كيف نحصن أنفسنا من الشيطان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، قضى أن الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استثنى عباده المخلصين من إغواء الشياطين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حصن أمته بالأوراد والأذكار، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن صحابته الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

عباد الله! تكلمنا فيما سبق عن عداوة الشيطان ومكايده ومداخله على الإنسان ووسائله في الإضلال، وبقي علينا أن نعلم كيف نتحصن منه، وكيف جاءت الشريعة بالتحصين منه.

عباد الله! لقد اشتمل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أنواع من التحصينات، التي تشرع للمسلم لكي يتحصن بها من هذا العدو المتربص.

فمن ذلك: إخلاص العبادة لله، فالشيطان نفسه يعترف ألا سبيل له على المخلصين: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40].

والمخلص: هو الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس، وقيل: هو الذي يراقب الله عز وجل في عمله، وقيل: هو من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، والإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها، وهو شرط في قبول العمل، روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه).

ولا بد مع الإخلاص من علم يعبد المرء به ربه على بصيرة، وبه يعلم منافذ الشيطان ووساوسه فيبطلها، وبه يعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيتبعها، ولذا فعالم عامل ناصح لنفسه، أشد على الشيطان من مائة جاهل أو يزيدون.

ومن وسائل التحصينات: لزوم جماعة المسلمين بالحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد) رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه.

ومن ذلك: العبادات المشروعة كلها وسائل لصد الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) رواه أبو داود بإسناد حسن.

وإذا كانت الصلاة المفروضة مع الجماعة طاردةً للشيطان، فصلاة النفل في البيت سبيل لنفرة الشيطان، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً)، قال النووي رحمه الله: حث على النافلة في البيت؛ لكونها أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، ولينفر الشيطان.

وليس يخفى أن الوضوء والأذان والصلاة كلها وسائل منفرة للشيطان.

عباد الله! ومن وسائل طرد الشيطان: الاستعانة بالله، والاستعاذة به منه، قال الله عز وجل: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه. انتهى كلامه.

ولهذا أمر المسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان في أكثر من موضع عند الإحساس بنزغه، فيشرع عند تلاوة القرآن، وعند افتتاح الصلاة، وعند إتيان الرجل أهله، وعند دخول الخلاء، وعند الغضب -وإن كان في إسناده شيء- وعند نباح الكلاب.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير لئلا يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد الحسنات.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته)، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير.

عباد الله! والذكر عموماً والأوراد الشرعية خصوصاً حصون مانعة من الشيطان بإذن الله، والغفلة والإعراض عنهما سبب لتكاثر الشياطين، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، ومثل الذي يذكر الله كمثل رجل طلبه العدو سراعاً، فاحتمى ببيت عظيم الأبواب منيع الأسوار.

عباد الله! ومن أراد هذه الأوراد وجدها مجموعة معتنى بها، اعتنى بها العلماء رحمهم الله تعالى، وحرروها وبينوا صحيحها من فاسدها، لكن مع الأسف مع انتشار هذه الأوراد المختصرة في المساجد والبيوت وعلى الحيطان، فقلة من الناس هم الذين يهتمون بهذه الأوراد ويحفظونها ويرددونها آناء الليل وأطراف النهار، على الرغم من أهميتها وعظيم أجرها، وحاجة الإنسان إليها.

فمن هذه الأوراد على سبيل المثال، ما خرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه).

ومن ذلك قول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ثلاثاً، فإن من قال ذلك لم يضره شيء.

ومن ذلك: آية الكرسي، ومن ذلك: المعوذات وسورة الإخلاص.

عباد الله! وفي كتاب الله شفاء ودواء، وفي تلاوته أجر ومغنم، وبه يحفظ القارئ، وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45].

إن الشياطين تنفر من المكان الذي يتلى فيه القرآن، ولذا جاء الحث على تلاوة القرآن عموماً، وعلى تلاوة سور مخصوصة منه، طاردة للشيطان، كسورة البقرة، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: من سنن البيوت قراءة سورة البقرة في كل شهر مرة، ومن ذلك المعوذات، وآية الكرسي، والآيتان الأخيرتان من سورة البقرة صباحاً ومساء، فطيبوا أفواهكم بتلاوة كتاب الله، وحصنوا بيوتكم من الشياطين، بالإكثار من تلاوته، وعطروا مجالسكم كما هو هدي السلف الصالح.

اللهم إنا نعوذ بك من نزغات الشياطين، ونعوذ بك أن يحضرون.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

عباد الله! وهنا جارحتان تكلم العلماء عن أثرهما، وعن مدخل الشيطان من خلالهما، ينبغي للمسلم أن يحفظهما فحفظهما من وسائل التحصن من الشيطان، قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن اللسان والعينين: وأكثر المعاصي إنما يولدها فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان، وجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشعب، عظيمة الآفات.

ومن وسائل التحصين: تطهير البيوت من كل وسيلة يجتمع عليها الشياطين، كآلات اللهو المحرم والغناء، والتصاوير المحرمة، والتماثيل، والكلاب.

فحري بمن رام الحفظ من الشيطان، أن ينظف بيته من هذه المحرمات.

عباد الله! ومن وسائل التحصينات: ألا يتشبه المسلم بالشيطان فلا يأكل -مثلاً- ولا يشرب بشماله، ولا يأخذ ولا يعطي بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، ويعطي بشماله ويأخذ بشماله، رواه ابن ماجه وصححه المنذري.

وكم هي العوائد السيئة والعادات المستوردة، حين يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما في حديث عائشة يعجبه التيامن في شأنه كله، فليكن لكم فيه أسوة حسنة.

عباد الله! والتثاؤب مدخل للشيطان، ورده من وسائل التحصين، فعلى المسلم إذا تثاءب أن يكظم ما استطاع، فإن لم يتمكن فليرده.

قال العلماء: يعض على شفته السفلى عند مجيء التثاؤب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما التثاؤب فإنه من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: هاه، ضحك منه الشيطان) رواه البخاري. وفي الصحيحين: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل).

عباد الله! وإذا كان رديء الكلام مدخل للشيطان، ففي الكلام الحسن وقاية من نزغاته، قال الله عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].