شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 285


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

الحديث الذي نبدأ به في هذه الليلة، فهو حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، من رواية البخاري كما ساقه المصنف أنه رضي الله عنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم نصب ظهره، وإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، وإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته ).

وهذا الحديث من الأحاديث الشاملة في ذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، مثله في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها وسيأتي في صحيح مسلم، ومثله أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه وسيأتي.

فهذه الأحاديث تذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من حين أن يكبر ويرفع يديه للتكبير إلى أن يقعد للتشهد الأخير ويسلم؛ ولذلك فإن هذا الحديث شامل للصلاة كلها، فيصعب أن نتناول مسائله كلها مسألة مسألة وفقرة فقرة؛ لأننا لو فعلنا ذلك لأتينا على باب صفة الصلاة كله في حديث واحد، ولذا نأخذ من حديث أبي حميد رضي الله عنه بعض المسائل الظاهرة المتيسرة، وندع بعض المسائل الأخرى، نمر بها كمسائل أو فوائد ونترك الكلام عن تفصيلها إلى حينه إذا مر بها حديث يتعلق بها، ومن مقتضى هذا الأسلوب، أو هذه الطريقة أننا لن نكون في سرد صفة الصلاة مراعين للترتيب، يعني: بادئين بتكبيرة الإحرام، ثم دعاء الاستفتاح، ثم قراءة الفاتحة، ثم قراءة سورة بعدها، ثم الركوع.. وهكذا كلا، بل سوف نأخذ منها من المسائل حسب ما اتفق، ولا شك أن الطريقة التي يسلكها الفقهاء أنهم إذا ذكروا صفة الصلاة يبدءون بها مرتبة، فيبدءون بتكبيرة الإحرام، وينتهون بالسلام، وهذه الطريقة أفضل وأسلم وأحسن بلا شك، ولكن مقتضى طريقة سياق الأحاديث في بلوغ المرام لا تتيح لنا هذا، إنما نرجو إن شاء الله تعالى أنه إذا انتهى هذا الباب أو غيره، فإنه يمكن تلخيصه مرتباً كما هي الحال في طريقة الفقهاء، فتلخص مسائل صفة الصلاة متسلسلة، من تكبيرة الإحرام إلى السلام فيما بعد، أما الآن فسوف نأخذ من المسائل بإذن الله تعالى كيفما اتفق، وكيفما تيسر.

وحديث أبي حميد سبق أن ذكرت في الدرس الماضي تخريجه، من خرجه، وذكرت أنه كان قاله في ملأ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرة، ذكرت بعضهم من بني ساعدة: كـسهل بن سعد وأبي أسيد، ومنهم أبو هريرة، ومنهم محمد بن مسلمة، ومنهم أبو قتادة، وأن أبا حميد ذكر: ( أنه كان أحفظهم لصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لم لَم تكن أقدمنا له صحبة، ولا أكثرنا له إتياناً أو اتباعاً؟ فقال: بلى )، وفي رواية: أنه قال: ( إنني تتبعت ذلك حتى حفظته، فقالوا: فاعرض، فعرض ما عنده، فقالوا له: صدقت ) .. في آخر الحديث.

صفة الجلوس للتشهد الأول والأخير وأقوال العلماء فيه

ما يتعلق بهذا الحديث، سوف نأخذ فيه مسألة فقهية: وهي ما يتعلق بصفة الجلوس للتشهد في الصلاة، وهذه واضحة في حديث أبي حميد رضي الله عنه، فإنه قال: ( وكان إذا قعد أو جلس في الركعتين -يعني: في التشهد الأول- جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة -يعني: للتشهد الأخير- قدم رجله اليسرى -يعني: أخرجها عن يمينه- ونصب الأخرى -يعني: اليمنى- وقعد على مقعدته ).

إذاً: حديث أبي حميد ذكر فيه صفة الجلوس للتشهد، سواء في ذلك التشهد الأول أو التشهد الأخير؛ ولذا سنبحث أقوال أهل العلم في الجلوس للتشهد الأول والأخير.

فأقول: في هذه المسألة -مسألة الجلوس للتشهد الأول والأخير- ثلاثة أقوال لأهل العلم:

القول الأول: استحباب التورك في التشهد الأول والأخير

القول الأول منها: أنه يتورك في التشهد الأول والأخير على حد سواء، وهذا مذهب الإمام مالك، حتى، إنه لم يذكر في كتابه الموطأ غيره، لم يذكره نصاً، إنما ذكره عن ابن عمر رضي الله عنه، فذكر: ( أن ابن عمر رضي الله عنه جلس في الصلاة متربعاً -والتربع في الصلاة معروف- فسأله في ذلك رجل، فقال: إنني أشتكي رجلي، أو إن رجلي لا تحملاني، ثم قال ابن عمر رضي الله عنه: إنما سنة الصلاة -يعني: سنة الجلوس- أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني رجلك اليسرى )، وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه البخاري أيضاً عن مالك، وكذلك النسائي في سننه، لا شك أن هذا اللفظ ليس فيه ذكر التورك، لكن فيه أنك تنصب اليمنى، وتثني اليسرى.

طيب الإنسان إذا ثنى رجله اليسرى ونصب اليمنى ماذا يمكن أن يفعل بعد ذلك؟ هناك أكثر من احتمال:

الاحتمال الأول: أنه يقعد على اليسرى، وهذه الجلسة تسمى بماذا؟ إذا فرش اليسرى، وقعد عليها، ونصب اليمنى، هذه الجلسة تسمى: جلسة الافتراش، فهذا احتمال.

الاحتمال الثاني: أن يجلس على الأرض، أن يجلس على مقعدته ويجعل اليسرى مفروشة خارجاً، واليمنى منصوبة، وهذا ما يسمى بالتورك، أو بالأصح هذه أحد صفات التورك.

ومقصود ابن عمر رضي الله عنه -والله تعالى أعلم- الصورة الثانية، يعني: أن تفرش اليسرى وتنصب اليمنى، وتفضي بمقعدتك إلى الأرض، ومما يدل على أن هذا هو المقصود: أن مالكاً نفسه روى في الموضع نفسه من الموطأ، عن القاسم بن محمد : [ أنه نصب رجله اليمنى، وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ثم قال: إني رأيت عبد الله بن عبد الله بن عمر يفعله ويقول: إن أباه كان يفعل ذلك ].

إذاً: القاسم روى عن عبد الله بن عبد الله عن أبيه الذي هو عبد الله بن عمر نفسه أنه فعله، كان ينصب اليمنى ويفرش اليسرى، ويجعل وركه على الأرض، والورك: هو ما فوق الفخذ، فدل على أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقصد التورك، حينما قال: ( إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني رجلك اليسرى ) أنه كان يقصد جلسة التورك، أو ما يسمى بالتورك؛ ولذلك ذهب الإمام مالك إلى أن التورك سنة في التشهد الأول، وسنة في التشهد الأخير، نقل هذا عنه ابن عبد البر في كتاب التمهيد، وقال: إن مالك يرى هذا في التشهد الأول والتشهد الأخير للرجل والمرأة على السواء.

ومن أدلتهم: ما سبق من فعل ابن عمر رضي الله عنه وقوله فأما فعله فقد لا يكون فيه حجة ظاهرة، لكن الحجة أكثر في قوله؛ لأنه قال: ( إنما سنة الصلاة )، وقد جرى قول كثير من أهل العلم وأهل المصطلح: على أن الصحابي إذا قال: (من السنة كذا)، أن المقصود سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: (من السنة كذا) أو: (جرت السنة على كذا)، فإنه يفهم أنه يعني سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا قول ابن عمر هاهنا: ( إنما سنة الصلاة ) يعني: السنة المأثورة، والطريقة المتبعة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا دليل.

الدليل الثاني لهم: حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم، رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس للتشهد، من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة، جعل رجله أو قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش اليمنى )، قوله: (إذا قعد في الصلاة) هل المقصود الجلسة بين السجدتين؟ لا، ليس المقصود الجلسة بين السجدتين باتفاقهم؛ لأن هذه الجلسة لم يقل أحد من أهل العلم: إنها مشروعة بين السجدتين، وإنما قالوا: (إذا قعد في الصلاة) يعني: إذا قعد للتشهد، فكونه صلى الله عليه وسلم يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، فهذا دليل على أن وركه سيكون في أي مكان؟ سيكون وركه على الأرض، وهذه الصورة هي أيضاً إحدى صور التورك.

وقوله: (إذا قعد في الصلاة) يدل على التشهد، قالوا: فإن هذا دليل على أن التورك مشروع في التشهد الأول، وفي التشهد الأخير على حد سواء، وقد ذكر هذا الاستدلال لهم الإمام النووي في كتاب المجموع، لكن يعكر على هذا الاستدلال أن مسلماً ساق الحديث بروايات عدة، وفي بعض الروايات قال: ( إذا قعد في الصلاة يدعو )، فقوله: (يدعو) دليل على أن المقصود التشهد الأول أو الأخير، هو يرجح أن المقصود بالقعود هنا القعود للتشهد الأخير؛ لأن الدعاء مشروع في التشهد الأخير، كما هو معروف، وليس التشهد الأول من مواضع الدعاء، إلا أن يقول: (اللهم صل على محمد) فهذا لا بأس به لو فعله أحياناً، المهم أن قوله: ( إذا قعد يدعو ) دليل على أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، كان يحكي ويروي صفة قعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتشهد الأخير.

فهذه أهم أدلتهم، وقد ذكر لهم ابن قدامة في المغني دليلاً ثالثاً، لو ثبت وصح، لكان من أقوى وأصح وأصرح أدلتهم، فقد ذكر في المغني عن ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة، وفي آخرها متوركاً )، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط ) هذا المقصود به التشهد الأول، ( وفي آخرها ) المقصود التشهد الأخير متوركاً، لكن ابن قدامة رحمه الله تعالى ساق هذا الحديث بلا زمام ولا خطام ولم يعزه لأحد، ولم أجده في شيء من الكتب، التي تيسر لي الاطلاع عليها؛ ولذلك لا يحتج بهذا الحديث، اللهم إلا أن يثبت، ولا أظنه يثبت بحال. هذه أدلتهم.

إذاً: هذا هو القول الأول قول مالك رحمه الله تعالى أنه يتورك في التشهد الأول وفي التشهد الأخير وسوف نذكر صفة التورك بعد قليل.

القول الثاني: الافتراش في التشهد الأول والأخير

القول الثاني هو نقيض هذا القول: أنه يفترش في التشهد الأول وفي التشهد الأخير، وأنه لا تورك في الصلاة، نقيض قول الإمام مالك، القول الثاني نقيض قول الإمام مالك، قالوا: بل يفترش المصلي في التشهد الأخير، ويفترش في التشهد الأول على حد سواء، وحينئذ فلا تورك في الصلاة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري، ونسبه الإمام الترمذي في جامعه، قال: عليه العمل عند أكثر أهل العلم، ونسبه إضافة إلى أنه مذهب أهل الكوفة، يعني: أبا حنيفة وأصحابه والثوري، ونسبه إلى عبد الله بن المبارك .

إذاً: الترمذي زاد نسبته لـعبد الله بن المبارك، وزعم أنه مذهب جمهور أهل العلم.

ودليل أهل هذا القول: هو حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وحديث وائل معروف في السنن كلها، رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي .. وغيرهم، لكن اللفظ الذي استدلوا به من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة أضجع رجله اليسرى، ونصب اليمنى )، قوله: (أضجع رجله اليسرى) يعني: فرشها، (ونصب اليمنى)، وهذا الحديث رواه أبو داود ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً كما ذكرت النسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد .. وغيرهم، وكذلك قال عنه الإمام ابن قدامة في المغني بعدما ذكره، وذكر حديث أبي حميد السابق قال: حديثان حسنان صحيحان، فحديث وائل بن حجر عند ابن قدامة حديث حسن صحيح، وهذا الحديث يدل بظاهره: على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش في التشهد الأول والأخير؛ لأنه قال: ( أضجع رجله اليسرى، ونصب اليمنى )، ولم يذكر تشهداً من التشهدين، لم يذكر في التشهد الأول أو الأخير، فدل على أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم في كلا التشهدين.

ومن أدلتهم أيضاً: حديث عائشة رضي الله عنها وسيأتي بتمامه، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، ذكرت صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت في آخر الحديث: ( وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وكان يقول في كل ركعتين: التحية )، فهو كحديث وائل بن حجر في أنه ذكر الافتراش، ولم يذكر غيره، هذا هو القول الثاني، وهذان دليلان له.

إذاً: القول الثاني أن الافتراش هو المشروع في التشهد الأول، وفي التشهد الأخير، ولأن الافتراش قد لا يرد ذكر صفته الآن، فلا بأس أن نذكر صفته، فصفة الافتراش: هو أن يفرش القدم اليسرى، يعني: يجعل مفصل القدم اليسرى إلى الأرض، ويقعد عليها، يقعد فوقها، أما اليمنى فتكون منصوبة، أصابعها على الأرض، مستقبلة القبلة، هذا هو الافتراش، وهذه إحدى الجلسات في الجلسة بين السجدتين كما سيأتي، وهي أيضاً الجلسة في التشهد الأول عند جماعة من أهل العلم، وهي الجلسة في التشهد الأخير عند أبي حنيفة وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، ونسبها الترمذي إلى أن العمل عليها عند أكثر أهل العلم.

القول الثالث: الافتراش في التشهد الأول والتورك في التشهد الأخير

القول الثالث في المسألة: هو التفصيل أو التفريق بين التشهد الأول، والتشهد الأخير، وهو قول الإمام الشافعي وأحمد، ومن وافقهما كـإسحاق بن راهوية .. وغيرهم، وهو مذهب أهل الحديث، أنه يفرق بين التشهد الأول، والتشهد الأخير، فيقول الشافعي وأحمد : يقعد المصلي في التشهد الأول مفترشاً، كما يقول ذلك أبو حنيفة، أبو حنيفة في التشهدين معاً، فهم يقولون: التشهد الأول يقعد فيه مفترشاً، ويوافقهم في هذا القدر أبو حنيفة، قالا -يعني: الشافعي وأحمد -: ويقعد في التشهد الأخير متوركاً، كما قال بذلك مالك، فـمالك يوافقهم في التشهد الأخير وأبو حنيفة يوافقهم في التشهد الأول.

إذاً: لو أردنا نقلب الأقوال بطريقة أخرى، لأنه بعضهم يسوقها بطريقة ثانية فنقول: فيما يتعلق بالتشهد الأول لو سألك سائل وقال لك: ما هي صفة الجلوس في التشهد الأول، واذكر أقوال أهل العلم فيه؟

تقول: صفة الجلوس في التشهد الأول اختلف العلماء فيها على قولين:

الأول: أنه يجلس في التشهد الأول متوركاً، وهذا مذهب مالك.

القول الثاني: أنه يجلس في التشهد الأول مفترشاً، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، بقية الأئمة الثلاثة ومن وافقهم كما ذكرنا.

ولو سألك سائل وقال لك: ما هي صفة الجلوس للتشهد الأخير؟

تقول: انقسم أهل العلم فيها على قولين:

الأول: أنه يجلس متوركاً في التشهد الأخير، وهذا مذهب الجمهور: مالك وأحمد والشافعي وجمهور أهل العلم.

القول الثاني: أنه يجلس مفترشاً، وهذا مذهب أبي حنيفة.

إذاً: القول الثالث في المسألة: هو القول بالتفريق بين التشهد الأول والتشهد الأخير، فنقول: أن يفترش للتشهد الأول، ويتورك في التشهد الأخير، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق كما أسلفت.

أدلة أصحاب هذا القول هي حديث الباب؛ حديث أبي حميد رضي الله عنه الذي قرأناه قبل قليل، فإن حديث أبي حميد صريح جداً، في أن صفة الجلوس للتشهد الأول تختلف عن صفة الجلوس للتشهد الأخير، فإنه لما ذكر الجلوس في التشهد الأول قال: ( وإذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى )، فهذا هو الافتراش، وقوله: (في الركعتين) يعني: بعد الركعتين الأوليين، أي في التشهد الأول، ثم ذكر الجلوس في التشهد الأخير فقال: ( وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدم اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته )، فهذا هو التورك.

إذاً: حديث أبي حميد هو أهم دليل لمن قالوا بالتفريق بين التشهد الأول، والتشهد الأخير، في صفة الجلوس، وهو صريح في ذلك.

وأما الأحاديث الأخرى، أحاديث الفريق الأول، وأحاديث الفريق الثاني، فليست صريحة في ذلك.

ولهذا قال أهل العلم: إن حديث أبي حميد فيه التفريق والتفصيل، أما الأحاديث الأخرى كحديث وائل بن حجر، وحديث عائشة، وحديث عبد الله بن عمر، فإنها مطلقة غير مبينة ولا مفصلة، فينبغي حملها على حديث أبي حميد، فنأتي مثلاً لحديث عبد الله بن عمر الذي استدل به مالك على أن السنة التورك في كل تشهد، فنقول: المقصود بحديث ابن عمر أي التشهدين؟ التشهد الأخير، كما دل على ذلك حديث أبي حميد، ونأتي مثلاً إلى حديث عائشة وحديث وائل بن حجر في صفة الافتراش، فنقول: المقصود بهذين الحديثين التشهد الأول، كما دل على ذلك أيضاً حديث أبي حميد .

فتلك الأحاديث مجملة غير مبينة ولا مفصلة، وحديث أبي حميد مبين مفصل، فينبغي أن تحمل على هذا الحديث.

وبطريقة أخرى قال الإمام ابن قدامة : إن حديث أبي حميد فيه زيادة، يجب الأخذ بها، والمصير إليها، ففيه تفصيل لا يتوفر في حديث وائل بن حجر، ولا في حديث ابن عمر، ولا في حديث عائشة، ولا في حديث عبد الله بن الزبير، ولا في حديث غيرهم، ففيه تفصيل وتفريق لا يوجد في غيره من الأحاديث، هذا من حيث المعنى.

أمر آخر يرجح حديث أبي حميد : أنه قاله بحضرة عشرة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكرتهم قبل قليل، وأقروه على ما قال، وقالوا له: صدقت، هذا فضلاً عن أن الحديث صحيح الإسناد قوي رواه البخاري .. وغيره كما أسلفت .

فلذلك فإن حديث أبي حميد هو أقوى الأحاديث في هذا الباب، ويجب الأخذ به، يعني: من حيث الترجيح، وإلا أصل قضية التورك والافتراش ليس فيها وجوب، إنما هي -والله تعالى أعلم- محمولة على الفضيلة والاستحباب لا على الوجوب، وإنما أقول: إنه أولى أن يؤخذ به من غيره من الأحاديث؛ لأن فيه تفريقاً بين صفة الجلوس في التشهد الأول، وبين صفة الجلوس في التشهد الأخير، وهذا ما قرره الإمام النووي في المجموع، وابن قدامة .. وغيرهما من أهل العلم، وهو حجة الإمام الشافعي وأحمد في صفة الجلوس في التشهدين.

الحكمة في المغايرة بين التشهد الأول والأخير في كيفية الجلوس

ما هي الحكمة في المغايرة بين التشهد الأول والأخير؟

ذكر العلماء عدة حكم لهذه المغايرة:

منها: لإزالة اللبس والشك الذي قد يعرض للمصلي بين التشهد الأول والأخير، فإنه إذا غاير بين الجلستين، عرف أنه الآن في التشهد الأول، أو في التشهد الأخير.

ومنها: أن التشهد الأول قصير، يسن عدم تطويله، بخلاف التشهد الأخير، فإنه يسن تطويله والدعاء فيه، ومما جاء في ذلك، في قصر التشهد الأول، وعدم تطويله: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الأوليين -يعني: للتشهد الأول- كأنه على الرضف )، بفتح الراء وسكون الضاد، والرضف: جمع رضفة وهي الحجارة المحماة، يعني: كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس على حجارة حامية، وهذا دليل على أنه لا يطول التشهد الأول، وهذا الحديث رواه الترمذي وأبو داود والنسائي، ولكنه منقطع؛ لأنه من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وأبو عبيدة هذا لم يدرك أباه، فالحديث منقطع ولكن له شواهد: منها: ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي بكر رضي الله عنه من فعله: [ أنه كأنما يجلس على الرضف ] وإسناده كما يقول الحافظ ابن حجر : صحيح.

إذاً: الحديث وإن لم يثبت مرفوعاً، فقد ثبت من فعل أبي بكر رضي الله عنه، عند ابن أبي شيبة .

قال ابن حجر في فتح الباري : وإسناده صحيح، وجاء نحو ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فهذا يعزز الحديث المرفوع، أن التشهد الأول يشرع عدم تطويله، ومعروف ماذا يقول في التشهد الأول، يقتصر على قوله في التشهد: ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )، وقد يزيد أحياناً الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه من حكم التفريق بينهما.

أيضاً من الحكم في التفريق بين التشهدين أنه في التشهد الأول يعقبه حركة؛ فهو في التشهد الأول يستعد ليقوم بالركعة الثالثة، أما في التشهد الأخير فليس بعده قيام، وإنما انتهت به الصلاة.

أمر رابع أو حكمة رابعة: لإعلام من أتوا إلى المسجد، وفاتتهم الصلاة ما قدر ما فاتهم من الصلاة، فإذا جاء المسبوق للإمام، فإنه يعرف إن كان الإمام في التشهد الأول أو كان في التشهد الأخير، هذا قال به بعضهم، وهذا يفتقر إلى أمور:

منها: أن يكون الإمام فقيهاً، بحيث يكون يعرف ماذا يفعل في التشهد الأول، أو كيف يجلس في التشهد الأول، وكيف يجلس في التشهد الأخير.

وكذلك أن يكون المسبوق أيضاً فقيهاً على الأقل في هذه المسألة؛ ليعرف الفرق بين التشهد الأول والتشهد الأخير.

ثم نسأل: وحتى إذا عرف الفرق بينهما ماذا يترتب على ذلك؟ هل يترتب عليه كبير طائل؟

الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ( فائتوها وعليكم السكينة -وفي رواية: فائتوها وأنتم تمشون، ولا تأتوها وأنتم تسعون- فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا )، فهو مأمور بأن يتبع الإمام، وينضم معه في الصلاة، وليس بشرط أن يعرف قدر ما فاته من الصلاة.

على كل حال هذه الحكم الأربع ذكرها الفقهاء، في بيان الحكمة في التفريق بين التشهد الأول والتشهد الأخير.

صفة الجلوس للتشهد في الصلاة ذات التشهد الواحد

مسألة أخرى أو جزئية أو فرعية من الفرعيات، تتفرع على ما ذكرناه قبل قليل، فقبل قليل ذكرت مذهب مالك وأحمد رحمهما الله، في التفريق بين التشهد الأول، والتشهد الأخير، فهم يقولون: يفترش في التشهد الأول، ويتورك في التشهد الأخير، ومعنى ذلك: أن مذهب أحمد والشافعي في هذه المسألة متطابق أو متفق، هذا هو الذي قد يفهم، لكن ينبغي أن يفهم أن بينهما اختلاف في مسألة فرعية، فبعدما اتفقا على هذا اختلفا في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد، يعني: هما متفقان في الصلاة التي فيها تشهدان مثل: المغرب والعشاء والظهر والعصر ونحوها مثل: الوتر في بعض صوره التي يكون فيه تشهدان، يتشهد ثم يقوم ويأتي بتاسعة مثلاً، ثم يجلس ويسلم كذلك، لكن لم يكن في الصلاة إلا تشهد واحد، مثل ماذا؟ مثل: صلاة الفجر، ومثل: صلاة الجمعة، ومثل: السنن الرواتب، ومثل: العيد، ومثل: صلاة الاستسقاء، الصلاة المقصورة في السفر، وأيضاً الوتر في بعض صوره، فهذه الصلوات التي لا يكون فيها إلا تشهد واحد، اختلف فيها اجتهاد الشافعي رحمه الله تعالى، عن اجتهاد الإمام أحمد:

فأما الإمام الشافعي رحمه الله فإنه رأى أن يتورك الإنسان في كل تشهد يعقبه سلام، هذا مذهب الشافعي، فكل تشهد يسلم فيه، فإنه يشرع للإنسان أن يتورك فيه؛ لماذا؟ قال لك: لأنه يسن تطويل هذا التشهد، لا يقتصر فيه على قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) بل يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فيه ويدعو، فهو تشهد يسن تطويله، وليس بعده قيام ولا تحرك؛ فلذلك استحب أن يتورك فيه، هذا مذهب الإمام الشافعي .

أما الإمام أحمد فإنه يخالفه في ذلك، ويقول: لا يشرع للإنسان التورك، إلا في الصلاة التي فيها تشهدان، أما إذا لم يكن في الصلاة إلا تشهد واحد، فإنه يشرع له أن يفترش فيه؛ لماذا؟ قال الإمام أحمد والحنابلة في ذلك: للأحاديث السابقة، ما هي الأحاديث السابقة؟ قالوا: حديث وائل بن حجر الذي ذكرناه في أدلة الحنفية، ومثل: حديث عائشة ذكرناه في أدلة الحنفية، وهما حديثان يدلان على أن الأصل في الج

ما يتعلق بهذا الحديث، سوف نأخذ فيه مسألة فقهية: وهي ما يتعلق بصفة الجلوس للتشهد في الصلاة، وهذه واضحة في حديث أبي حميد رضي الله عنه، فإنه قال: ( وكان إذا قعد أو جلس في الركعتين -يعني: في التشهد الأول- جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة -يعني: للتشهد الأخير- قدم رجله اليسرى -يعني: أخرجها عن يمينه- ونصب الأخرى -يعني: اليمنى- وقعد على مقعدته ).

إذاً: حديث أبي حميد ذكر فيه صفة الجلوس للتشهد، سواء في ذلك التشهد الأول أو التشهد الأخير؛ ولذا سنبحث أقوال أهل العلم في الجلوس للتشهد الأول والأخير.

فأقول: في هذه المسألة -مسألة الجلوس للتشهد الأول والأخير- ثلاثة أقوال لأهل العلم:


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع