شرح كتاب التوحيد [13]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما].

تقدم لنا ما يتعلق بالرقى والتمائم، وتقدم لنا أن المؤلف رحمه الله قال: (وله عن إبراهيم : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن).

التمائم كما عرفها المؤلف رحمه الله تعالى بأنها شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.

فالتمائم تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: تمائم ليست من القرآن أو الأدعية المباحة أو الثابتة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حجارة أو ودع أو خرق ونحو ذلك تعلق على الأبدان أو المراكب أو في البيوت ونحو ذلك، فهذا كله من الشرك كما تقدم، وإن اعتقد أنها تنفع وتضر من دون الله فهذا شرك أكبر.

القسم الثاني: التمائم التي من القرآن أو من السنة أو الأدعية المباحة؛ فهذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: ما أشار إليه المؤلف قال: (وله عن إبراهيم: كانوا يكرهون التمائم كلها).

الرأي الأول رأي ابن مسعود وأصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى النهي عن هذه التمائم.

واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعلق تميمة فقد أشرك ). وأيضاً هو وارد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

فقوله: ( من تعلق تميمة فقد أشرك )، و( من تعلق شيئاً فقد وكل إليه ) ... إلى آخره؛ هذا يشمل كل المعلق.

والرأي الثاني: أن هذه التمائم جائزة ولا بأس بها، وهذا قال به سعيد بن المسيب وعطاء وغيرهما، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57]، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، والاستشفاء بالقرآن لم يرد على صفة معينة، فكيفما استشفى بالقرآن جاز.

الرأي الثالث: أن هذه التمائم جائزة بشرط: أن يكون ذلك بعد حصول البلاء -يعني: حصول المرض- فإذا كان بعد حصول المرض فإن هذا جائز ولا بأس به، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ؛ لوروده عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

وهذا يظهر -والله أعلم- أنه أقرب الأقوال، وعلى هذا نقول: تعليق مثل هذه التمائم جائز ولا بأس به إذا كان ذلك بعد نزول البلاء من مرض ونحو ذلك.

وهذه التمائم يشترط لها شروط:

الشرط الأول -كما تقدم-: يشترط أن يكون ذلك بعد نزول البلاء.

والشرط الثاني: أن يكون المعلق من القرآن أو السنة النبوية، يعني: من الأدعية الثابتة في القرآن أو من السنة النبوية أو الأدعية المباحة وغير ذلك.

والشرط الثالث: أن لا يعتقد أنها مؤثرة بنفسها. وإنما يعتقد أنها سبب، وأن الذي بيده الضر والنفع هو الله عز وجل، فلا يعتقد أنها مؤثرة بنفسها.

والشرط الرابع: أن لا يؤدي ذلك إلى إهانتها، ما دام أنها من القرآن أو من الأدعية المباحة والثابتة في السنة لا يؤدي ذلك إلى إهانتها.

ثم قال المؤلف رحمه الله: [باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما].

مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، فإن التبرك بالأحجار والأشجار ونحوها نوع من الشرك، وهذا الشرك إما أن يكون أكبر ينافي أصل التوحيد، وإما أن يكون أصغر ينافي كمال التوحيد، وأيضاً: هذا من اتخاذ الأسباب التي لم يرد في الشرع أنها سبب، وكذلك التجربة الحسية الظاهرة لم تثبت أنه سبب لجلب النفع ودفع الضر، وعلى هذا نقول.

أولاً: تعريف السبب.

السبب في اللغة يطلق على معان، ومنه: الحبل، ومن ذلك قول الله عز وجل: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15].

أما في الاصطلاح: فهو كل ما يتوصل به إلى غيره، وقد يكون شرعياً وقد يكون غير شرعي.

والناس في الأسباب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من جفا في إثبات الأسباب، فهو ينكر أثر السبب، ويقول: ما يوجد من أثر فقد وجد عند السبب لا بالسبب، فهم ينكرون آثار الأسباب، وما يوجد يقولون: هذا وجد عند السبب ولم يوجد بالسبب، وأن الفعل كله من الله عز وجل، وهذا قول الجبرية، والأشاعرة، إذ هم ينكرون أثر الأسباب.

القسم الثاني: من غلا في إثبات الأسباب، وهم الصوفية وعامة الخرافيين، فالصوفية وعامة الخرافية هؤلاء غلوا في إثبات الأسباب، حتى أثبتوا ما ليس سبباً للبركة أثبتوه سبباً، ومن ذلك طلب البركة من القبور والأضرحة وصرف العبادات لها ونحو ذلك، هؤلاء غلوا في إثبات الأسباب.

القسم الثالث: من توسط فأثبت السبب وليس كل الأسباب، وإنما تثبت الأسباب التي أثبتها الشرع والأسباب التي أثبتها الحس، بحيث يكون هناك بين السبب والمسبب أثر ظاهر.

يعني: لا بد من الحس، يعني: ما أثبته الحس بحيث أن التجربة الظاهرة تثبت هذا الأثر في المسبب لئلا يكون موهوماً.

فنقول: يثبت من الأسباب ما أثبته الشرع وكذلك ما أثبتته التجربة الظاهرة الحسية المباشرة، بحيث يكون هناك للسبب أثر في المسبب، فتثبت هذه الأسباب لكن مع اعتقاد أنها مجرد سبب، وأن الذي بيده الضر والنفع هو الله عز وجل، وهذا قول أهل السنة والجماعة، وأيضاً مع إثبات أنها سبب واتخاذها هذا لا ينافي التوكل، لكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [التفات القلوب إلى الأسباب شرك في التوحيد]، فأنت تتخذ السبب ومع ذلك لا تعلق قلبك بالسبب وإنما تعلق قلبك بالله عز وجل، فلا يلتفت قلبك إلى السبب، وسيأتينا إن شاء الله في آخر الأبواب التي سيتكلم عليها المؤلف رحمه الله تعالى.

ولا شك أن هذا القول هو الصواب، وهو الذي دلت له الأدلة، فإن الله سبحانه وتعالى أمر باتخاذ الأسباب: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].

وقال سبحانه وتعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102].

والنبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين، وقال: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25] .. إلى آخره. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] ... إلى آخره.

فاتخاذ الأسباب دلت له الأدلة من القرآن ومن السنة، والأدلة في ذلك كثيرة متظاهرة.

الخلاصة في ذلك: أنه لا يتخذ إلا ما دل عليه الشرع، أو دلت عليه التجربة الحسية الظاهرة المباشرة، وأيضاً مع ذلك لا يعتقد أنه مؤثر بنفسه أو أنه يستقل بالضر والنفع، فإن الضر والنفع بيد الله سبحانه وتعالى، وأيضاً: التفات القلب إلى هذا السبب شرك في التوحيد كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكذلك ابن القيم .

قال رحمه الله تعالى: (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما).

التبرك: طلب البركة، والبركة بمعنى: الثبوت والدوام، أيضاً: الزيادة والنماء.

وقال المؤلف رحمه الله: (من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) يعني: نحو الأشجار والأحجار، كالتبرك بالقبور والأضرحة، أو التبرك بما ورد الشرع بالتبرك به لكن على غير الوجه الوارد.

فمثلاً: المساجد أماكن للبركة، لكن ما هي البركة الموجودة في المسجد؟ أن تأتيه وتصلي فيه، وتذكر الله وتقرأ القرآن ونحو ذلك، فلو أنه تمسح بأبواب المسجد أو بفرشه أو بحيطانه نقول بأن هذا نوع من الشرك.

مثله أيضاً: الكعبة، البركة الموجودة في الكعبة: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فإذا تمسح بأستار الكعبة وبحجارتها نقول بأن هذا شرك.

وقول المؤلف رحمه الله أجمل الحكم، قال: (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما).. إلى آخره. حكم ذلك: أنه شرك أصغر؛ لأنه أثبت سبباً لم يرد لا في الشرع ولا في التجربة الظاهرة المباشرة أنه سبب، فهذا شرك أصغر، وتقدم لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعلق تميمة فقد أشرك ) وإنما تعلق التميمة لجلب البركة، أو لجلب النفع ودفع الضر، فدل ذلك على أنه شرك أصغر، وإن اعتقد أنه ينفع ويضر من دون الله فهو شرك أكبر.

سبحانك اللهم وبحمدك.