أحكام الوصايا


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره واجتنبوا مساخطه، وخذوا من أيامكم عبراً، واستوصوا بأنفسكم وأهليكم خيراً.

عباد الله! ابن آدم يتقلب في هذه الحياة ما أمد الله له من العمر، يتقلب مراحل وأطواراً من الطفولة والشباب والكهولة والهرم، ويمر خلالها بأحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والصحة والمرض، وهو في جميع هذه الأطوار، وفي تلك الأحوال، بحاجة إلى التذكر والتذكير، والوصايا والتوجيه، وبحاجة إلى التوبة النصوح، والثبات على الحق، وتحري العدل: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50].

كل ابن آدم بحاجة إلى هذا، غير أن هناك فئات من الغافلين والمرضى، والعجزة والمسنين، وذوي الحقوق، قد ينسيهم حرصهم على حقوقهم، وتنميتهم أموالهم، ينسيهم ذلك حقوق الآخرين، من أصحاب الديون والودائع، أو ذوي الفقر والحاجة من الأقربين وغير الأقربين، فإذا ما أصابته مصيبة، أو أحس بدنو أجله راجع نفسه، وندم على ما أسلف.

ولقد علم الله ضعف هذا المخلوق، فهيأ له برحمته فسحة، وفتح له باب أمل من أجل أن يعمل صالحاً، وكما شرع له ميدان حسنات حال الحياة، فقد شرع الله له ميدان آخر بعد الممات، لمثل هذا شرعت الوصية، وتكاثرت النصوص في الحث عليها، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين)، وفي رواية: (ثلاث ليال، إلا ووصيته عنده مكتوبة)، قال عبد الله بن عمر : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إلا وعندي وصيتي، متفق عليه، وفي الحديث: (المحروم من حرم وصيته)، وقال الشافعي رحمه الله: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته، ومن مات وقد أوصى مات على سبيل وسنة.

عباد الله! الأولى للمسلم أن يقدم الصدقة الجارية لنفسه في حال الحياة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصدقة خير؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان ولفلان كذا، وقد كان لفلان).

فالأولى للمسلم أن يقدم صدقته الجارية في حال حياته، ولا يمهل ذلك في الوصية، فإن هذا آمن له في تحقيق هذه الصدقة، وفي وقتنا ولله الحمد كثرت الأوقاف الجماعية، فكثيراً ما نقرأ على أبواب المساجد والطرقات وغيرها، الدعوة إلى التحبيس والتسبيل، وهذا نوع من الصدقة الجارية، فنقرأ الدعوة إلى التحبيس والتسبيل على المساجد، ومكاتب الدعوة، وجمعيات البر، وتحفيظ القرآن، وجمعيات الأيتام وغيرها، وهذه صدقات جارية بإمكان المسلم ولو كان دخله قليلاً أن يساهم في مثل هذه الصدقات.

عباد الله! من لزمته حقوق شرعية لله أو لعباد الله من الزكوات والكفارات والودائع والديون، فليسارع في أدائها، وليبادر في قضائها، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله، وفي الحديث: (مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته)، فإذا كان قادراً على قضاء هذه الديون والحقوق لله أو لعباد الله، فليبادر في قضائها، فإن لم يفعل فليبادر بكتابة وصية في ذلك، تكون واضحة في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها عادلة في شهودها، من أجل أن تحمد سيرته، وتحفظ حقوقه، ولا يبقى أهله من بعده في منازعات، ويلقى ربه وقد أدى ما عليه وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفته، وحسنت بإذن الله خاتمته.

ومن لم تكن عليه حقوق، ولم تلزمه ديون، وله ورثة محتاجون، وليس عنده مال كثير فليبدأ بورثته، وليترك المال لهم، ولا يقدم عليهم وصيته؛ لأنهم أحق بماله، وأولى بمعروفه، ففي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك أن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، خرجاه في الصحيحين، وفي الحديث: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)، وأراد رجل أن يوصي، فقال علي رضي الله عنه: إنك لم تترك مالاً طائلاً، إنما تركت شيئاً يسيراً، فدعه لورثتك.

وسأل رجل عائشة رضي الله عنها فقال: إن لي ثلاثة آلاف، وعندي أربعة أولاد، أفأوصي؟ قالت: اجعل الثلاثة للأربعة.

أما إذا أغناك الله عز وجل فلتدخر لنفسك عملاً صالحاً، وصدقة جارية، يمتد لك ثوابها.

ولتبدأ في وصيتك بالأقربين من غير الوارثين، فهم أحق ببرك.

وقد ذهب طوائف من العلماء إلى أن الوصية للأقربين غير الوارثين واجبة؛ لقول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، فأوص بشيء من مالك لأقاربك غير الوارثين.

وليحزم المسلم أمره ولا يؤخر إلى شهود أمارات الموت، وتمام الحزم أن تقدم الصدقة الجارية وأنت في حال حياتك.

وليعلم وفقكم الله أن وجوه البر كثيرة، من الوصية للفقراء الأقارب غير الوارثين، ومن عمارة المساجد وخدمتها، وبناء المدارس الإسلامية، والمشاركة في بناء مكاتب الدعوة، وجمعيات التحفيظ والبر وغير ذلك.

ثم احذروا رحمكم الله وصية الإثم والحيف، والمضارة بالوصية، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل -والمرأة- بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهم الموت فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار)، ثم قرأ أبو هريرة: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:12-13]، رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح غريب.

سبحان الله! سبحان الله! كيف يتجرأ هذا المخذول ليضار في وصاياه وهو في حال من إدبار الدنيا وإقبال الآخرة؟! في حال يصدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر، وأي قسوة أشد من هذه القسوة، فنعوذ بالله من الخذلان وإِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].

عباد الله! من صور الإضرار بالوصية: أن يقر بكل ماله أو بعضه لغير مستحقه، أو لأحد من الورثة، وهذا نوع من الوصية للوارث، والوصية للوارث محرمة بالإجماع.

ومن صور المضارة: أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من حقه.

ومن صور ذلك: أن يبيع شيئاً بثمن بخس أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري شيئاً بثمن فاحش من أجل أن يضر بالورثة، ويمنعهم حقوقهم.

ومن صور ذلك: أن يوصي بأكثر من الثلث.

ومن صور ذلك: أن يوصي للوارث سواء كان ذلك عن طريق مباشر، أو كان عن طريق غير مباشر.

وقد حكي الإجماع على أن الوصية للوارث محرمة.

ومن صور ذلك: أن يوصي في الأمور المبتدعة، والمسائل المحرمة، كالنياحة والتبذير، والبناء على القبور، والدفن في المساجد وغير ذلك.

فاتقوا الله أيها المسلمون! واتق الله يا عبد الله.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.

أقول ما سمعتم، وأسأل الله لي ولكم الهدى والتقى، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا في ديننا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يفقهنا في ديننا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

عباد الله! من أدب الوصية ومستحباتها: أن يكتب في صدر وصيته ومقدمتها ما كان السلف يكتبونه، فقد روى الدارقطني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: كانوا يكتبون في وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك بعده من أهله، أن يتقوا الله حق تقاته، وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما يوصي إبراهيم بنيه ويعقوب: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، إسناده حسن.

وبعد ذلك: يذكر الموصي ما يريد أن يوصي به من التبرع لأقاربه غير الوارثين، ومن أنواع الصدقات الجارية، ومن قضاء الديون وغير ذلك، وإيفاء الحقوق.

ثم بعد ذلك يشهد شاهدين عدلين على وصيته، ويختمها بتوقيعه.

عباد الله! من أحكام الوصايا: أنه يجوز للمسلم أن يغير في وصيته، فله أن يبدل وصيته، وله أن يغيرها وأن يبطلها، كما جاء ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال عمر رضي الله تعالى عنه: للرجل أن يغير في وصيته ما شاء، وكذلك أيضاً ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

وبهذا نعرف أن الوصية مصلحة محضة للموصي، فإذا أوصى المسلم بشيء من التبرعات والصدقات الجارية إن فاجأه الموت فقد احتاط لنفسه، وإن لم يفاجئه الموت فله أن يبطل هذه الوصية، فإذا احتاج إلى هذا المال له أن يبطل هذه الوصية، وله أن يغير في مصارفها، وله أن يأكلها، فهي من الحزم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه).

عباد الله! ومما ينبه له أن بعض الناس يوصي بوقف أو سبيل على ورثته أو على أولاده، ثم يقول بعد ذلك: هذا للمحتاج من الذرية، وهذه اللفظة، كلمة: (المحتاج من الذرية) توقع كثيراً من الورثة في شيء من الخلاف والشقاق، فكلٌ يدعي أنه محتاج، والأولى أن يجعل الوصية عامة للجميع؛ فيجعل هذا الوقف أو هذا التحبيس جميعاً للأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يخص ذلك محتاجاً من غيره؛ لأن هذا -كما أسلفت- يوقع الخلاف والشقاق.

عباد الله! ومما ينبه له أيضاً أن بعض الناس يكتب عدة وصايا، والأولى بالمسلم إذا كتب الوصية الأخيرة أن يكتب فيها: وهذه الوصية ناسخة لما تقدمها من الوصايا؛ لئلا يقع أهله في شيء من الإشكالات.

ومما ينبه له أيضاً أن بعض الناس قد ينفق على بعض أولاده، أو يقوم بتزويج بعض أولاده، ثم بعد ذلك يوصي بتزويج الصغار، وهذه من الوصية للوارث؛ لأن الزواج نوع من النفقة يجب على الأب أن يقوم به، إذا كان قادراً والولد غير قادر، يجب عليه أن يقوم به، فمن احتاج إلى هذه النفقة أعطي هذه النفقة، ومن لم يحتج إليها فإنه لا يوصى له بشيء، إذ هو من الوصية للوارث.

أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، معزاً للآمرين بالمعروف، معزاً للناهين عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ المسلمين والمسلمات في كل مكان، اللهم احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، وفك أسرى المأسورين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحكام الصيام 2892 استماع
حقيقة الإيمان - تحريم التنجيم 2514 استماع
مداخل الشيطان على الإنسان 2495 استماع
الأمن مطلب الجميع [2] 2438 استماع
غزوة الأحزاب 2376 استماع
نصائح وتوجيهات لطلاب العلم 2366 استماع
دروس من قصة موسى مع فرعون 2354 استماع
دروس من الهجرة النبوية 2352 استماع
شهر الله المحرم وصوم عاشوراء 2211 استماع
حقوق الصحبة والرفقة 2181 استماع