شرح كتاب التوحيد [24]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين، وقول الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171].

في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

وعن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ). أخرجاه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ).

ولـمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً ) ].

قال المؤلف رحمه الله: (باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين).

تقدم الكلام على الترجمة، وذكرنا أن هذا الباب في بيان سبب من أسباب الوقوع في الشرك، وأن أسباب الوقوع في الشرك ثلاثة أسباب:

السبب الأول: الغلو في الصالحين.

والسبب الثاني: الغلو في القبور.

والسبب الثالث: التصوير.

وهذه كلها ستأتي ويتكلم عليها المؤلف رحمه الله تعالى.

قال: (وقوله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [النساء:171]) أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى.

لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] يعني: لا تتعدوا ما حد الله لكم وما شرع لكم من الدين، ولكن أهل الكتاب لم يمتثلوا، فالنصارى غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، واليهود غلوا في عزير رحمه الله.

مناسبة الآية للباب: أن الله سبحانه وتعالى نهى أهل الكتاب أن يغلوا في دينهم، ومن الغلو في الدين: غلو النصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام، وغلو اليهود في عزير ، فهم غلوا في الصالحين منهم؛ فأدى بهم ذلك إلى الوقوع في الشرك، حتى إنهم عبدوهم من دون الله عز وجل.

وهذا النهي أو الخطاب وإن كان متوجهاً إلى أهل الكتاب فإنه راجع إلى هذه الأمة؛ لأن الشارع نهى هذه الأمة أن تسلك مسالك من قبلها من أهل الكتاب، فما دام أنها نهيت عن الغلو في الصالحين فكذلك أيضاً هذه الأمة تنهى عن الغلو في الصالحين؛ لئلا تسلك مسالك أهل الكتاب وتتشبه بهم، فنحن منهيون عن أن نفعل فعلهم أو أن نتشبه بهم.

قال رحمه الله تعالى: (في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت).

قول الله عز وجل: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] يعني: لا تتركوا عبادتها.

وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا [نوح:23] يعني: لا تتركوا عبادة هؤلاء على وجه الخصوص، وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] هذه أصنام عبدت من دون الله عز وجل، والأصل أن هذه الأصنام كانت رجالاً صالحين، فغلوا في هؤلاء الرجال الصالحين، ومن غلوهم أنهم جعلوا -كما قيل بإيحاء الشيطان ووسوسته- جعلوا تماثيل وسموها بأسمائهم: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يعوق، وهذا نسر، وهذا يغوث، ثم بعد ذلك لما طال الزمن عليهم عبدوهم من دون الله عز وجل، فهم في أول الأمر جعلوا هذه الأنصاب وسموها بأسماء هؤلاء الصالحين؛ لكي يتذكروا عبادتهم ثم بعد ذلك طال عليهم الأمد، مضى الزمن، فجاء من بعدهم فعبدوهم من دون الله عز وجل، إذ أوحى إليهم الشيطان بعبادتها من دون الله عز وجل.

قال: (فلما هلكوا) أي: مات أولئك الصالحون: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر.

(أوحى الشيطان إلى قومهم) يعني: وسوس الشيطان إلى قومهم.

(أن انصبوا أنصاباً) يعني: أصناماً مصورة على صورهم.

(وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت) يعني: هلك الذين جعلوا هذه الأنصاب وجاء من بعدهم، ونسي العلم يعني: ذهب علم وجوب التوحيد وتحريم الشرك وغلب الجهل... إلى آخره.

(عبدت من دون الله عز وجل) فأوحى الشيطان إلى من بعدهم أن آباءهم كانوا يعبدونها من دون الله عز وجل.

فالخلاصة في ذلك: أن هذه الأسماء كانت لأناس صالحين، فلما مات أولئك الصالحون -وقيل بأنهم ماتوا في سنة واحدة- حزن عليهم قومهم، فأوحى الشيطان أن اجعلوا هذه التماثيل على صورهم وسموها بأسمائهم؛ لكي تتذكروا عبادتهم فتعبدوا الله عز وجل كعبادتهم، وهذا من تلبيس الشيطان، فالشيطان أخذهم بالتدريج، ثم بعد ذلك هلك أولئك القوم الذين جعلوا هذه التماثيل لتذكر العبادة، وجاء من بعدهم وأوحى إليهم الشيطان: أن من قبلهم كانوا يعبدون هذه التماثيل، فعبدوها من دون الله عز وجل.

قال رحمه الله: (وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد) يعني: الزمن (فعبدوهم).

وهذا واضح لما ترجم له المؤلف رحمه الله، حيث إن هؤلاء غلوا في هؤلاء الصالحين، فعكفوا على قبورهم، والعكوف على القبور: هو إطالة الإقامة عليها، فهم أطالوا الإقامة على قبور هؤلاء الصالحين، وهذا من الغلو فيهم، وصوروا تماثيلهم على شكل صورهم، وسموها بأسمائهم، وهذا التصوير أيضاً من الغلو فيهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، يعني: بعد أن مضى أولئك الذين صوروا جاء من بعدهم فأوحى الشيطان إليهم: أن اعبدوهم، وأن من كان قبلهم كانوا يعبدونهم من آبائهم؛ فوقع الشرك.

وهذا في ما ترجم له المؤلف رحمه الله، وأن الغلو في الصالحين سبب من أسباب حصول الشرك؛ لأن هؤلاء غلوا في هؤلاء الصالحين.

وجه الغلو: أنهم عكفوا على قبورهم.

والوجه الثاني: أنهم صوروا هذه الصور والتماثيل على أشكالهم، وهذا كله من الغلو.

قال رحمه الله تعالى: (وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ).

الإطراء: هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.

( كما أطرت النصارى ابن مريم ) يعني: كما قالت النصارى في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حتى ادعوا فيه الألوهية.

( إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ) هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: ( عبد ) في هذا رد على الخرافيين والصوفيين الذين يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم ويرفعونه فوق منزلته.

( ورسوله ) رد على من جفا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر رسالته أو أنكر عموم رسالته عليه الصلاة والسلام.

وهنا فيه دليل لما ترجم له المؤلف، فمناسبة هذا الحديث لما ترجم له المؤلف ظاهرة؛ فإن الغلو في الصالحين يؤدي إلى الوقوع في الشرك، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تطروني... إنما أنا عبد ). فدل على أن إطراءه ينقله عن مرتبة العبودية، فإطراء النبي صلى الله عليه وسلم ومجاوزة الحد في المدح وكذلك أيضاً الكذب فيه هذا ينقله عن مرتبة العبودية، وهذا مشاهد الآن، فالصوفية الآن يغلون في متبوعيهم ويطرونهم؛ أدى ذلك إلى أن شركوهم بالله عز وجل؛ ولذلك عندهم من الخرافات في متبوعيهم الشيء الكثير، وانظر إلى ما يقع في عيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الشركيات، إذ إن هذه المبالغة في المديح تؤدي إلى الوقوع في الشرك، واقرأ البردة للبوصيري وفيه قوله:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

قال العلماء: ما ترك شيئاً لله عز وجل؛ لأنه قال:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

قال رحمه الله تعالى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) ) هذا الحديث حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وقوله: ( إياكم ) يعني: أحذركم.

( والغلو ) الغلو: مجاوزة الحد.

( فإنما أهلك من كان قبلكم ) يعني: أهلك من كان قبلكم من الأمم الغلو، وهو مجاوزة الحد. والهلاك يشمل الهلاك الحسي، وكذلك الهلاك المعنوي، أما الهلاك المعنوي: فهو إما الوقوع في الشرك، وإما الوقوع في البدعة، يعني: إذا غلا في دينه إما أن يقع في الشرك، وإما أن يقع في البدعة، والهلاك الحسي أنه سبب، فهذا ذنب عظيم؛ لأنه سيوقعه في الشرك؛ فيؤدي به ذلك إلى عقوبة الله عز وجل، وهو الهلاك الحسي، وانظر إلى الخوارج كيف حصل منهم الغلو أدى بهم ذلك إلى سفك دماء المسلمين وتكفير صاحب الكبيرة وغير ذلك كما سيأتي.

الشاهد من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والغلو ) فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الغلو، ومن الغلو الذي يدخل في هذا النهي: الغلو في الصالحين وأنه سبب من أسباب الشرك.

والله أعلم، وصلى الله وسلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب التوحيد [18] 2635 استماع
شرح كتاب التوحيد [22] 2372 استماع
شرح كتاب التوحيد [10] 2287 استماع
شرح كتاب التوحيد [36] 2246 استماع
شرح كتاب التوحيد [8] 2180 استماع
شرح كتاب التوحيد [19] 2169 استماع
شرح كتاب التوحيد [6] 2045 استماع
شرح كتاب التوحيد [29] 2022 استماع
شرح كتاب التوحيد [7] 1879 استماع
شرح كتاب التوحيد [27] 1826 استماع