جريمة الرشوة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

أيها المسلمون! من الشرائع التي قررها الإسلام أن الراعي والرعية يدان يتعاونان على جلب الخير للمجتمع، وعلى رعاية مصالحه، ولا يستقيم أمره ولا تتَّسِق شؤونه إلا إذا قام كل بمسئولياته عدلاً وإنصافاً، نزاهة وإنجازاً.

ومن هنا جاء الإسلام بكل الشرائع الأساسية التي تحفظ مقاصد المسئولية، وتدْرأ أسباب الانحراف عنها، وتصون المسئول عما يخل بواجب عمله وميزان العدل عنده.

ومن هذه الشرائع النهيُ الأكيد والزجر الشديد عن جريمة الرشوة أخذاً وإعطاءً وتوسُّطاً.

فالرشوة معصية للرب، مَجْلبة للعذاب، وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)، حسنه الترمذي ، وصححه ابن حبان ، وفي الطبراني : (الراشي والمرتشي في النار).

وتأسيساً على هذه النصوص وغيرها، عد أهل العلم كـابن حجر الهيتمي والذهبي رحمهما الله تعالى الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب.

الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل، وتناولٌ للسحت، والله جل وعلا يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، ويقول سبحانه في شأن اليهود: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42].

والرشوة داءٌ وبيل ومرض خطير، فما يقع فيها امرؤ إلا ومحقت منه البركة في صحته، ورزقه، ووقته، وعياله، وعمره، وما تدنَّس بها أحد إلا حُجبت دعوته، وذَهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، و(كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به). ومن السحت: الرشوة.

والرشوة خطرها عظيم، وفسادها كبير، تُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، وتفسدُ أحوال المجتمعات، وينتشر الظلم فيها بسبب الرشوة، بل ما تفشَّت في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة، وما وقعت الرشاوى في أمة إلا وحلَّ بها الغش محل النصيحة، والخيانةُ محلَّ الأمانة، وحل الظلم محل العدل، والخوف محل الأمن، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب.

عباد الله! حقيقة الرشوة وصورها كثيرة:

من ذلك: ما يدفعه المرء لمن تولى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصل له إلى ما لا يحل له.

ومن أعظم صورها وأنواعها: ما يُعطى الموظف لإبطال حق، أو لإحقاق باطل، أو لظلم أحد، فالهدية للموظف إذا ترتب عليها محظور شرعي، كأن يحكم للمعطي، أو لا تطبق الشروط التي اشترطتها جهة العمل، أو ليقدم المعطي على غيره، هذه من الرشوة.

ومن ذلك: ما تقدمه بعض الشركات من هدايا للموظفين مقابل أن يتنازلوا عن بعض الشروط التي اشترطتها الجهة المسئولة.

ومن صور الرشوة: تقديم الهدية من الموظف لرئيسه في العمل؛ لأنها سبيل للمداهنة وغض البصر عن عمل الموظف.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة نوع من الهبة.

ومن صورها: الهدية للموظف إذا كان للمراجع حاجة، سواء انتهت حاجته أو لم تنته، بل عد جمهور العلماء رحمهم الله تعالى أن الهدية للموظف من الغلول، سواء كان للمراجع حاجة أو لم يكن، ما دام أنه أهدى إليه من أجل وظيفته وولايته.

ومن صورها: مراعاة الموظف في الأسعار.

عباد الله! ويستثنى من ذلك ما إذا أذن ولي الأمر بالهدية، أو كانت لا من أجل العمل بل لكونه بينه وبين الآخر مهاداة لقرابة أو لجوار أو زمالة ونحو ذلك.

وكل موظف يأخذ مالاً من أحد من المسلمين على عمل من الأعمال التي في دائرة وظيفته، فذلك من الرشوة التي هي من كبائر الذنوب.

فالرشوةُ محرَّمةٌ بأي صورة كانت، وبأي اسم سُمِّيت، سواء سُميت هدية، أو مكافأة، أو إكرامية، فالأسماء في الشريعة لا تغيِّر الحقائق شيئاً، والعبرة للحقائق والمعاني لا للصور والمباني.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هدايا العمَّال غلول)، والمراد بالعمَّال كل من تولى عملاً من أعمال المسلمين، وهذا يشمل سائر الموظفين، أياً كانت مراتبهم ودرجاتهم.

روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل النبي رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو أمه؛ حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟! والذي نفسي بيده، لا ينال أحد منكم شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه)، خرجاه في الصحيحين.

فهذه قاعدة لا تقبل التأويل يجب تطبيقها: وهو قوله: (أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟!) هكذا قرر النبي صلى الله عليه وسلم.

فالهدية من أجل الوظيفة من الغلول والرشوة، وهذا الفهم هو الذي فهمه محققو أهل العلم.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يُهدى إليه للمحاباة، وليخفِّف عن المُهدي، ويُسوِّغ له بعض الواجب عليه استيفاؤه لأهله، انتهى كلامه.

وروى البخاري معلقاً أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله اشتهى التفاح، فلم يجده في بيته، ولا ما يشتري به، فخرج وهو الخليفة، فتلقاه غلمان بأطباق التفاح، فتناول واحدة فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقيل له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟! فقال: إنها لأولئك هدية، وإنها للعمال رشوة.

فاتقوا الله أيها المسلمون! واستجيبوا لنداء ربكم، وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه، واحذروا أسباب غضبه تسعدوا في الدنيا والآخرة.

اللهم! وفقنا لمراضيك، وجنبنا مساخطك، اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدَّخرها ليوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المرسلُ رحمةً للعالمين، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فيا سعادة من اتقاه، ويا فلاح من أطاعه.

عباد الله! بالرشوة تُهدَر الحقوق، وتُعطَّل المصالح، وبها يُقدَّم من يستحق التأخير، ويؤخر من يستحق التقديم، وعن طريقها يقدم السفيه الخامل، ويبعد المجد العامل، فكم ضيَّعت من حقوق، وأهدرت من كرامات، وكم رفع بها من لئيم، وأهين من كريم.

أيها الموظف! لا يجوز لك أن تعطل معاملات المراجعين حتى تنال منهم منفعة، أو لكي تعملها خارج العمل مقابل منفعة تأخذه من عملك، فعليك أن تنجز لإخوانك المسلمين معاملاتهم، وتفكر في نفسك.

وإن هذا المال الذي تأخذه بسبب الحيل واستغلال الوظيفة من الرشوة، ولتكن معاملات الناس عندك سواسية، إذ أن بعض الموظفين يبادر بتخليص بعض المعاملات من يرجو منفعته، ويتأخر في تخليص معاملات غيره، فاتق الله، فإن هذا خلاف الإنصاف والعدل.

عليك أخي الموظف أن تربي نفسك عن التعفف على أموال الناس، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الله، إذا تعففت عن أموال الناس طرح الله عز وجل البركة فيما أخذته من أجر، وأحبك الناس ونلت عند الله عز وجل أجراً عظيماً، ومنزلة كريمة، بسبب تفريجك كرب المسلمين والسعي في حاجاتهم.

عباد الله! من شفع لأخيه شفاعة، وتوسط له بواسطة، فأهدى له هدية، فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن هذه الهدية بسبب هذه الواسطة، وتلك الشفاعة إن كانت في أمر واجب كتخليص حق له أو دفع ظلم عنه، فإنه لا يجوز أن تقبل هذه الهدية، وهي نوع من الرشوة؛ لأن دفع الظلم عن المظلوم أمر واجب، ولا يجوز أن يعاوض عن الواجب، وإن كانت الشفاعة والواسطة في أمر مستحب فأهدى لك هدية، فيجوز لك أن تقبل هذه الهدية.

عباد الله! صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن زيد الذي رواه البخاري- ( خرج يستسقي، فصلى ركعتين ثم استقبل القبلة يدعو وحول رداءه ).

فالاستسقاء سنة مؤكدة حري بالمسلم وجدير به أن يحافظ على هذه السنة، عملاً بالسنة، واقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفوزاً برحمة الله عز وجل، ومشاركة في هذا الاجتماع المبارك الذي هو من أسباب إجابة الدعاء.

وستقام صلاة الاستسقاء إن شاء الله يوم الإثنين القادم، فحري بالمسلم وجدير به أن يبادر وأن يخرج هو وأولاده، وأن يخرج كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متخشعاً متبذلاً متذللاً متضرعاً.

نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يغيث العباد والبلاد، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! عليك بأعداء الدين.

اللهم! عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، والرافضة المعتدين.

اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم! عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين، أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، اللهم! فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين.

اللهم! اشف مرضى المسلمين، اللهم! اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم.

اللهم! اغفر لموتى المسلمين، اللهم! اغفر لهم وراحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.