الإمام المبارك سيدنا أبو ثور رضي الله عنه وأرضاه، وهو إبراهيم بن خالد ، يقال له: أبو ثور وأبو عبد الله ، وقد توفي سنة أربعين ومائتين بعد الإمام الشافعي بست وثلاثين سنة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهو من رجال أبي داود وسنن الإمام ابن ماجه ، وعندما يترجم في كتبنا يقال: إنه صاحب الشافعي ، ثقة، أبو ثور صاحب الشافعي ، ثقة.

يقول أبو ثور رضي الله عنه وأرضاه: سمعت الإمام أبا عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه يقول: ينبغي للعالم وللفقيه أن ينثر التراب على رأسه تواضعاً لله وشكراً له. يأخذ التراب ويضعه على رأسه، يتذلل لله، يعفر جبهته في التراب، دائماً يتواضع لله، يا عبد الله! اشكر الله، إذا كنت طالب علم على أن جعلك خليفة لرسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم تواضع لله، والإنسان يتواضع ويخشى الله بمقدار علمه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

إذاً: ينبغي للعالم للفقيه أن ينثر التراب على رأسه تواضعاً لله وخشية منه، تواضعاً لله وشكراً له، وتقدم معنا مثل هذا الكلام عن الإمام مالك في الموعظة الماضية، وتقدم معنا سابقاً مثل هذا الكلام عن شيخ الإسلام أيوب السختياني عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، وقلت: هذا مأثور عن أئمتنا، وبعض أهل اللغط في هذا الزمن المنحط قالوا: هذه بدعة, أن الإنسان يعفر وجهه في التراب أو ينثر التراب على رأسه! من الذي فعل هذا؟! ومن أين أتيتم بهذا؟!

يا عبد الله! هذا هو التواضع لله، هذا التذلل لله سبحانه وتعالى، وهذا مأثور عن أئمة الإسلام، عن أيوب السختياني ، عن الإمام مالك ، عن الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم، وكما قلت لكم: هو في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وخمسين في ترجمة الإمام الشافعي ، وينقله عنه صاحبه وقرينه وتلميذه الإمام أبو ثور ، قال الذهبي في ترجمة أبي ثور في السير في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وسبعين: هو الإمام الحجة الحافظ المجتهد مفتي العراق، ثم ختم ترجمته بأنه حجة بلا تردد, هذا ينقل عن قرينه وشيخه الإمام الشافعي : أن الفقيه والعالم عليه أن ينثر التراب على رأسه تواضعاً لله وشكراً له سبحانه وتعالى.

روى الإمام ابن حجر كما في توالي التأسيس صفحة ثمان وتسعين، والقصة انظروها في طبقات السادة الشافعية الكبرى في الجزء الثاني صفحة إحدى عشرة ومائة، وقال: إسناد الأثر جيد، عن بحر بن نصر ، وهو بحر بن نصر بن ثابت الخولاني المصري، توفي سنة سبع وستين ومائتين، مترجم في التقريب، قال عنه الحافظ في التقريب: أبو عبد الله ثقة، ثم رمز له (س ك ن)، إشارة إلى أنه من رجال النسائي في مسند مالك ، فللإمام النسائي كتاب في مسند الإمام مالك ، في الرواة عن الإمام مالك كما للإمام الدارقطني كتاب في ذلك، وللخطيب كتاب في ذلك، فلم يروَ له في الكتب الستة، إنما روى له النسائي في مسند مالك ، ولذلك ذكره الحافظ في التقريب وقال: إنه ثقة، وانظروا ترجمته في السير في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وخمسمائة، وقال: هو الإمام المحدث الثقة، بحر بن نصر من تلاميذ الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، يقول هذا العبد الصالح: كنا إذا أردنا أن نبكي -انظروا إلى أحوال أئمتنا وخشوعهم وإخلاصم وصلتهم بربهم رضي الله عنهم وأرضاهم- قال بعضنا لبعض: قوموا إلى مجلس أبي عبد الله المطلبي ، إلى مجلس الإمام الشافعي . الذي يريد البكاء نحضر عنده قليلاً حتى يذكرنا بالآخرة، قال: فكنا إذا جئنا عنده استفتح القرآن، فنتساقط ويكثر عجيجنا، نتساقط: أي: يغمى علينا عندما يقرأ القرآن بصوته العذب الخاشع، نتساقط ويكثر عجيجنا، صراخنا عويلنا بكاؤنا نحيبنا نشيجنا، إذا أراد المسلمون أن يبكوا في ذلك الوقت يذهبون إلى مجلس الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

كان كما في توالي التأسيس صفحة ثمان وتسعين، والأثر في مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ، وفي مناقبه وآدابه للإمام ابن أبي حاتم ، وانظروه في السير في الجزء العاشر صفحة تسعين: كان رضي الله عنه وأرضاه يختم القرآن كل يوم مرة، فإذا صار شهر رمضان ضاعف العدد، يختم مرتين، ستين ختمة في شهر رمضان.

وتقدم معنا هذه البركات التي تحصل لأئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين من باب إكرام الله لهم، وفي نشر الزمان وتوسعة الوقت لهم، والله على كل شيء قدير، وهذا الختم الذي كان يفعله الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كان يختم ختمة في كل يوم، وفي رمضان ختمتين، كان يختم الختمة والختمتين في صلاته أيضاً، قال: يفعل كل ذلك في صلاته، يقع منه ذلك في صلاته رضي الله عنه وأرضاه، سوى ما يقرأ بعد ذلك في الصلوات المفروضة وفي النوافل التي هي رواتب، هذا في تهجده رضي الله عنه وأرضاه، وقد تقدم معنا مثل هذا عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكثيراً ما كان يختم القرآن بركعة واحدة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

وكان رضي الله عنه وأرضاه كما في الحلية وغير ذلك، انظروا الأثر أيضاً في السير في الجزء العاشر صفحة خمس وثلاثين، كان يقسم ليله إلى ثلاثة أقسام: ثلث لمدارسة العلم والتصنيف والتأليف، وثلث للتهجد لقراءة القرآن وذكر الرحمن والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وثلث للنوم. قال الذهبي معلقاً على أحواله الثلاثة: قلت: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية، ثم هذا النوم -يعني عندما ينام- يستعين به على الأمرين على العلم والعبادة. ونومه أيضاً عبادة عندما يحصل له في نومه ما يعجز عن تحصيله في يقظته، وتقدم معنا في ترجمة الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه ما نام نومة إلا رأى النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، طاعة في نوم ويقظة، صارت أحوالهم كلها مباركة رضي الله عنهم وأرضاهم.

هذه الحالة للإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كانت تلازمه في السفر وفي الحضر، روى الإمام البيهقي في المناقب، وهكذا الإمام ابن عبد البر في الانتقاء صفحة تسعين، وانظروا الأثر في السير في الجزء العاشر صفحة ثمان وخمسين، عن الربيع بن سليمان ، قال: حججنا مع أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم، فكان إذا ارتقى شرفاً وهبط وادياً يبكي. لا يرتقي شرفاً مرتفعاً أكمة ولا يهبط وادياً إلا ويبكي، يقرأ القرآن ويذكر الرحمن ويبكي، هذا حاله في سفره وفي حضره.

إخوتي الكرام! العبادة لله والإخلاص له شأن عظيم في حياة الإنسان، فالإنسان يُعان ويُوفق بمقدار عبادته، وبمقدار إخلاصه لربه، يُحفظ العبد على قدر نيته، والله يقول في كتابه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].

ذكر أئمتنا الكرام في ترجمة شيخ الإسلام حفص بن غياث ، وتقدم معنا حاله توفي سنة خمس وتسعين بعد المائة، وحديثه في الكتب الستة، إمام فقيه مبارك، عندما نظر أبو يوسف رضي الله عنه أجمعين في أقضيته وتأملها، قال: حفص ونظراؤه يُعانون بقيام الليل، حفص أراد بعلمه ربه سبحانه وتعالى، فوفقه الله وسدده، أراد بعلمه وجه الله، فوفقه الله، حفص ونظراؤه يُعانون بقيام الليل، وهكذا هذا الإمام المبارك أبو عبد الله الشافعي وسائر أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين جمعوا بين العلم والعمل، واكتملت فيهم هذه القوة النظرية العلمية والقوة العملية الإرادية الطلبية رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

أما ما يدل على إخلاصه لربه سبحانه وتعالى فهذا كثير، من ذلك: ما ثبت في كتاب مناقب الشافعي للإمام البيهقي، والأثر أيضاً في كتاب مناقب الشافعي وآدابه للإمام ابن أبي حاتم ، وهو في توالي التأسيس في صفحة ست ومائة وست وأربعين ومائة، وهو في السير وفي غير ذلك، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: وددت لو أن الخلق كلهم تعلموا كتبي وما نُسب إلي حرف منها. يتعلمون ما في هذه الكتب ويعملون به، ولا يقال: هذا علم الشافعي ، إنما تحصل لهم الهداية، وينتفعون، وأنا أحصِّل أجراً عند الحي القيوم، ولا أريد في هذه الحياة ذكراً ولا مباهاة ولا فخراً، وددت لو أن الخلق كلهم تعلموا كتبي وما نُسب إلي حرف منها!

قارن بين هذا وبين أعمالنا في هذا الحين، ومتاجرتنا بدين رب العالمين، لا يرضى الواحد منا في هذه الأيام أن يؤلف كتاباً وأن يبيعه بثمن مرتفع، لا, بل يحرم بعد ذلك نشره والاقتباس منه، وتصوير صفحات منه، على تعبيرهم: حقوق الطبع محفوظة! أما أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم فما طلبوا عرَض الدنيا على علمهم، بل الواحد يتمنى لو أن الخلق كلهم تعلموا علمه ولم يُنسب إليه حرف من ذلك, هذا هو حال من أرادوا الله بعلمهم، فخلَّد الله ذكرهم ورفع قدرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وكان يقول: لو تعلموا علمي ولم يُنسب إلي أؤجر عليه ولا أريد أن يحمدوني. أؤجر عليه، هذه أمنيتي، أن أنال الأجر عند الله، ولا أريد أن يحمدني أحد، هذا حقيقة دليل واضح على صدق وإخلاص هذا الإمام المبارك رحمة الله ورضوانه عليه.

وكان يقول كما في مناقب الإمام الشافعي أيضاً، وتوالي التأسيس صفحة أربع عشرة ومائة، وانظروا الأثر في السير في الجزء العاشر صفحة تسعة عشرة، قال: ما ناظرت أحداً على الغلبة. إذا تباحثت مع طالب علم مع شيخ مع إمام لا أقصد من المباحثة أن أغلبه، إنما أقصد أن يظهر الله الحق على لساني أو على لسانه، ما ناظرت على الغلبة لأتغلب عليه، وما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ! سبحان الله! يتمنى أن يكون الصواب مع من يناظره، وما ناظرت أحداً إلا وأحببت أن يسدد ويوفق ويعان، وأن يظهر الله الحق على لسانه.

هذا هو الإخلاص، يتمنى عندما يناظر أن يكون الحق مع من يناظره من أجل أن يستفيد علماً، وأن يحصل نفعاً، لا يناظر على الغلبة، وإذا تناظر اثنان في مسألة أو أكثر، وأرادوا وجه الله سيصلون إلى الحق ولابد، وأئمتنا يقولون دائماً: الاختلاف سببه إما جهل أو سوء قصد، فإذا كان سبب الاختلاف جهلاً، إذا ظهرت الحجة وسطعت واستبان الحق انتهى، كل واحد سوف يتبعه، وإذا كان سبب الاختلاف سوء القصد، فهذه بلية البلايا ورزية الرزايا: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:1-2].

فالحق ظهر، لكن القلوب ما تريده، فإذا كان الجهل وخفاء الحق هو سبب الاختلاف فهذه مسألة سهلة، إذا ظهر الحق سيهتدي الإنسان، لكن إذا كان السبب سوء قصد وخبث نية وفساد طوية، كلما زدت في الحُجج زاد في العناد والمحادة.

فانظر لهذا الإمام المبارك إذا ناظر أحداً يتمنى أن يسدد وأن يوفق وأن يعان وأن يظهر الله الحق على لسانه، وما ناظر على الغلبة، وما ناظر أحداً فأحب أن يخطئ، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ومن تواضعه لربه أنه كان يقول كما في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وخمسين، والأثر ينقله عنه قرينه وصاحبه الإمام المبارك سيدنا أبو ثور رضي الله عنه وأرضاه، وهو إبراهيم بن خالد ، يقال له: أبو ثور وأبو عبد الله ، وقد توفي سنة أربعين ومائتين بعد الإمام الشافعي بست وثلاثين سنة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهو من رجال أبي داود وسنن الإمام ابن ماجه ، وعندما يترجم في كتبنا يقال: إنه صاحب الشافعي ، ثقة، أبو ثور صاحب الشافعي ، ثقة.

يقول أبو ثور رضي الله عنه وأرضاه: سمعت الإمام أبا عبد الله الشافعي رضي الله عنه وأرضاه يقول: ينبغي للعالم وللفقيه أن ينثر التراب على رأسه تواضعاً لله وشكراً له. يأخذ التراب ويضعه على رأسه، يتذلل لله، يعفر جبهته في التراب، دائماً يتواضع لله، يا عبد الله! اشكر الله، إذا كنت طالب علم على أن جعلك خليفة لرسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم تواضع لله، والإنسان يتواضع ويخشى الله بمقدار علمه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

إذاً: ينبغي للعالم للفقيه أن ينثر التراب على رأسه تواضعاً لله وخشية منه، تواضعاً لله وشكراً له، وتقدم معنا مثل هذا الكلام عن الإمام مالك في الموعظة الماضية، وتقدم معنا سابقاً مثل هذا الكلام عن شيخ الإسلام أيوب السختياني عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، وقلت: هذا مأثور عن أئمتنا، وبعض أهل اللغط في هذا الزمن المنحط قالوا: هذه بدعة, أن الإنسان يعفر وجهه في التراب أو ينثر التراب على رأسه! من الذي فعل هذا؟! ومن أين أتيتم بهذا؟!

يا عبد الله! هذا هو التواضع لله، هذا التذلل لله سبحانه وتعالى، وهذا مأثور عن أئمة الإسلام، عن أيوب السختياني ، عن الإمام مالك ، عن الإمام الشافعي رضي الله عنهم وأرضاهم، وكما قلت لكم: هو في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وخمسين في ترجمة الإمام الشافعي ، وينقله عنه صاحبه وقرينه وتلميذه الإمام أبو ثور ، قال الذهبي في ترجمة أبي ثور في السير في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وسبعين: هو الإمام الحجة الحافظ المجتهد مفتي العراق، ثم ختم ترجمته بأنه حجة بلا تردد, هذا ينقل عن قرينه وشيخه الإمام الشافعي : أن الفقيه والعالم عليه أن ينثر التراب على رأسه تواضعاً لله وشكراً له سبحانه وتعالى.

مما يدل على ديانة الإمام الشافعي وقوة صلته بربه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه: إجلاله للعلم وللعلماء، لحملة العلم، فكان يقدر أصحاب الحديث، حملة الآثار النبوية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه تقديراً خاصاً، وحقيقة لأهل هذا العلم صلة خاصة برسول الله عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن نعرف لهم قدرهم، حملة الآثار، رواة حديث نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، كان يقول كما في شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي صفحة ست وأربعين، وانظروا الأثر في الحلية، وفي توالي التأسيس في صفحة عشرة ومائة، وهو في السير في الجزء العاشر صفحة ستين، كان يقول: إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأنما رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية في شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي : إذا رأيت طالب حديث فكأنما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وحقيقة الأمر كما قال أئمتنا: أهل الحديث هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا.

أهل الحديث هم صحب النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

فهم ينقلون هذه الأنفاس الطاهرة المباركة التي خرجت من نبينا عليه الصلاة والسلام وقالت تلك الدُّرر والحكم الآثار النبوية الكريمة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، إذا رأيت طالب حديث.. إذا رأيت محدثاً، إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأنما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في الرواية الثانية.

وقال: أهل الحديث جزاهم الله خيراً، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. وهذا من تواضعه، هو محدث، وهو فقيه، وجمع بين الأمرين وبين الفضيلتين, انظر لتواضعه ولاحترامه لحملة حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: أهل الحديث جزاهم الله خيراً حفظوا لنا الأصل, الأصل في الاستدلال كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فهم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل, هذا يقوله هذا الإمام المبارك إجلالاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وتعظيماً لدين الله، عندما يحب حملة الآثار النبوية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وبلغ من تواضعه مع أئمة الإسلام ما كان يفعله مع شيخه الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنهم وأرضاهم، كما في توالي التأسيس في صفحة تسع عشرة ومائة وغير ذلك، وتقدم معنا الأثر سابقاً، أنه قال: كنت أتصفح الورق تصفحاً رفيقاً بين يدي الإمام مالك هيبةً منه وإجلالاً له؛ لئلا يسمع وقعها. يقلب الورق بلطف وهدوء من أجل ألا يتأثر الإمام مالك من حركة الورق، انظر لهذا الإمام، وهذه الديانة التي كانت في نفوس أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.

إخوتي الكرام! مع تلك العبادة وذلك الإخلاص وذلك التوقير، كان أيضاً على حذر واحتراس من كل مخالفة شرعية، ومن البدع الغوية الرديئة، فكان يقول والأثر متواتر عنه كما سيأتينا نقل كلام الإمام الذهبي في ذلك، رواه الإمام البيهقي في عدد من كتبه في مناقب الإمام الشافعي ، ورواه في الأسماء والصفات، ورواه في السنن الكبرى، ورواه في كتاب الاعتقاد على مذهب السلف، وهو في الحلية، وفي صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، أصل الكتاب للإمام أبي المظفر السمعاني ، واختصره الإمام السيوطي ، والمختصر مطبوع، والأثر في شرف أصحاب الحديث، وفي تبيين كذب المفتري، ورواه البغوي في شرح السنة، ورواه الإمام ابن عبد البر في الانتقاء، وفي جامع بيان العلم وفضله، قال الإمام الذهبي في العلو للعلي الغفار في صفحة واحدة وعشرين ومائة، وفي السير في الجزء العاشر صفحة تسع وعشرين: هذا الأثر متواتر، وقد تواتر عن هذا الإمام ذم الكلام وذم أهله، فهذه الآثار متواترة مقطوع بصحتها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، كان يقول: لو علم الناس ما في الكلام لفروا منه فرارهم من الأسد.

ويقصد بالكلام هنا -إخوتي الكرام- الكلام في صفات ذي الجلال والإكرام، والكلام في أصول الديانة على حسب العقل الذي لا يستند إلى الوحي، ما ابتدعه المتكلمون من اصطلاحات، وبعد ذلك حاكموا إليها الآيات وأحاديث نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام، من الجوهر والعرض وغير ذلك من الاصطلاحات الفارغة التي أحدثوها: لو علم الناس ما في الكلام لفروا منه فرارهم من الأسد.

وكان يقول: لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام. وقال: إن الكلام يلعن الكلام. أي: إن المنطق يتبرأ من علم الكلام، المنطق يذم علم الكلام، ولا يريده، وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام، ثم أنشد:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

فالعلم هو التفقه في النصوص الشرعية من الآيات القرآنية، وأحاديث نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام، العلم ما كان فيه قال حدثنا، تأثره وترويه عن السلف الكرام، وهو ثابت بالأسانيد الصحيحة الحسان، وما سوى ذاك وسواس الشياطين، اختراعات العقول وهوس البشر، وكما قلت: هذه الآثار متواترة عن هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! علم الكلام ذمه أئمتنا، لا لأنه اصطلاحات حادثة، فالاصطلاحات كما قرر أئمتنا لا مشاحة فيها، إنما ذموه لأن فيه إعمال العقل في شيء ليس من وظيفة العقل، كما تقدم معنا كلام الإمام مالك : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقلت: إنه بدعة لأمرين اثنين: بدعة لأنه لا يمكن للعقل أن يدركه، فليس من مجال العقل أن يبحث في هذه القضايا، والأمر الثاني: سؤال عما لم يقع فيه السلف الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فهو بدعة وهذيان.

يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي في الإحياء في مقدمة كتابه في كتاب العلم: وأما علم الكلام فقد يُظن أن فائدته كشف الحقائق على ما هي عليه، وهيهات هيهات أن يفي علم الكلام بهذا المطلب الشريف، فليس فيه إلا التخليط والتضليل، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي -على تعبير المتقدمين، أي: من عامي جاهل لا يميز بين حقائق الأمور، أو من محدث ليس عنده دراية بالمعقول على تعبير علماء الكلام- وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما توهمت وظننت أن الناس أعداء لما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد الخبرة، وتغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوزه إلى علوم أخرى. هذا يقوله الإمام الغزالي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

وهذا ما قرره الإمام الشافعي وغيره عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه: لأن يلق العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] 4383 استماع
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] 3679 استماع
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] 3661 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] 3541 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] 3309 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] 3293 استماع
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه 3260 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] 3260 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] 3214 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] 3168 استماع