خطب ومحاضرات
فضيلة الصدق وذم الكذب
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي أمر بالصدق جميع المؤمنين، ورفع ذكر الصادقين بين العالمين وأهان الكاذبين، ووضع ذكرهم في الأسفلين، أحمده سبحانه، يجزي الصادقين بصدقهم من رحمته وفضله، ويجازي الكاذبين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه في هديه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون! وكونوا مع الصادقين، اصدقوا مع الله، واصدقوا مع عباد الله، ( فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا )، صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفة النفس، والقناعة بالمقسوم، من صفات المؤمنين، والكذب والخيانة والطمع من علامات المنافقين، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، قد اشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، والعاجل بالآجل، خرج من المخاطبين بقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أثر الصدق على المجتمع
إن تقدم المجتمع ورفاهيته، وسلامته واطمئنان أفراده، مرهون بشيوع الصدق بين أفراده، وانتشار الثقة بينهم، واضمحلال الكذب إلى أقصى حد ممكن، في عباداتهم وتعاملاتهم، وفي سائر شئون حياتهم.
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدق؛ لأنه مقدمة الأخلاق، والداعي إليها، وهو علامة على رفعة المتصف به، فبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من جميع الشرور، كما أن البركة مقرونة بالصدق، فقد ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ).
أثر الصدق على الفرد
ناهيك -أيها المسلم- عمن اعتاد على الكذب وصار عادة له وطرقا، هل تخاله يصدق ولو مرة؟ قال الأصمعي رحمه الله: قلت لكذاب: أصدقت قط؟ قال: لولا أني أخاف أن أصدق في هذا، لقلت: لا، فتعجب!
فالصدق أيها المسلمون! تضرم به العهود الوثيقة، وتطمئن له القلوب على الحقيقة، فمن صدق في حديثه كان عند الله وعند الناس صادقًا محبوبًا، مقربًا موثوقاً، شهادته بر، وحكمه عدل، ومعاملته نفع.
ومن صدق في عمله بعد من الرياء والسمعة، وكانت صلاته وزكاته وصومه وحجه وعلمه ودعوته لله وحده لا شريك له، لا يريد بإحسانه أجرًا ولا رياءً ولا سمعة، ولا يطلب من أحد من الناس جزاءً ولا شكورًا، يقول الحق ولو كان مرًا، فصدقه في أقواله وأفعاله: هو مطابقة مظهره لمخبره، وتصديق فعله لقوله.
أهمية الصدق في الأعمال والوظائف والمهن
والتاجر الذي يعرض السلعة يؤمل فيها الربح المبارك، يجب عليه أن يتحرى الصدق في قوله وعمله، فلا يغش ولا يدلس، ولا ينفق سلعته بالكذب والأيمان الفاجرة، فإن ذلك يمحق الله به الكسب، ويذهب به بركة الربح.
والمحترف بأي حرفة، والصانع في أي صناعة، والعامل في أي عمل يجب أن يكون الصدق في قوله وعمله، فلا يزعم زعمًا لا يصدقه الواقع، وتكذبه الحقيقة، ولا يغش ويدلس في عمله، وأن يعف المطعم، يجب أن يكون الصدق رائده.
والموظف المؤتمن على مصالح المسلمين، مهما ارتفعت وظيفته، واتسع نفوذه، وتشعبت مسئولياته، يجب عليه أن يتحرى الصدق فيما يكتبه من تقارير وأحكام، فلا يقرر غير الواقع، ولا يلبس أو يحابي أو يجامل أناساً على حساب الآخرين، ولا يقدمه ويؤخره، وإلا كان غاشًا للناس، كاذبًا في معاملاته، مسئولًا أمام الله عز وجل: ( ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ).
وكذا من ينقل أي خبر من الأخبار، يجب عليه أن يتحرى الصدق فيما ينقله ويرويه، فلا ينقل كذبًا، ولا ينشر باطلًا، فإن الكذب حين يذاع والباطل حين ينصر، يعظم بين الناس خطره، ويتفاقم ضرره، ولذلك يضاعف له العذاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل الذي رواه البخاري وغيره: ( رأيت الليلة رجلين أتياني )، وجاء في الحديث: ( إن الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب كذبة فتحمل عنه، حتى تبلغ الآفاق ).
والمعلم: يجب عليه أنه يكون صادقًا في تعليمه، قائمًا بوظيفته، ناصحًا لطلابه، عدلًا في تعامله معهم.
وعلى كل واحد من الزوجين أن يكون صادقًا مع الآخر، قائمًا بشئونه، محسنًا للخلق معه، فلا ينكره حقه، ولا يتنكر لبذله، آمرًا له بالمعروف، ناهيًا له عن المنكر، متعاونين على أمر الدين والدنيا، وحينئذ تكون السعادة والمودة والألفة بينهما.
وعلى الأب أن يكون صادقًا مع أولاده، غير غاش لهم، مقويًا لإيمانهم، ومربياً لهم التربية الصحيحة، غارسًا لفضائل الأخلاق في نفوسهم، محافظًا على دينهم وأخلاقهم، وإلا كان كاذبًا لهم.
وبهذا نفهم: أن الصدق في الإسلام دائرته واسعة، وليس في مجال محدد ضيق، أخبر الله عز وجل عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه دعا بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، وبشر الله عز وجل عباده بقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2]، وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]، فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق، وحقيقة هذه كلها: هو الحق الثابت المتصل بالله والموصل إلى الله، وهو ما كان بالله ولله من الأقوال والأفعال.
صور مشرقة من صدق السلف
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه حين قال: أما والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين ما أصنع، فشهد أحدًا، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: إلى أين؟ فقال: واهًا لريح الجنة! إني أجد ريحها دون أحد، فصدق مع الله، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة، فنزل قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23].
وهذا كعب بن مالك رضي الله عنه عندما صدق في تخلفه عن غزوة تبوك، وكان من الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله، قلت: يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت )، فوالله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بالصدق وإن قتلك، وقال محمود الوراق : الصدق منجاة لأربابه، وقربة تدني من الرب، والصادق في عمله يدور مع الشرع حيث دار.
عباد الله! إنكم ترون بأعينكم كيف تأخر المسلمون، وسلب منهم المجد، مع كثرتهم العددية، وما ذاك إلا لقلة الصدق، فما أجدرنا أن يكون الصدق رائدًا لنا في جميع أعمالنا وأقوالنا، وليس ذلك على همة المسلم المخلص ببعيد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! إن كثرة الكذب وقلة الصدق آفة إذا استشرت في مجتمع ما قوضت أركانه، وهدمت أساس استقراره، وبدلت اطمئنان أفراده قلقًا، وسعادتهم شقاءً؛ لأن الحياة في مجتمع يمارس أفراده الكذب، حياة تعيسة؛ بعدم انعدام الثقة بين أفراده، كل خبر يسمعه لا يطمئن إلى صدق مخبره فيه حتى يتأكد بنفسه، وكل سؤال يسأله لا يرتاح إلى صدق مجيبه حتى يبلغه، لا يطمئن في التعامل مع أهله وجيرانه، ولا في بيعه وشرائه، ولا في مكتبه وعمله؛ لأنه لا يثق بصدق الناس في أخبارهم وتعاملهم، فهل يمكن للمسلم في مثل هذا الجو أن يحيا حياة مثمرة، فضلًا عن أن تكون حياة سعيدة هادئة.
إن تقدم المجتمع ورفاهيته، وسلامته واطمئنان أفراده، مرهون بشيوع الصدق بين أفراده، وانتشار الثقة بينهم، واضمحلال الكذب إلى أقصى حد ممكن، في عباداتهم وتعاملاتهم، وفي سائر شئون حياتهم.
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدق؛ لأنه مقدمة الأخلاق، والداعي إليها، وهو علامة على رفعة المتصف به، فبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من جميع الشرور، كما أن البركة مقرونة بالصدق، فقد ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ).
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحكام الصيام | 2891 استماع |
حقيقة الإيمان - تحريم التنجيم | 2513 استماع |
مداخل الشيطان على الإنسان | 2493 استماع |
الأمن مطلب الجميع [2] | 2437 استماع |
غزوة الأحزاب | 2375 استماع |
نصائح وتوجيهات لطلاب العلم | 2365 استماع |
دروس من قصة موسى مع فرعون | 2353 استماع |
دروس من الهجرة النبوية | 2350 استماع |
شهر الله المحرم وصوم عاشوراء | 2209 استماع |
حقوق الصحبة والرفقة | 2180 استماع |