مقدمة في الفقه - أدب الإمام مالك في فقهه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة ترجمة موجزة لإمام ثانٍ من أئمتنا الفقهاء الأربعة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهو سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا أننا سنتدارس ترجمته أيضاً ضمن أربعة أمور: فما يتعلق بنسبه وطلبه قد مر الكلام عليه، وما يتعلق بمنزلته وثناء أئمتنا عليه كنا نتدارسه، ووصلنا إلى آخر جزئية في هذا الموضوع أكملها في هذه الموعظة، ثم نتدارس بعدها الأمر الثالث في فقهه وطريقته في التفقه في الدين، والأمر الرابع في عبادته لرب العالمين.

إخوتي الكرام! أما فيما يتعلق بمنزلة هذا الإمام المبارك فتقدم معنا أنه نجم العلماء، وإذا ذُكر العلماء فمالك النجم الثاقب رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الحقيقة أعلى من أن يُذكر لبيان عدالته، فهو الذي يعدل ويوثق رضي الله عنه وأرضاه، وقد جعل الله له لسان صدق في هذه الأمة، ولذلك أشار أئمتنا إلى مرتبته ضمن مبحث العدالة في كتب المصطلح فقالوا:

وصححوا استغناء الشهرة عن تزكية كمالك نجم السنن

وهذه بعض أبيات في الألفية لشيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم الأثري العراقي رحمة الله ورضوانه عليه.

فأول طريق لإثبات العدالة: الشهرة بالخير والصلاح، واستفاضة ذلك على ألسنة الصالحين الطيبين، فمكانة الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه كمكانة النجوم في السماء يستضيء بها الناس في ظلام الليل، ولولا مالك وسفيان لذهب علم الرجال، وكما قلت مراراً: نتدارس تراجم أئمتنا لنشحذ عزائمنا، ولنتقرب إلى ربنا، ولتنزل الرحمات علينا، لا لنثبت عدالة الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين.

ثناء عبد الله بن وهب على الإمام مالك

آخر شيء إخوتي الكرام! كما قلت في المبحث الثاني عندنا ما يتعلق بمنزلته وثناء العلماء عليه، قول سيدنا عبد الله بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وقلت: هو من تلاميذه، ومن أقرانه، وهذا كلام من عاصروه، وتتلمذوا عليه، وعاشوا معه رضوان الله عليهم أجمعين، والإمام أبو محمد عبد الله بن وهب المصري إمام مصر، ومفتي بلاد مصر، وما نعت الإمام مالك أحداً بهذا الوصف إلا هذا العبد الصالح، وكان يكتب له: إلى مفتي بلاد مصر أبي محمد عبد الله بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة سبع وتسعين ومائة من هجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وكما قلت: كلهم عاصروه الإمام الشافعي، وقرينه سفيان بن عيينة، والأئمة الذين أثنوا عليه،كلهم ممن عاصره، وعاش معه، ونقل عنه، وجلس في مجلسه رضوان الله عليهم أجمعين، هذا عبد الله بن وهب ثقة عابد فقيه زاهد، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء التاسع صفحة ثلاث وعشرين ومائتين، نعته بقوله: هو الإمام شيخ الإسلام، كان من أوعية العلم، وكنوز العمل، وهو حجة مطلقة، وحديثه كثير في الصحاح وفى دواوين الإسلام.

وكان يقسم عمره إلى ثلاثة أقسام: قسم للرباط والغزو في سبيل الرحمن، وقسم لنشر العلم وتعليم عباد الله، والقسم الثالث للحج والاعتمار، وقد حج ستاً وثلاثين حجة رحمة الله ورضوانه عليه.

وسبب موته رقة قلبه، قُرئ عليه كتاب الأهوال فيما يتعلق بيوم الآخرة ولقاء ذي العزة والجلال فغُشي عليه، وما ملك نفسه، ثم لما استيقظ بقي أياماً عليلاً، ثم لحق بربه إلى رحمة الله ورضوانه، رضي الله عنه وأرضاه، هذا الإمام الذي هذا نعته، وهذا حاله، شيخ الإسلام، وحديثه في الصحاح ودواوين الإسلام، يقول: لولا مالك لضللت. وكان يقول: هداني الله بـمالك، ولولا أربعة لضل الناس -هذا من جملة كلامه - عمرو بن الحارث والليث بن سعد في بلاد مصر، والإمام مالك وابن الماجشون في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وكان لا يفتي في المدينة إلا هذان، الإمام مالك والإمام ابن الماجشون كما سيأتينا الإشارة إلى حاله رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا بأمر من السلطان في ذلك الزمان، أيام الخلافة الإسلامية العباسية، لا يفتي إلا الإمام مالك وابن الماجشون في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! هذا الكلام سديد محكم رشيد منقول عن هذا العبد الصالح المبارك، انظروه في المدارك في طبقات أصحاب سيدنا الإمام مالك ، في الجزء الأول صفحة إحدى وأربعين ومائة، ونقله عنه الإمام الخطيب في تاريخ بغداد في الجزء الثالث صفحة سبع، والإمام الذهبي كرره في عدد من الصفحات والمجلدات في سير أعلام النبلاء، ففي الجزء الثامن مثلاً أورده في صفحة خمس وسبعين، وصفحة إحدى عشرة ومائة، وصفحة ثمان وأربعين ومائة، وفى الجزء السادس أورده في صفحة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وعندما ينقل هذا الكلام يقره، إلا في المكان الأخير، فكأن الإمام الذهبي رضي الله عنه وأرضاه خشي أن يفهم الناس من هذا الكلام محذوراً، فعلَّق عليه بما هو مقبول كما أن ذلك الكلام مقبول، قال: لولا مالك ما اهتدينا، لولا هؤلاء الأربعة ما اهتدى الناس، لولا هؤلاء لضل الناس، قال: قلت: والله لولا الله ما اهتدينا ولا حرج ولا إشكال!

توجيه قول عبد الله بن وهب: هداني الله بمالك ولولا مالك لضللت

إخوتي الكرام! تقدم معنا في مبحث الهداية ضمن تفسير سورة الفاتحة عند قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أن الهداية نوعان: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وامتنان.

وهداية الدلالة والبيان نوعان: هداية غريزية موجودة في كل مخلوق لأجل أن يقوم بما خُلق له، كما قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، للإنسان ولغيره من الحيوان، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] إلى آخر الآيات الكريمات، فهذه هداية، والهداية الثانية: هداية تعريف وبيان، وهي تكون بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ ليكون الناس على المحجة البيضاء.

وهداية التوفيق والامتنان أيضاً نوعان: إلهام الله العبد ليختار الإيمان، وطاعة الرحمن، ليقوِّي بواعث الخير فيه، فهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سبحانه وتعالى.

والهداية الثانية: أن يهدينا ربنا جل وعلا يوم القيامة إلى منازلنا في جنات النعيم بفضله العميم الكريم سبحانه وتعالى، يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6]، هذه هداية، وهذه هداية.

فالهداية الأولى يملكها المخلوق، وهي في وسعه، كما قال ربنا لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].

والهداية الثانية لا يملكها إلا من بيده مقاليد الأمور، وهو العزيز الغفور: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، سبحانه وتعالى.

إذاً: قول الإمام عبد الله بن وهب: لولا مالك ما اهتديت. معناه: لولا هو ما وُفقت إلى الصواب، وما عرفت الهدى من الردى، وأشكل عليَّ الأمر، يوضح لنا هذا كلامه: قيل له: كيف؟ يعني: كيف اهتديت بـمالك؟

قال: أكثرت من الحديث فحيرني، ما عِت أميز المجمل من المبيِّن، والمحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ، والمتروك الذي لا يعمل بظاهره، أكثرت من الحديث فحيرني، فعرضت الأمر على الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه فقال: دع هذا، واترك هذا، واعمل بهذا، وبيَّن له ما الذي يُعمل به، وما الذي لا يُعمل به، مما رُوي ونُقل عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ولذلك كان هذا العبد الصالح يقول كما في المدارك في الجزء الأول صفحة ست وتسعين: الحديث مَضِلَّة إلا للفقهاء.

إخوتي الكرام! إذا لم يكن الإنسان فقيهاً، وما صحَّفَ لفظ الحديث، وقرأه قراءة سوية سديدة، فسيصحف في المعنى، ويتلاعب به، ولا يضعه في موضعه، أما إذا صحَّفَ اللفظ، وترتب على تصحيف اللفظ تصحيف في المعنى، فهذه بلية البلايا، ورزية الرزايا، كما هو حالنا وحال أمثالنا نسأل الله العافية. إذاً: الحديث مَضِلَّة إلا للفقهاء.

وكان يقول كما في كتاب الجامع للإمام ابن أبي زيد القيرواني: كل محدث ليس له إمام في الفقه فهو ضال. لأنه لم يضع حديث نبينا عليه الصلاة والسلام موضعه، ويتسور عليه بعد ذلك برأيه وفهمه، فيَضل ويُضل، ولذلك كان يقول: لولا مالك ما اهتديت، أكثرت من قراءة الحديث فحيرني، وبعض الأحاديث فيها شيء من التعارض في الظاهر، وأشرف مباحث علوم الحديث كما قال أئمتنا: علم مختلِف الحديث، كيف تجمع بين هذه الأحاديث وتعمل بها، وتوجه كلاً في وِجهة سديدة بحيث لا يتعارض كلام نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؟

إذاً: الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه جمع الإمامة في الفقه والحديث، هذا عدا عن الإمامة في الديانة والعبادة لله سبحانه وتعالى، فهو إمام عالم قانت فقيه محدث، جمع الله فيه خصال الخير كحال سيدنا أبي حنيفة، وكحال من بعده من الأئمة الشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد تقدم معنا كلام سيدنا سفيان بن عيينة أنه بعد مالك ستَخرُب المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، أي: هذا النور والضياء سيفقد منها، كما أنه فُقد أيضاً منها بموت نبينا عليه الصلاة والسلام، وأظلم فيها كل شيء كما ثبت هذا عن سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه في المسند وغيره، وهنا كذلك هذا الإمام الذي هو وراث النبي عليه الصلاة والسلام، وضُربت إليه أكباد الإبل من كل مكان، إذا مات فإن المدينة ستقع فيها ظلمة، ولا يراد من الظلمة الظلام الحسي كما يفهم أو يتبادر لأذهان بعض الأغبياء، لا يراد هذا إخوتي الكرام! إنما هذا العلم، وهذا النور، وهذه البهجة، وهذا الجد والحركة العلمية، هذه كلها ستذهب بموت هذا الإمام، وواقع الأمر كذلك

هذا إخوتي الكرام هو معنى الأثر الذي نُقل عن هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه.

ننتقل إلى الأمر الثالث فيما يتعلق بفقه سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكلامه في العلم عليه رحمة الله ورضوانه.

آخر شيء إخوتي الكرام! كما قلت في المبحث الثاني عندنا ما يتعلق بمنزلته وثناء العلماء عليه، قول سيدنا عبد الله بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وقلت: هو من تلاميذه، ومن أقرانه، وهذا كلام من عاصروه، وتتلمذوا عليه، وعاشوا معه رضوان الله عليهم أجمعين، والإمام أبو محمد عبد الله بن وهب المصري إمام مصر، ومفتي بلاد مصر، وما نعت الإمام مالك أحداً بهذا الوصف إلا هذا العبد الصالح، وكان يكتب له: إلى مفتي بلاد مصر أبي محمد عبد الله بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة سبع وتسعين ومائة من هجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وكما قلت: كلهم عاصروه الإمام الشافعي، وقرينه سفيان بن عيينة، والأئمة الذين أثنوا عليه،كلهم ممن عاصره، وعاش معه، ونقل عنه، وجلس في مجلسه رضوان الله عليهم أجمعين، هذا عبد الله بن وهب ثقة عابد فقيه زاهد، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء التاسع صفحة ثلاث وعشرين ومائتين، نعته بقوله: هو الإمام شيخ الإسلام، كان من أوعية العلم، وكنوز العمل، وهو حجة مطلقة، وحديثه كثير في الصحاح وفى دواوين الإسلام.

وكان يقسم عمره إلى ثلاثة أقسام: قسم للرباط والغزو في سبيل الرحمن، وقسم لنشر العلم وتعليم عباد الله، والقسم الثالث للحج والاعتمار، وقد حج ستاً وثلاثين حجة رحمة الله ورضوانه عليه.

وسبب موته رقة قلبه، قُرئ عليه كتاب الأهوال فيما يتعلق بيوم الآخرة ولقاء ذي العزة والجلال فغُشي عليه، وما ملك نفسه، ثم لما استيقظ بقي أياماً عليلاً، ثم لحق بربه إلى رحمة الله ورضوانه، رضي الله عنه وأرضاه، هذا الإمام الذي هذا نعته، وهذا حاله، شيخ الإسلام، وحديثه في الصحاح ودواوين الإسلام، يقول: لولا مالك لضللت. وكان يقول: هداني الله بـمالك، ولولا أربعة لضل الناس -هذا من جملة كلامه - عمرو بن الحارث والليث بن سعد في بلاد مصر، والإمام مالك وابن الماجشون في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وكان لا يفتي في المدينة إلا هذان، الإمام مالك والإمام ابن الماجشون كما سيأتينا الإشارة إلى حاله رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا بأمر من السلطان في ذلك الزمان، أيام الخلافة الإسلامية العباسية، لا يفتي إلا الإمام مالك وابن الماجشون في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! هذا الكلام سديد محكم رشيد منقول عن هذا العبد الصالح المبارك، انظروه في المدارك في طبقات أصحاب سيدنا الإمام مالك ، في الجزء الأول صفحة إحدى وأربعين ومائة، ونقله عنه الإمام الخطيب في تاريخ بغداد في الجزء الثالث صفحة سبع، والإمام الذهبي كرره في عدد من الصفحات والمجلدات في سير أعلام النبلاء، ففي الجزء الثامن مثلاً أورده في صفحة خمس وسبعين، وصفحة إحدى عشرة ومائة، وصفحة ثمان وأربعين ومائة، وفى الجزء السادس أورده في صفحة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وعندما ينقل هذا الكلام يقره، إلا في المكان الأخير، فكأن الإمام الذهبي رضي الله عنه وأرضاه خشي أن يفهم الناس من هذا الكلام محذوراً، فعلَّق عليه بما هو مقبول كما أن ذلك الكلام مقبول، قال: لولا مالك ما اهتدينا، لولا هؤلاء الأربعة ما اهتدى الناس، لولا هؤلاء لضل الناس، قال: قلت: والله لولا الله ما اهتدينا ولا حرج ولا إشكال!

إخوتي الكرام! تقدم معنا في مبحث الهداية ضمن تفسير سورة الفاتحة عند قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أن الهداية نوعان: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وامتنان.

وهداية الدلالة والبيان نوعان: هداية غريزية موجودة في كل مخلوق لأجل أن يقوم بما خُلق له، كما قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، للإنسان ولغيره من الحيوان، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68] إلى آخر الآيات الكريمات، فهذه هداية، والهداية الثانية: هداية تعريف وبيان، وهي تكون بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ ليكون الناس على المحجة البيضاء.

وهداية التوفيق والامتنان أيضاً نوعان: إلهام الله العبد ليختار الإيمان، وطاعة الرحمن، ليقوِّي بواعث الخير فيه، فهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سبحانه وتعالى.

والهداية الثانية: أن يهدينا ربنا جل وعلا يوم القيامة إلى منازلنا في جنات النعيم بفضله العميم الكريم سبحانه وتعالى، يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6]، هذه هداية، وهذه هداية.

فالهداية الأولى يملكها المخلوق، وهي في وسعه، كما قال ربنا لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].

والهداية الثانية لا يملكها إلا من بيده مقاليد الأمور، وهو العزيز الغفور: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، سبحانه وتعالى.

إذاً: قول الإمام عبد الله بن وهب: لولا مالك ما اهتديت. معناه: لولا هو ما وُفقت إلى الصواب، وما عرفت الهدى من الردى، وأشكل عليَّ الأمر، يوضح لنا هذا كلامه: قيل له: كيف؟ يعني: كيف اهتديت بـمالك؟

قال: أكثرت من الحديث فحيرني، ما عِت أميز المجمل من المبيِّن، والمحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ، والمتروك الذي لا يعمل بظاهره، أكثرت من الحديث فحيرني، فعرضت الأمر على الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه فقال: دع هذا، واترك هذا، واعمل بهذا، وبيَّن له ما الذي يُعمل به، وما الذي لا يُعمل به، مما رُوي ونُقل عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ولذلك كان هذا العبد الصالح يقول كما في المدارك في الجزء الأول صفحة ست وتسعين: الحديث مَضِلَّة إلا للفقهاء.

إخوتي الكرام! إذا لم يكن الإنسان فقيهاً، وما صحَّفَ لفظ الحديث، وقرأه قراءة سوية سديدة، فسيصحف في المعنى، ويتلاعب به، ولا يضعه في موضعه، أما إذا صحَّفَ اللفظ، وترتب على تصحيف اللفظ تصحيف في المعنى، فهذه بلية البلايا، ورزية الرزايا، كما هو حالنا وحال أمثالنا نسأل الله العافية. إذاً: الحديث مَضِلَّة إلا للفقهاء.

وكان يقول كما في كتاب الجامع للإمام ابن أبي زيد القيرواني: كل محدث ليس له إمام في الفقه فهو ضال. لأنه لم يضع حديث نبينا عليه الصلاة والسلام موضعه، ويتسور عليه بعد ذلك برأيه وفهمه، فيَضل ويُضل، ولذلك كان يقول: لولا مالك ما اهتديت، أكثرت من قراءة الحديث فحيرني، وبعض الأحاديث فيها شيء من التعارض في الظاهر، وأشرف مباحث علوم الحديث كما قال أئمتنا: علم مختلِف الحديث، كيف تجمع بين هذه الأحاديث وتعمل بها، وتوجه كلاً في وِجهة سديدة بحيث لا يتعارض كلام نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؟

إذاً: الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه جمع الإمامة في الفقه والحديث، هذا عدا عن الإمامة في الديانة والعبادة لله سبحانه وتعالى، فهو إمام عالم قانت فقيه محدث، جمع الله فيه خصال الخير كحال سيدنا أبي حنيفة، وكحال من بعده من الأئمة الشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد تقدم معنا كلام سيدنا سفيان بن عيينة أنه بعد مالك ستَخرُب المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، أي: هذا النور والضياء سيفقد منها، كما أنه فُقد أيضاً منها بموت نبينا عليه الصلاة والسلام، وأظلم فيها كل شيء كما ثبت هذا عن سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه في المسند وغيره، وهنا كذلك هذا الإمام الذي هو وراث النبي عليه الصلاة والسلام، وضُربت إليه أكباد الإبل من كل مكان، إذا مات فإن المدينة ستقع فيها ظلمة، ولا يراد من الظلمة الظلام الحسي كما يفهم أو يتبادر لأذهان بعض الأغبياء، لا يراد هذا إخوتي الكرام! إنما هذا العلم، وهذا النور، وهذه البهجة، وهذا الجد والحركة العلمية، هذه كلها ستذهب بموت هذا الإمام، وواقع الأمر كذلك

هذا إخوتي الكرام هو معنى الأثر الذي نُقل عن هذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه.

ننتقل إلى الأمر الثالث فيما يتعلق بفقه سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكلامه في العلم عليه رحمة الله ورضوانه.

إخوتي الكرام! كما رُئيت رُؤىً مبشرة لسيدنا أبي حنيفة، وأنه ينبش قبر النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأُوِّل هذا بأنه ينشر علم النبي، ويكون فقيه هذه الأمة، ويفقه حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هكذا رئيت رؤى متعددة لسائر الفقهاء الأربعة، فيما يتعلق بترجمة الإمام مالك أذكر بعضها، مع أن القاضي عياضاً عليه رحمة الله في ترتيب المدارك عقد باباً خاصاً في الرؤى التي رُئيت للإمام مالك تبشره بمكانته ومنزلته في هذه الحياة وبعد الممات عند رب الأرض والسموات، انظروها إخوتي الكرام في الانتقاء للإمام ابن عبد البر صفحة تسع وثلاثين، وفى المدارك في صفحة أربعين ومائتين من الجزء الأول.

ومن هذه الرؤى: أنه جاء رجل لسيدنا الإمام مالك وقال: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في مكانك الذي تجلس فيه، فقال: ائتوني بالإمام مالك، فجئت ترتعد فرائصك هيبة وإجلالاً للنبي عليه الصلاة والسلام ومنه عليه صلوات الله وسلامه، فقال لك: لا تخف أبا عبد الله، وكناك في الرؤيا، قال: فجلست، فقال: افتح حجرك، ففتحت حجرك فألقى فيه مسكاً يفوح، وقال: انشر هذا بين الناس. فبكى سيدنا مالك رضي الله عنه وأرضاه، وقال: إن صدقت رؤياك فهذا هو العلم الذي منَّ الله عليَّ به، ثم قال: الرؤيا تسر ولا تغر.

الإنسان يسر بها، لكن لا ينبغي أن يغتر بها، وينبغي أن يكون على خوف ووجل، فهذا سرور، وهذه عاجل بشرى المؤمن، الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له.

رؤيا ثانية حصلت له أيضاً: جاءه رجل وقال: يا أبا عبد الله! رأيت النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والناس حوله يقولون له: أعطنا يا رسول الله، مُنَّ علينا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، يطلبون منه، فقال لهم: إني قد وضعت كنزاً تحت المنبر. وفى رواية: وضعت كنزاً في قبري سيقسمه عليكم الإمام مالك، فخذوا منه الأعطيات، الذي سيوزع عليكم ميراث النبوة هو الإمام المبارك أبو عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه. فلما عُرضت عليه هذه الرؤية بكى بعد أن اعتراه الخوف والوجل، ورق حاله، وبدأ يبكي، فتركه صاحب الرؤيا ولا زال الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه على بكائه.

هذه من الرؤى المبشرة لهذا الإمام المبارك رضي الله عنه وأرضاه، وحقيقة هو أهل لذلك، وهو إمام دار الهجرة النبوية على منورها صلوات الله وسلامه بلا نزاع.