شرح عمدة الأحكام [76]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الأضاحي:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما)، قال رضي الله عنه: الأملح: الأغبر، وهو الذي فيه سواد وبياض].

أكثر الفقهاء يذكرون باب الأضاحي بعد الحج؛ وذلك لأنها مناسك، فيقولون: باب الأضاحي والهدايا والعقيقة؛ لأنها ذبائح تعتبر عبادة وقربة وطاعة، فكان الأنسب أن تذكر مع المناسك، ولأن الهدي ما يتقرب به إلى الله تعالى بمكة بعد المناسك في يوم النحر، بما يذبحون لله تعالى من القرابين، ومن الهدايا، فيناسب أن تذكر مع الهدي، ولكن كثير من العلماء -متقدمين ومتأخرين- ذكروا الأضاحي مع الأطعمة؛ لأن الأطعمة غالباً تكون من بهيمة الأنعام، يعني: الأطعمة التي في أكلها خلاف أو ليس في أكلها خلاف، فيذكرون المباح من الصيد ومن الوحش وما ليس بمباح، ثم يذكرون أحكام الصيد وطريقة الاصطياد، ومتى يحل ومتى لا يحل، ثم يذكرون الذكاة، وكيف يحل المذكى ومتى لا يحل، وبيان التذكية التي يباح بها المذكى، ثم يذكرون باب الأضاحي لمناسبتها.

فضيلة الأضحية وفوائدها

الأضاحي جمع أضحيّة أو أضحية أو ضحية، وهي الذبيحة التي تذبح في يوم عيد الأضحى، وبها سمي العيد، فالعيد الذي هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة يسمى عيد الأضحى، ويسمى يوم النحر؛ لأنه ينحر فيه من الهدي ومن الأضاحي ما يتيسر للمسلمين، ينحرونه ويذبحونه في ذلك اليوم قربة إلى الله تعالى، فالذين بمكة يتقربون بذبحها والصدقة بثمنها، والذين في خارج مكة يشاركونهم في هذه الذبائح، ويتصدقون منها، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذه الأضاحي؟ فقال: (سنة أبينا إبراهيم، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: بكل شعرة حسنة)، أو كما قال، فتبين بهذا أن فيها أجراً كبيراً، وأن الذي يقدمها ويجود بها يثاب عليها هذا الأجر، بكل شعرة حسنة، ومقدار الشعر لا يحصيه إلا الله، وكذلك ذكر أنها سنة أبينا إبراهيم، ويريد بذلك قول الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] وذلك أن الله تعالى ابتلاه أن يذبح ولده إسماعيل، حيث رأى في المنام أنه يذبحه، قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، وهذه القصة قيل: إنها كانت بمكة؛ وذلك لأن إسماعيل قد تركه أبوه مع أمه هاجر في مكة، فترعرع إسماعيل، وكان إبراهيم يجيء إليهم كل سنة، فلما بلغ معه السعي رأى في المنام وهو في المسجد الحرام قائلاً يقول: إن الله يأمرك أن تذبح ولدك إسماعيل، فانتبه وعرف أنها من الله، وليست من وساوس الشيطان، فأخبر ولده بذلك، وتوجه إلى منى ليكون الذبح فيها، فلما أضجعه واستسلم إسماعيل للذبح، عند ذلك ناداه الله تعالى: يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105]، ثم جاءه الملك بكبش، فذبحه فكاكاً لولده، ثم استمر إبراهيم عليه السلام على ذبح هذه الأضحية، وأحياها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في كل سنة يذبح أضحية مما تيسر، وفي هذا الحديث أنه كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، وفي رواية: موجوئين، والكبش هو ذكر الضأن، وفي بعض الروايات أنه يقول في أحدهما: (اللهم تقبل عن محمد وآل محمد، ويقول في الثاني: اللهم تقبل عن أمة محمد أو عمن لم يضح من أمة محمد)، فيجعله قربة لله تعالى، وقد ذكر الله تعالى أن الهدي يكون من بهيمة الأنعام في قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ [المائدة:2] فالمراد بالهدي ما يهدى إلى الله تعالى من بهيمة الأنعام، وكذلك في قوله تعالى: هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] فالصدقة بلحم الهدي سنة، يقول علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، وألا أعطي في جزارتها شيئاًمنها)، فأخذ من هذا أن الأضحية صدقة وقربة لما يلي:

أولاً: أنها إحياء لسنة أبينا إبراهيم الذي استمر على ذلك، فهي سنة إبراهيمية.

ثانياً: أنها سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد استمر عليها طوال ما كان بالمدينة، فكان يضحي كل سنة بكبشين أو بكبش إذا لم يتيسر غيره، فيطعمون ويتصدقون ويأكلون، فهي قربة وصدقة.

ثالثاً: أن فيها أجراً كبيراً، حيث إن فيها هذا الثواب وهذه الحسنات التي ذكرت في هذه الأحاديث.

رابعاً: ما فيها من التوسعة على المسلمين وعلى المساكين، وبالأخص في البلاد الفقيرة، فإنها تقع موقعاً، حيث إنهم يتلذذون بأكل هذا اللحم الطيب، ويكون غذاء لهم، وينتفعون به، وقد ينتفعون أيضاً بجلدها أو بصوفها أو نحو ذلك، ففيها أجر.

والأضحية سنة مؤكدة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها واجبة على من كان عنده قدرة أو سعة، واستدلوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا)، ولا شك أن في هذا دليلاً على آكديتها.

أنواع الأضاحي

الأضاحي تكون من الأنعام الثمانية التي ذكرها الله في سورة الأنعام: مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143] يعني: ذكر وأنثى، وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143] يعني: ذكر وأنثى، وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144] فمن الضأن الكبش والنعجة، ومن المعز التيس والعنز، ومن الإبل الناقة والجمل، ومن البقر الثور والبقرة، هذه هي الأصناف الثمانية، فلا يضحى بالدجاج، ولا يضحى بالظباء، ولا بالصيد، ولا بالسمك ونحو ذلك؛ لأنها ليست من بهيمة الأنعام التي تهدى إلى الله تعالى، وليست من البهائم التي سخرت للإنسان.

شروط الأضحية

لابد أن تكون الضحية بما يجزئ، فلا تجزئ الصغيرة التي لم تبلغ سناً ينتفع بها، وحدد ذلك في الإبل بخمس سنين، فإذا تمت السنة الخامسة فهي ناقة أو بعير يضحى به، وتجزئ البقر إذا بلغت السنتين، والمعز إذا بلغت سنة، والضأن إذا بلغت نصف سنة، هكذا حددت أسنانها.

ولابد أن تكون سليمة من العيوب الضارة التي تنقص قيمتها، أو تفسد لحمها، فكل عيب ظاهر يختل به اللحم، يفسد أو يكره ولا يقبل؛ فإنه يتجنب ذبحها أضحية، وكذلك العيوب التي تنقص القيمة نقصاً ظاهراً، وهي معروفة.

كيفية توزيع الأضحية

ورد في كيفية توزيعها أنهم يأكلون ويتصدقون، والأصل هو الصدقة؛ وذلك لأنها صدقة أخرجها الإنسان وتقرب بها إلى الله تعالى، فيتلمس لها من يتقبلها من المسلمين الضعفاء وذوي الحاجات، وهم موجودون بكثرة غالباً في كل بلاد، ولو أن يتكلف فيحمل لحمها في سيارته، ويطوف حتى يجد الفقراء في أماكنهم، سواء في المدن، أو في أطراف المدن، أو في القرى، أو في غيرها، فإنهم يفرحون بذلك، ويجعلونه قوتاً وغذاءً لهم، وما ذاك إلا لأنها من الصدقات، فلابد أن تعطى لأهل الصدقات الذين قال الله عنهم: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] فمصرف الصدقات أصلاً للفقراء، ومن الصدقات هذه الذبائح التي هي الأضاحي.

وإذا أكل منها فلا بأس، فله أن يأكل، وله أن يهدي لأقاربه، أو لجيرانه، أو أصدقائه، ونحو ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث أنهم يأكلون ويهدون ويتصدقون أثلاثاً، وإن زاد في الصدقة على الثلث أو زاد في الهدية فله ذلك، ولكن لابد من الصدقة.

حكم بيع شيء من الأضحية وحكم الاشتراك فيها

لا يجوز بيع الأضحية، ولا بيع شيء من لحمها، ولا بيع جلدها، بل ينتفع بجلدها بعد دبغه أو يتصدق به؛ وذلك لأنها بجميع ما يتعلق بها صدقة لله تعالى، واختيار الضأن أفضل كما في هذا الحديث، فالأكثر أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالضأن، فقوله: (بكبشين) الكبش هو ذكر الضأن، وقوله: (أقرنين) يعني: لهما قرنان، أي: لكل واحد منهما قرنان في رأسه، وهذا معروف، وإن كان أصل هذا في المعز، ولكن يوجد من الضأن ما له قرون، وقوله: (أملحين) الأملح هو الذي فيه سواد وبياض، إما أن يغلب عليه أحدهما أو يكونا متساويين، ولكن لعل هذا من باب المصادفة، فيجزئ أي لون، فلو كان كله أسود، أو كله أبيض، أو فيه نقط بيضاء أو سوداء؛ أجزأ ذلك بلا كراهة.

وفي بعض الروايات: (أنهما موجوءان) واستدلوا به على أنه يجوز الأضحية بالخصي الذي رضت خصيتاه؛ وذلك لأنه يطيب لحمه كما يذكر أهل الخبرة، والوجاء هو رض عروق الخصيتين دون قطع، فيرضون عروقها حتى لا ينزوا على النعاج، وحتى يطيب لحمه، فهذا هو الأفضل.

وإذا ذبح من غير الضأن أجزأ، ومعلوم أنها تتفاوت القيم، فيسن أن يختار السمين، أو النفيس، ورفيع القيمة؛ لأن ذلك أدل على جوده، وعلى سخائه، وعلى سخاوة نفسه، وكونها طابت بهذا المال الذي بذله في سبيل الله، بدون أن يمن به أو يبخل به.

ويجوز الاشتراك في الأضحية فالشاة الواحدة -التي هي الواحدة من الغنم- تكفي عن أهل بيت إذا كان مأكلهم ومجمعهم واحداً، ومطبخهم واحداً، ولو كانوا كثيرين، فيجعلها عنه وعن أهل بيته، وأما البقرة والبدنة فإنها تجزئ عن سبعة، وفي حديث أن البدنة تجزئ عن عشرة، ولكن لعل ذلك في باب القسمة، وأما في باب الأضحية فالظاهر أنها تكون عن سبعة.

حكم الأضحية عن الميت

الأصل في الأضحية أنها عن الأحياء، فالإنسان يضحي عنه وعن أهل بيته وعن أقاربه الأحياء، ولكنها جائزة عن الأموات؛ وذلك لأنها صدقة من الصدقات، فإذا ضحى عن أبويه شاتين، عن أبيه واحدة وعن أمة واحدة، أو عن إخوته الأموات، أو عن أعمامه أو أقاربه الذين قد ماتوا؛ نفعهم ذلك، وحصل له أجر بذلك؛ لأنها صدقة، فيصل أجرها إلى الأموات، وقد ورد في الحديث قول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي ماتت، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم)، فمن الصدقة ذبح الأضحية، فينوي أجرها لأقاربه الأموات، كما يجوز للحي أن يوصي بضحية أو أضاحي يجعل ثوابها لأقاربه، ولهم الأجر في ذلك.

وإذا قل نفعها أو قل الانتفاع بها فالأولى ألا يسرف فيها، بل يقتصر على ما يجزئ أو على ما يضحي به عامة الناس دون الإسراف، فإذا كان هناك وقف في أضاحي، وهذا الوقف مثلاً غلته عشرة آلاف كل سنة أو عشرون ألفاً فلا يقول: أشتري أضاحي بثمانية آلاف، أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، بل يضحي بما يضحي به الناس، فإذا اشتريت ضحية بخمسمائة أو بستمائة أو بسبعمائة كفت، والبقية تصدق بها على الفقراء والمعوزين، تصدق بها في غير وقت كثرة اللحوم، فلو أنه اشترى بالبقية لحماً في رمضان وتصدق به، أو في أي شهر من السنة؛ لأثيب على ذلك، وكذلك لو تصدق به دراهم أو طعاماً على المستضعفين والمستحقين لقبل منه ذلك إن شاء الله، فمن الإسراف أن يشتري ضحية من وصية بخمسة آلاف أو بسبعة آلاف أو نحو ذلك، ويصرفها جميعاً في هذه الأضحية، فهذه الأضحية التي بخمسة آلاف أو نحوها تقوم مقامها ضحية بخمسمائة ويكتفى بها، ويتصدق بالباقي في وجوه الخير، حتى ينتفع الميت بأجر مستمر، وذلك من أجر مؤقت منقطع.