المقاولات.. مواد البناء.. الأثاث.. الأواني غرس يحتاج إلى نية
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
المقاولات.. مواد البناء..
الأثاث..
الأواني
غرس يحتاج إلى نية
إذا ذكرت الصدقة الجارية والأجر المستمر الذي لا ينقطع بأمر الله..
تبادر إلى الذهن الوقف بمعناه الخاص الذي لا يباع ولا يوهب ولا يورث؛ كبناء المساجد والمدارس أو حفر الآبار وبرادات المياه..
وما جرى مجراها..
ويغيب عن الذهن أنّ الصدقة الجارية معنى شامل لكل ما فيه معنى الدوام والاستمرار مما لا يفنى في وقت وجيز غالباً.
ومن ذلك الغرس، كغرس النباتات في البرية أو في حديقة البيت أو مزرعة الإنسان.
في الحديث الصحيح المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ" متفق عليه.
وفي رواية عند مسلم: "إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وفي رواية لمسلم "وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ" أي: لا ينقصه ويأخذ منه.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "في هذه الأحاديث فضيلة الغرس وفضيلة الزرع، وأنَّ أجر فاعلي ذلك مستمر مادام الغراس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة".
والحديث عام؛ يدخل في فضله من نوى بالغرس وجه الله فقط، أو من نوى به الدنيا والآخرة بأنْ نوى نفع نفسه بالربح ونوى خدمة الناس بتوفير حاجتهم من الثمر ولو معاوضةً، قال ابن حجر: (في الحديث الحضّ على عمارة الأرض وأنّ أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه! ولو مات زارعه أو غارسه! ولو انتقل ملكه إلى غيره!) بتصرف.
والبناء وأعمال المقاولات والتصميم الهندسي ومواد البناء..
غرس في الأرض من نوع آخر! فلا يولد في البيت إنسان أو يعبد الله فيه بصلاة أو قراءة قرآن أو ينام أو يأكل أو يستظل بظل سقوفه أو أسواره إنسان أو طير، أو يؤجّره وينفق على ولده من أجرته، أو يبيعه وينتفع الناس من تناقل الأيدي ببيعه -السمسار وأطراف العقد..- إلا كان له به أجر إن احتسب في صنعته الأجر..
وهكذا في الأدوات الكهربائية أو الصحية..
لا يستضيء بالمصباح أو يتوضأ للصلاة بالخلاطات أو يغتسل من السخان الدافئ..
أو يشرب من الماء المحفوظ في الخزان العلوي أو السفلي المار عبر تمديدات السباكة إلا كان له به أجر إن احتسب في صنعته الأجر..
وكذلك قُلْ في مقاولات الطرق وبناء المستشفيات والمصالح العامة، بل وحتى الدكاكين والمستودعات..
فكل انتفاع من البناء به بأي وجه من وجوه الانتفاع المباحة شرعاً إلا كان للمقاول أو التاجر الذي بناه أجراً إذا احتسب في صنعته الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم في صانع السهم.
فعن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ، صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ" رواه أبو داود وصححه الحاكم.
فجعل صلى الله عليه وسلم التاجر في صناعة الأسهم إذا نوى واحتسب الأجر في الصناعة مع قصد الدنيا مستحقاً لدخول الجنة مثله مثل المباشر في إطلاق السهم على العدو، ومثله مثل المعاون لمطلق السهم "مُنْبِلَهُ".
وكذلك الخادم الأجير الذي تأمره سيدة البيت بأن يوصل الهدية للجيران والهدية أصلها من مال الزوج –تمر أو فواكه مما يتهاداه الجيران بينهم- فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الخادم والمرأة لهم من الأجر مثل أجر الزوج لا ينقص بعضهم أجر بعضٍ شيئاً، والحديث متفق عليه.
مع أنّ الخادم أجير وأطاع الأمر بحكم الوفاء بعقد العمل؛ لكنه دخل في الأجر! واشترط صلى الله عليه وسلم لحصول الخادم على الأجر أن ينفذ ما أُمِرَ به كاملاً غير ناقص وتكون نفسه طيبة بذلك؛ فلا يقول أنا أحق أو يحسد المهدى إليه.
فعن أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ - وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ، فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ - أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ».
وكذلك العمال في المقاولات والأُجراء..
النجار.
الحداد.
السباك.
الكهربائي.
المبلط.
الدهان..
شركاء في الأجر إذا احتسبوا في صنعتهم الأجر وأدّوا العمل المتعاقد عليه كاملاً موفراً طيب النفس.
ما بقيت الأبواب في الدار فهو صدقة جارية للنجار ومن قام بتركيبها، وما بقيت المصابيح والأنوار ومفاتيح الكهرباء تعمل فهي صدقة جارية للمسلم الصانع لها أو لمن استوردها ولمن قام بتركيبها..
ما بقيت المكيفات..
ما بقيت دواليب المطبخ..
ما بقيت السرر والأثاث في البيت والمجالس..
كلها متى ما احتسب الصانع والعامل الأجرَ فله من الأجر بقدر نيته وقدر تقواه في الصنعة..
وقل مثل هذا في الأواني المنزلية..
في الثلاجات.
الغسالات..
في كل ما يطول بقاؤه بأمر الله تعالى..
كلها غرس من نوع آخر يبقى الأجر ما بقي الغرس قائماً منتفعاً به..
يظن البعض أنّ من شرط حصول الأجر المستمر - أن تكون النية في العمل أو المال خالصة في قصد ثواب الآخرة لا يريد من ذلك دنيا أو مصلحة لنفسه..
وهذا الظن ليس صواباً من كل وجه: فالعامل له ثلاث درجات:
1- أن ينوي بالعمل وجه الله لا يريد منه ربحاً أو مصلحة لنفسه - فهذا أعلى المراتب وأكملها.
2- أن ينوي بالعمل أجر الدنيا والآخرة - فهذا مأجور ويأتي بالمرتبة التالية.
ودليله ما سبق في صانع الأسهم والخازن الأجير (ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
3- أن ينوي بالعمل الدنيا فقط - فهذا غافل عن الأجر محروم (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
إذا فهمنا هذا واستحضرناه في تجارة المقاولات ومواد البناء، استفدنا الآتي:
1- تحول الأمر من مجرد تجارة وقصد الربح؛ إلى تعبد لله تعالى وهذا يثمر سروراً وانشراحاً في النفس وتحملاً لضغوط العمل وما يواجهه من صعوبات.
2- تحسين النية يدفع إلى تجويد العمل وإحسانه، لأنه مستحضر أن أجره مستمراً ما بقي البناء والمواد المستخدمة فيه، وهذا يعنيه على البعد عن التوفير الذي يضر بالجودة، ويباعد بينه وبين الغش والخداع.
3- يعين على ترك الشح، فيدنو بذلك من السماحة التي تدخله في رحمة الله، فعنه صلى الله عليه وسلم قال: «رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقْتَضَى».
أخرجه البخاري.
وإذا حلت عليه رحمة الله فأي توفيق يطلبه بعد ذلك!
4- بركة في الرزق، وإنما يرزق المرء على قدر نيته.
5- يساهم في تحسين الأخلاق والوفاء بالعقود وإيجاد رقابة داخلية على قيم العمل.
وبعد: فإنّ أبواب الأجور أوسع من أن تكون بالصدقة الخالصة، ورب رجل ظاهر فعله بيع وشراء وباطنه صدقة يرجو من الله ذخرها وأجرها، فيستحق أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله " رجل تصدق بصدقة فأخفها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
إنّ إصلاح النيات باب من أبواب التجارة مع الله تعالى التي لا حدّ لها..
والله ولي التوفيق.