شرح عمدة الأحكام [16]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [باب سجود السهو:

عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال ابن سيرين وسماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا- قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: أقصرت الصلاة؟! وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين ؟! قالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلم؟ قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم).

العشي: ما بين زوال الشمس إلى غروبها، قال الله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55].

وعن عبد الله بن بحينة وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)].

معنى سجود السهو وحكمة سهو النبي صلى الله عليه وسلم

هذا الباب عقد لسجود السهو، والسهو: هو النسيان في الصلاة بزيادة أو بنقص أو بشك، والإنسان محل النسيان، وقد حدث هذا النسيان للنبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الباب في هذين الحديثين وفي غيرهما، والحكمة في ذلك معرفة الحكم، أي أنه حدث هذا النسيان وهذا السهو من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعرف حكم النسيان في حق غيره؛ وذلك لأنه إذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم فسجد له عرفنا كيف نفعل إذا وقع لنا، فوقع هذا النسيان الذي حصل منه صلى الله عليه وسلم لهذه الحكمة.

ولعله صلى الله عليه وسلم كان قد اشتغل فكره بتأمل ما يقوله أو ما يفعله من الأمور الأخروية التي هو مقبل عليها، فشغله ذلك عن عدد الركعات ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه هذا، ثم اعتذر في بعض الروايات، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) ، وقال في بعض الروايات: (إنه لو حدث شيء في الصلاة لأخبرتكم) .

شرح حديث ذي اليدين في السهو

في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم إحدى صلاتي العشي سماها أبو هريرة ونسيها الراوي، وأكثر الروايات على أنها صلاة العصر، وفي رواية أنها الظهر، فالراوي شك فيها هل هي الظهر أو العصر؟ وسميت صلاة العشي؛ لأنها في آخر النهار، فالنهار ينقسم إلى قسمين: أوله يسمى بكرة، وآخره يسمى عشياً، وقوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62] (بكرة) يعني: أول النهار إلى الزوال، (وعشياً) يعني: آخر النهار من الزوال إلى الغروب.

وصلاة العشي هما صلاتا الظهر والعصر، إحداهما وقع فيها أنه صلى بهم ركعتين وترك ركعتين، واستمر في التشهد وسلم بعد ركعتين، ولما سلم ظنوا أنه حدث في الصلاة شيء؛ لأنهم لم يعهدوا ذلك من قبل، فقد كان دائماً يصلي بهم أربعاً ولم يحدث أن اقتصر على ركعتين، فظنوا أن الصلاة قد قصرت.

و(خرج السرعان) أي: الذين يخرجون سريعاً دائماً، خرجوا من الأبواب وهم يقولون: (قصرت الصلاة، قصرت الصلاة) يعتقدون أنه نقص عددها، وأنها رجعت إلى ركعتين، وكان الحاضرون قد توقفوا في الأمر.

النبي صلى الله عليه وسلم قام من مصلاه الذي صلى فيه، وكان هناك خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع إحدى يديه على الأخرى، وأدخل أصابعه بعضها في بعض أي: شبك بينهما وفهموا منه أنه غضبان، أو أنه قد أتاه ما يشغله أو ما يسوءه من أمر شغل باله عن عدد الركعات، ففهموا أنه غضبان، ولم يجرؤ أحد أن يتكلم حتى أبو بكر وعمر، فتجرأ هذا الرجل وهو ذو اليدين ويقال له: الخرباق وكان في يديه طول؛ فتجرأ وقال: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟!) يعني: لا بد من أحدهما.

فالنبي عليه الصلاة والسلام على ما يعرف، قال: (لم أنس ولم تقصر) يعني: في نظري أني لم أنس، ولم يأت ما يغيرها ولم تقصر، فكرر عليه وقال: (بلى قد نسيت) يعني: إما أنك نسيت وإما أنها قصرت، فلما تأكد أنها لم تقصر، عرف أنه وقع نسيان فسأل الحاضرين: (أكما يقول ذو اليدين ؟) فلما استقروا على أنه قد ترك من الصلاة ركعتين قام وصلى الركعتين اللتين تركهما، وبعد ذلك سلم بعدما صلاهما، ثم سجد سجدتين وأطال فيهما يعني: مثل سجوده المعتاد أو أطول بقليل ثم سلم.

هذا الحديث يعرف بحديث ذي اليدين ؛ لأنه اشتهر فيه ذكر ذي اليدين.

في بعض الروايات أنه دخل بيته وأن ذا اليدين طرق عليه الباب كما في حديث عمران ، وأنه صلى الله عليه وسلم خرج مسرعاً وأنه قال: (إن هذا قال: إني تركت ركعتين) فاستدلوا بهذا الحديث على أن الفاصل اليسير لا تبطل به الصلاة فإن هاهنا فصلاً، وهو أنه قام من مكانه وجلس في مكان آخر واستقبل القبلة ومشى وقعد وتكلم وكلموه، ثم بعد ذلك رجع إلى مصلاه ولم يعد ذلك مبطلاً مع كونها حركات من غير جنس الصلاة، وكذلك الذين خرجوا من سرعان الناس خرجوا وهم يعتقدون أن الصلاة قد قصرت وقد تمت، واستدبروا القبلة وتكلموا فيما بينهم ومشوا مشياً قليلاً أو كثيراً، ومع ذلك رجعوا وبنوا على ما مضى من صلاتهم ولم يعدوا هذا الفاصل من المشي والكلام مبطلاً للصلاة.

في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعدما سلم من الركعتين اللتين تركهما، ثم سلم تسليمتين، كأنه انتهى من الصلاة، ثم سجد سجدتين يكبر لكل سجدة ويسجد، ويطيل سجوده كسجود الصلاة أو أطول ثم يرفع، ثم بعد ذلك سلم كما في حديث عمران بن حصين فيكون سلم ثلاث مرات:

المرة الأولى: لما صلى الركعتين وسلم قبل أن يكمل صلاته.

المرة الثانية: لما أكمل ما بقي من صلاته.

المرة الثالثة: لما سجد للسهو.

موضع سجود السهو عند الإمام أحمد رحمه الله

قد اختلف العلماء في مواضع سجود السهو، فالإمام أحمد رحمه الله يقول: إن سجود السهو كله قبل السلام إلا في ثلاث حالات:

الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص.

الحالة الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه.

الحالة الثالثة: إذا ذكره بعد السلام، ذكر ذلك صاحب كتاب (عمدة الفقه) وغيره من العلماء.

أما ما سوى ذلك فإنه يسجد قبل السلام؛ وذلك لأنّا جعلنا سجود السهو جزءاً من الصلاة، والصلاة تنتهي بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)

فإذا سلم فقد انتهت صلاته، لكن يستثنى من ذلك هاتان الحالتان: إذا سلم عن نقص، وإذا بنى على غالب ظنه.

حديث أبي هريرة هذا فيه حالة من تلك الحالتين، وهو كونه سلم عن نقص، حيث نقص من صلاته ركعتين، فمن صلى الظهر ثلاثاً ثم سلم جاء بالرابعة ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم، ومن صلى الظهر ركعتين ثم سلم ناسياً جاء بالركعتين اللتين تركهما ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم، ومن صلى المغرب ركعتين ثم سلم ناسياً جاء بالثالثة ثم سلم، ثم سجد ثم سلم، فمن سلم قبل تمام الصلاة ساهياً أتى ببقية الصلاة ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم.

الحالة الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه، كما إذا صليت بجماعة ثم إنك في أثناء الصلاة شككت هل صليت ثلاثاً أم أربعاً؟! وأغلب ظنك أنها ثلاث، فبنيت عليها، ثم قمت وأتيت بالرابعة وسكت عنك المأمومون ولم ينبهوك، فإذا انقلب ظنك الغالب إلى يقين فإنه لا حاجة إلى سجود، وأما إذا لم ينقلب بل بقي معك ظن ولكنه ليس بظن اليقين، بل لا يزال معك شيء من الشك، ففي هذه الحالة تفعل ما ذكر، فتسلم ثم تسجد ثم تسلم.

الحالة الثالثة: إذا لم يتذكر السجود إلا بعد السلام، كما إذا كان عليه سجود سهو لترك تسبيح وما أشبه ذلك، ثم سلم ناسياً ثم ذكروه، فإنه يسجد بعدما يسلم.

المواضع التي يسجد فيها للسهو قبل السلام عند أحمد

أما حديث ابن بحينة ففيه أيضاً حالة أخرى وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لما صلى بهم ركعتين وانتظروا أن يجلس قام، ولم يجلس في التشهد الأول، فقالوا: سبحان الله! فلم يرجع، ثم إنه لما انتهى من صلاته وانتظروا تسليمه سجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم، فهذا سهو بترك التشهد الأول.

وقد استدلوا بهذا الحديث على أن التشهد الأول من الواجبات وليس من الأركان، فإن الأركان لا تسقط، بل لا بد من الإتيان بها، فلما أسقطه وجبره بسجود السهو دل على أنه من واجبات الصلاة، وواجبات الصلاة هي التي تجبر بسجود السهو، فمن ترك التشهد الأول سجد له، كما أن من ترك قول: (سبحان ربي الأعلى)، أو قول: (سبحان ربي العظيم) أو قول: (سمع الله لمن حمده) فإنه يسجد لها؛ لأن هذه من الواجبات.

كذلك بقية واجبات الصلاة الثمانية المعروفة إذا تركت فإنه يسجد لها

ثم في هذا الحديث أن سجود السهو كان قبل السلام، لأنه تشهد ولم يبق عليه إلا أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، فلما سجدهما سلم بعدهما، فدل على أن ترك هذه الواجبات يسجد له قبل السلام، وكذلك بقية أنواع السهو كما إذا زاد ركناً أو زاد ركعة ساهياً، أو زاد صفة من صفات الصلاة، أو شك في شيء من الواجبات، أو ترك واجباً أو نحو ذلك، فالسجود له كله يكون قبل السلام؛ لأن السجود في الأصل جزء من الصلاة، والأصل أن جزء الصلاة يتصل بها فلا يفصل بينه وبينها شيء.

مذاهب العلماء في موضع سجود السهو

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن سجود السهو كله قبل السلام، وجعله جزءاً من الصلاة، بينما ذهب آخرون إلى أنه كله بعد السلام، وجعلوه شيئاً زائداً على الصلاة، فيسلم ويأتي به بعد أن يسلم؛ لأنه يعتبر جابراً للسهو، وقد ورد السجود قبل السلام في حديث أبي هريرة .

وجاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم إذا أقيمت الصلاة فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل فلا يدري كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فإذا وجد ذلك فليجعلها ثلاثاً، وليأت برابعة ثم ليسجد سجدتين، فإن كان صلى خمساً شفعت له صلاته، وإن صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) أي: فهاتان السجدتان تكونان ترغيماً وإذلالاً للشيطان، فجعل هاتين الركعتين جابرة للنقص الذي حصل بهذا السهو، فهو بمنزلة تكميل النقص الذي يحتاج إلى تكميل.

إذا نسي الإمام التشهد الأوسط وتذكره قبل تمام القيام أو بعده

تكلم العلماء على ترك التشهد الأول فقالوا: إذا قام الإمام من الركعة الثانية للثالثة ولم يجلس وتذكر قبل أن يستتم رفع رأسه ورفع ظهره ورفع ركبتيه عن الأرض، فإنه يلزمه أن يجلس؛ لأنه لم يستتم قائماً، وحينئذٍ يجلس ويتشهد ويسجد للسهو عن هذه الحركة وهذا القيام.

أما إذا قام من السجود في الركعة الثانية ونهض حتى استتم قيامه، ثم تذكر قبل أن يبدأ في القراءة جاز له الرجوع مع الكراهة، وإن استمر وكمل الثالثة وترك التشهد جازت الصلاة وعليه السجود، وإن رجع جازت الصلاة مع الكراهة، فيرجع ويتشهد ثم يقوم ويأتي بالركعتين الباقيتين أو الواحدة، ثم يسجد أيضاً للسهو.

أما إذا شرع في القراءة ولم يتذكر أن عليه جلوساً إلا بعدما شرع في القراءة، ففي هذه الحال يستمر ولا يرجع، وإذا رجع وهو عالم بطلت صلاته، أما إذا رجع وهو ناس أو ساه فهو معذور وعليه سجود السهو في كل حال.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2582 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2580 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2518 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2501 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2440 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2369 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2355 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2340 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2330 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2329 استماع