خطب ومحاضرات
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[وهذه الأحكام الخمسة تتفاوت تفاوتاً كثيراً بحسب حالها ومراتبها وآثارها:
فما كانت مصلحته خالصةً أو راجحةً أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب.
وما كانت مفسدته خالصةً أو راجحة نهى عنه الشارع نهي تحريم أو كراهة.
فهذا الأصل يحيط بجميع المأمورات والمنهيات].
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وهذه الأحكام الخمسة).
المراد بذلك الأحكام الخمسة التكليفية السابقة، وهي: الوجوب، والاستحباب، والتحريم، والكراهة، والإباحة.
قال المؤلف رحمه الله: (تتفاوت تفاوتاً كثيراً بحسب حالها ومراتبها وآثارها).
ويتبين هذا عند تعارض الأوامر والنواهي، أو عند تزاحم الأوامر والنواهي، فإذا تزاحم أمران أيهما يقدم؟ نقول: هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
تزاحم الأوامر
القسم الثاني: أن يتزاحم واجب ومستحب، فنقول: نقدم الواجب؛ لأن الواجب آكد من المستحب، مثال ذلك: تزاحم عنده أن يقضي بهذه الدراهم دينه أو أن يتصدق بها، فنقول: اقض بهذه الدراهم دينك؛ لأن قضاء الدين واجب.
القسم الثالث: أن يتزاحم سنتان، فنقول: يقدم آكد السنتين وأثقلهما، والتفضيل بين السنن هذا له صور ومراتب، مثلاً: قد تكون هذه السنة أنفع للقلب فتقدم على غيرها، فلو تزاحم عنده أن يصلي أو أن يقرأ القرآن، وكونه يصلي تطوع ويقول: هذا أنفع لقلبه، نقول: صل، تزاحم عنده أن يدعو الله عز وجل أو أن يقرأ القرآن، أو أن يذكر الله، نقول: يفعل ما هو الأخشع لقلبه.
ومن صور التفضيل بين السنن: أن تكون هذه السنة لها نفع متعدد، فإذا كان لها نفع متعدد فإنها تقدم على غيرها، مثلاً: لو تزاحم عنده إما أن يعتكف، وإما أن يأمر بالمعروف وينهى عن منكر، أو يدعو إلى الله عز وجل، فنقول: يقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، أو تزاحم عنده أن يتعلم العلم، أو أن يصلي، فنقول: كونه يتعلم هذا أفضل من كونه يتفرغ للصلاة ونحو ذلك؛ لأن العلم نفعه متعدٍ.
ومن صور تفضيل السنن: أن يكون في هذه السنة تأليف للقلوب، فمثلاً: لو كان يصلي خلفه بعض أصحاب المذاهب الأخرى، فكونه يؤلفهم ببعض الأحكام وإن كان ذلك مرجوحاً، مادام أن له أصلاً في السنة إلى آخره، فنقول: هذا أفضل، مثال ذلك: الجهر بالبسملة، حديث أنس رضي الله تعالى عنه وغيره من الأحاديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجهر بالبسملة، وإن كان جاء الجهر بالبسملة في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن لو كان يصلي خلفه بعض الشافعية؛ لأن الشافعية يرون الجهر بالبسملة، فجهر بالبسملة في بعض الأحيان تأليفاً للقلوب، فإن هذا من مواضع التفضيل.
وكذلك أيضاً من صور تفضيل السنن بعضها عن بعض: إذا كانت هذه السنة فيها صلة للرحم، أو إكراماً للضيف، أو قياماً بحق الصديق أو نحو ذلك، فنقول: تفعل هذه السنة، فمثلاً: لو تزاحم عنده أن يطلب العلم، أو أن يشيع قريبه جنازة، أو أن يتبع جنازة جاره، أو نحو ذلك، فلا شك أن طلب العلم أفضل من مجرد اتباع الجنائز، لكن مادام أن هذا فيه تأليف وقيام بصلة الرحم أو بحق هذا الجار أو بحق هذا الزميل فنقول: هذا أفضل.
كذلك أيضاً من صور التفضيل بين السنن: لو كان العمل بهذه السنة يحقق العمل بجميع السنن المتنوعة، فنقول: يعمل بهذه السنة، فمثلاً: إذا صلى المسلم الفرض، فإن الذكر الوارد على أنواع، إما أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويهلله ثلاثاً وثلاثين، ويقول في الصفة الثانية في تمام المائة: لا إله إلا الله، وفي الصفة الثالثة: يسبح الله ويحمده ويهلله ويكبره خمساً وعشرين، وفي الصفة الرابعة: يسبح الله عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، فيفعل هذا تارة وهذا تارة، وإن كان بعض هذه السنن أفضل من بعض، لكن كونه يفعل ذلك ويأتي بكل هذه السنن تارة وتارة، يكون هنا قد عمل بجميع السنن المتنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً من صور التفضيل بين السنن: أن تكون هذه السنة عبادة الوقت، أو عبادة الحال، أو عبادة المكان، فنقول: هي أفضل من غيرها، فمثلاً: تعارض عنده بعد نهاية الصلاة إما أن يقرأ القرآن أو يذكر الله عز وجل، فنقول: الأفضل أن تذكر الله عز وجل، وإن كان القرآن هو أشرف الذكر، إلا أن الذكر دبر الصلاة هو عبادة الوقت، ومثلها أيضاً: الاستسقاء، فلو أن الناس أصابهم القحط والجدب ونحو ذلك، تعارض عنده إما أن يقرأ القرآن وإما أن يصلي صلاة الاستسقاء، نقول: صل صلاة الاستسقاء، مع أن صلاة الاستسقاء سنة، نقول: صلاتها أفضل؛ لأنها عبادة الحال، مثل تحية المسجد، نقول: هي أفضل عند دخولك؛ لأنها عبادة المكان في هذا الوقت، تحية المكان في هذا الوقت يكون أفضل.
تزاحم النواهي
القسم الأول: أن يتزاحم محرمان، فنقول: يقدم أخف المحرمين، تزاحم عنده إما الزنا أو الاستمناء، إما أن يقع في الزنا، أو يقع في الاستمناء، نقول: نقدم الاستمناء، أو تزاحم عنده إما الزنا، وإما أن يطأ زوجته الحائض، فنقول: يقدم وطئ زوجته الحائض، وهنا تزاحم هذان المحرمان، فنقول: يقدم أخف المحرمين.
القسم الثاني: أن يتزاحم محرم ومكروه، نقول: قدم المكروه؛ لأن المكروه لا إثم فيه، لكن المحرم فيه إثم، فمثلاً: تزاحم عنده إما أن يأكل من الميتة، وإما أن يأكل من الثوم، نقول: كل من الثوم.
القسم الثالث: أن يتزاحم مكروهان، فإذا تزاحم مكروهان نقول: يقدم أخف المكروهين، فمثلاً: تزاحم عنده إما أن يأكل من الثوم، أو أن يأكل من البصل، فنقول: يأكل من البصل؛ لأن البصل أخف رائحة من الثوم.
القسم الأول: أن يتزاحم واجبان، فنقدم أوكد الواجبين، مثال ذلك: تزاحم عنده إما أن يشتري بهذه الدراهم نفقة يطعمها أهله، أو أنه يقضي بها الدين، نقول: اشتر نفقة؛ لأن حفظ النفس آكد من قضاء الدين.
القسم الثاني: أن يتزاحم واجب ومستحب، فنقول: نقدم الواجب؛ لأن الواجب آكد من المستحب، مثال ذلك: تزاحم عنده أن يقضي بهذه الدراهم دينه أو أن يتصدق بها، فنقول: اقض بهذه الدراهم دينك؛ لأن قضاء الدين واجب.
القسم الثالث: أن يتزاحم سنتان، فنقول: يقدم آكد السنتين وأثقلهما، والتفضيل بين السنن هذا له صور ومراتب، مثلاً: قد تكون هذه السنة أنفع للقلب فتقدم على غيرها، فلو تزاحم عنده أن يصلي أو أن يقرأ القرآن، وكونه يصلي تطوع ويقول: هذا أنفع لقلبه، نقول: صل، تزاحم عنده أن يدعو الله عز وجل أو أن يقرأ القرآن، أو أن يذكر الله، نقول: يفعل ما هو الأخشع لقلبه.
ومن صور التفضيل بين السنن: أن تكون هذه السنة لها نفع متعدد، فإذا كان لها نفع متعدد فإنها تقدم على غيرها، مثلاً: لو تزاحم عنده إما أن يعتكف، وإما أن يأمر بالمعروف وينهى عن منكر، أو يدعو إلى الله عز وجل، فنقول: يقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، أو تزاحم عنده أن يتعلم العلم، أو أن يصلي، فنقول: كونه يتعلم هذا أفضل من كونه يتفرغ للصلاة ونحو ذلك؛ لأن العلم نفعه متعدٍ.
ومن صور تفضيل السنن: أن يكون في هذه السنة تأليف للقلوب، فمثلاً: لو كان يصلي خلفه بعض أصحاب المذاهب الأخرى، فكونه يؤلفهم ببعض الأحكام وإن كان ذلك مرجوحاً، مادام أن له أصلاً في السنة إلى آخره، فنقول: هذا أفضل، مثال ذلك: الجهر بالبسملة، حديث أنس رضي الله تعالى عنه وغيره من الأحاديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجهر بالبسملة، وإن كان جاء الجهر بالبسملة في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن لو كان يصلي خلفه بعض الشافعية؛ لأن الشافعية يرون الجهر بالبسملة، فجهر بالبسملة في بعض الأحيان تأليفاً للقلوب، فإن هذا من مواضع التفضيل.
وكذلك أيضاً من صور تفضيل السنن بعضها عن بعض: إذا كانت هذه السنة فيها صلة للرحم، أو إكراماً للضيف، أو قياماً بحق الصديق أو نحو ذلك، فنقول: تفعل هذه السنة، فمثلاً: لو تزاحم عنده أن يطلب العلم، أو أن يشيع قريبه جنازة، أو أن يتبع جنازة جاره، أو نحو ذلك، فلا شك أن طلب العلم أفضل من مجرد اتباع الجنائز، لكن مادام أن هذا فيه تأليف وقيام بصلة الرحم أو بحق هذا الجار أو بحق هذا الزميل فنقول: هذا أفضل.
كذلك أيضاً من صور التفضيل بين السنن: لو كان العمل بهذه السنة يحقق العمل بجميع السنن المتنوعة، فنقول: يعمل بهذه السنة، فمثلاً: إذا صلى المسلم الفرض، فإن الذكر الوارد على أنواع، إما أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويهلله ثلاثاً وثلاثين، ويقول في الصفة الثانية في تمام المائة: لا إله إلا الله، وفي الصفة الثالثة: يسبح الله ويحمده ويهلله ويكبره خمساً وعشرين، وفي الصفة الرابعة: يسبح الله عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، فيفعل هذا تارة وهذا تارة، وإن كان بعض هذه السنن أفضل من بعض، لكن كونه يفعل ذلك ويأتي بكل هذه السنن تارة وتارة، يكون هنا قد عمل بجميع السنن المتنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً من صور التفضيل بين السنن: أن تكون هذه السنة عبادة الوقت، أو عبادة الحال، أو عبادة المكان، فنقول: هي أفضل من غيرها، فمثلاً: تعارض عنده بعد نهاية الصلاة إما أن يقرأ القرآن أو يذكر الله عز وجل، فنقول: الأفضل أن تذكر الله عز وجل، وإن كان القرآن هو أشرف الذكر، إلا أن الذكر دبر الصلاة هو عبادة الوقت، ومثلها أيضاً: الاستسقاء، فلو أن الناس أصابهم القحط والجدب ونحو ذلك، تعارض عنده إما أن يقرأ القرآن وإما أن يصلي صلاة الاستسقاء، نقول: صل صلاة الاستسقاء، مع أن صلاة الاستسقاء سنة، نقول: صلاتها أفضل؛ لأنها عبادة الحال، مثل تحية المسجد، نقول: هي أفضل عند دخولك؛ لأنها عبادة المكان في هذا الوقت، تحية المكان في هذا الوقت يكون أفضل.
كان ما سبق بالنسبة لتزاحم الأوامر، وأما بالنسبة لتزاحم النواهي فأيضاً ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يتزاحم محرمان، فنقول: يقدم أخف المحرمين، تزاحم عنده إما الزنا أو الاستمناء، إما أن يقع في الزنا، أو يقع في الاستمناء، نقول: نقدم الاستمناء، أو تزاحم عنده إما الزنا، وإما أن يطأ زوجته الحائض، فنقول: يقدم وطئ زوجته الحائض، وهنا تزاحم هذان المحرمان، فنقول: يقدم أخف المحرمين.
القسم الثاني: أن يتزاحم محرم ومكروه، نقول: قدم المكروه؛ لأن المكروه لا إثم فيه، لكن المحرم فيه إثم، فمثلاً: تزاحم عنده إما أن يأكل من الميتة، وإما أن يأكل من الثوم، نقول: كل من الثوم.
القسم الثالث: أن يتزاحم مكروهان، فإذا تزاحم مكروهان نقول: يقدم أخف المكروهين، فمثلاً: تزاحم عنده إما أن يأكل من الثوم، أو أن يأكل من البصل، فنقول: يأكل من البصل؛ لأن البصل أخف رائحة من الثوم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [2] | 2442 استماع |
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [1] | 2313 استماع |
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [8] | 2250 استماع |
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [3] | 1726 استماع |
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [4] | 1704 استماع |
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [7] | 1419 استماع |
شرح رسالة لطيفة في أصول الفقه للسعدي [6] | 1109 استماع |