شرح عمدة الأحكام [45]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها. قيل: إنه كان يبيع الشارف -وهي الكبيرة المسنة- بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر، قال: أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟)] .

الحديث الأول داخل في بيع الغرر الذي ورد النهي عنه، وقد كثرت الأمثلة لبيع الغرر.

والحكمة فيه أنه لابد من وجود غبن لأحد المتبايعين، ولا شك أن الغبن والغلبة تسبب بغضاء وحقداً فيما بين المتبايعين، إذا علم أنه خدعه في بيعه، فإنه يحقد عليه، ويضمر له العداوة، ولا يثق به بعد ذلك، وكلما رآه تذكر أنه الذي خدعه، وأنه الذي ضره، فلا يكون بينهما أخوة ولا محبة، وهذا ينافي ما يهدف إليه الشرع الشريف، فالشرع بأمر المسلمين بالمودة وبالمحبة، ويأمر المسلمين بأن يتحابوا فيما بينهم، وأن يتآلفوا وأن يتآخوا، ونهاهم عن أسباب التقاطع بقوله: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا)، وإذا اجتنب المسلمون مثل هذه البيوع التي فيها خداع وفيها غرر فإنه -بغير شك- تصفو قلوبهم، ويصيرون إخوة فيما بينهم، ويتحابون، وكلما تحابوا وتآخوا تعاونوا على الخير، وتعانوا على البر والتقوى، وتعانوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إظهار دين الله تعالى، وقوى بعضهم بعضاً، وساعد بعضهم بعضاً، بخلاف ما إذا تباغضوا وتحاقدوا وتقاطعوا، فلا شك أنه يحصل بينهم التهاجر والتقاطع، ويستبد كل منهم برأيه، ويحقد كل على أخيه، فلا تحصل الأخوة المطلوبة بين المسلمين.

فهذا من الحكم التي استنتجها المسلمون من تدخل الشرع في هذه الأمور، وإلا فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الناس على معاملاتهم وعلى مبايعاتهم، ولم يأمرهم بأن يستعملوا صيغة كذا وكذا، فلم يقل لهم: لا تبع إلا بقولك: (بعت)، ولا تشتر إلا بقولك: (اشتريت)، ولا تبع إلا بصفة كذا وكذا، بل أقرهم على معاملاتهم، ولكن تدخل ببعض الأشياء لأجل ما فيها من المصلحة، وما في تركها من المضرة.

ففي الحديث الأول النهي عن بيع حبل الحبلة.

وفي الحديث الذي بعده النهي عن بيع الثمار حتى تزهو.

وفي الحديث الذي بعده النهي عن بيعها حتى يبدو صلاحها.

معنى بيع حبل الحبلة

بيع حبل الحبلة فسر في الحديث بأنه بيع كان يتبايعه الجاهليون، يبيع أحدهم ناقته بحمل ناقة أخرى، أو بولد ولدها، أو يبيع ولد الولد، فيقول: بعتك ولد ما في بطن هذه الناقة، إذا حملت هذه الناقة ثم حملت الناقة التي تلدها، فإذا ولدت بكرة فإني أبيعك ذلك المولود، ولا شك أن هذا غرر؛ لأنه بيع معدوم، قد يحصل وقد لا يحصل، فقد يكون الحمل جملاً وقد يكون ناقة، وقد يكون الحمل يحصل بعد سنتين، وقد لا يحصل إلا بعد أربع سنين، فيكون في ذلك غرراً، هذا إذا قلنا: إن المبيع هو حمل الحمل، أي: إذا حبلت هذه وحبلت بنتها فولدت فخذ ما تلده البنت.

وهناك من يقول: إن المراد الأجل، كأن يقول مثلاً: بعتك هذا الكيس إلى أجل بعيد، وهو أن تلد هذه الناقة، ثم تلد بنتها التي تلد، فعلى هذا يكون أجلاً مجهولاً؛ لأنه غير محدد، فهو إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج بنتها التي في بطنها، فيكون ذلك أجلاً مجهولاً.

فالحاصل أن هذا من البيوع الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإزالتها ونسخها.

شرح حديث: (نهى عن بيع الثمار حتى تزهي)

الحديث الذي بعده فيه النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، أو حتى تزهو، والمراد بالثمار: الثمرة التي تؤكل بعدما تثمر، كالرطب والعنب والتين والرمان وسائر الثمار التي تؤخذ من أشجارها، فهذه الثمار لا شك أنها مقصودة، فإن الذين يغرسون الأشجار يقصدون من غرسها أن تثمر، فإذا أثمرت انتفعوا بثمرها، فإما أن يبيعوه وإما أن يأكلوه وهو رطب، وإما أن يتركوه إلى أن يجف، ثم يأخذونه وهو تمر أو زبيب أو نحو ذلك، وينتفعون به، فالثمرة هي المقصودة.

وكانوا كثيراً ما يحتاج أحدهم إلى نقود قبل أن تثمر ثمرته، فيأتي إليه أحد التجار فيقول: بعتك ثمرة هذه النخلة -أو ثمرة هذا العنب- والتمر لا يزال بسراً، فإذا باعه وهو بسر، وجاء وقت النضوج، إذا هو قد أصابه مرض من بياض أو نشاف أو غير ذلك من عاهات تصيب الثمر، فعند ذلك يكون المشتري قد اشترى شيئاً لا يناسبه ولا يصلح له، فيقول: هذه لا تصلح، فأعطني غيرها، أعطني ثمر النخلة الثانية أو الثالثة؛ فيتشاجرون عند ذلك أو يختلفون، فإذا رأى هذه الثمرة قد تحات ثمرها قال: ما بعتني هذه، إنما بعتني الأخرى، فيحصل بعد ذلك اختلاف فيما بينهم، ويكثر ترافعهم؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع الذي هو البيع قبل أن يبدو الصلاح، فإذا بدا الصلاح، فالأصل أو العادة أن العاهات التي تصيبها قليلة، فحيئنذٍ يجوز البيع، ثم فسر بدو الصلاح في النخل بأن تحمر أو تصفر.

ومعلوم أن النخل أول ما يخرج من أكمامه يكون لونه أخضر، وعندما يقرب من النضج ينقلب بعضه إلى أحمر -وهو الذي يكون رطبه أسود-، وإلى أصفر وهو الذي يكون رطبه أحمر.

فبدو الصلاح أن يتغير لونه من الخضرة بأن يكون أحمر أو أصفر، فإذا وصل إلى هذه الألوان جاز بيعه والحال هذه لقلة الآفات التي تعتريه في هذه الحال.

هذا هو الأصل، فالصحيح أنه يجوز بيعه إذا وصل إلى هذه الحال.

أما بالنسبة للعنب فيجوز بيعه إذا بدا صلاحه، وبدو صلاحه أن بعضه يسود، فإذا انقلب إلى أسود أو إلى أحمر فذلك بدو صلاحه، والذي يبقى على لون الخضرة فإذا تموه حلواًً -أي: إذا انقلب ماؤه بعدما كان حامضاً إلى كونه حلواً- ففي هذه الحال يجوز بيعه.

وبقية الثمار كثمر التوت، والرمان، والبرتقال، والليمون، وسائر الثمار، لا يجوز بيع الثمرة وحدها إلا بعدما يبدو صلاحها، أي: حتى ينتفع بها فيصلح قطعها والانتفاع بها، فأما إذا كان قطعها قبل بدو ثمارها فلا يجوز بيعها والحال هذه.

وضع الجوائح

يقول في تمام الحديث: (أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟)، استدلوا بهذه الجملة على مسألة وضع الجوائح، وقد ورد فيها حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح).

وصورة ذلك: إذا اشترى إنسان ثمرة، ثم أصابتها جائحة قبل أن تصلح، فيقول: إنها تذهب على البائع، وإن البائع يرد الثمن إلى المشتري؛ حيث إن المشتري لم يحصل له شيء، ولم ينتفع بهذا البيع، ولم يقبض شيئاً، أما صاحب الشجر فإنه مقدم على مثل هذه الأمور، وتصيبه هذه الجوائح وهذه الآفات عادة، فليس له إلا الصبر والتسلي، فيقدر أنه ما باع شيئاً.

مثال ذلك: إذا اشتريت -مثلاً- ثمرة النخل قبل بدو صلاحه أو بعد بدو الصلاح، ثم بعدما اشتريتها أصابتها جائحة، جاءها برد فتحاتت، أو أصابتها ريح مثلاً فقلعتها، أو صواعق فأحرقتها، آفة من الآفات أو مرض من الأمراض، فإنها تذهب على البائع الذي هو المالك، ويرد عليك أنت المشتري ثمنك ودراهمك، وهذا ذهب إليه كثير من العلماء، وخصه بعضهم بما إذا باعها قبل أن يبدو الصلاح، أما إذا باعها بعدما بدا صلاحها وجاز بيعها فما دام المشتري قد أقدم على الشراء ودفع الثمن، والبائع قد خلى بينه وبينها، وأصابتها هذه الآفة السماوية التي لا صنع لآدمي فيها؛ فإنه -والحال هذه- يصبر كما يصبر البائع.

بيع حبل الحبلة فسر في الحديث بأنه بيع كان يتبايعه الجاهليون، يبيع أحدهم ناقته بحمل ناقة أخرى، أو بولد ولدها، أو يبيع ولد الولد، فيقول: بعتك ولد ما في بطن هذه الناقة، إذا حملت هذه الناقة ثم حملت الناقة التي تلدها، فإذا ولدت بكرة فإني أبيعك ذلك المولود، ولا شك أن هذا غرر؛ لأنه بيع معدوم، قد يحصل وقد لا يحصل، فقد يكون الحمل جملاً وقد يكون ناقة، وقد يكون الحمل يحصل بعد سنتين، وقد لا يحصل إلا بعد أربع سنين، فيكون في ذلك غرراً، هذا إذا قلنا: إن المبيع هو حمل الحمل، أي: إذا حبلت هذه وحبلت بنتها فولدت فخذ ما تلده البنت.

وهناك من يقول: إن المراد الأجل، كأن يقول مثلاً: بعتك هذا الكيس إلى أجل بعيد، وهو أن تلد هذه الناقة، ثم تلد بنتها التي تلد، فعلى هذا يكون أجلاً مجهولاً؛ لأنه غير محدد، فهو إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج بنتها التي في بطنها، فيكون ذلك أجلاً مجهولاً.

فالحاصل أن هذا من البيوع الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإزالتها ونسخها.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2329 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع