شرح سنن أبي داود [514]


الحلقة مفرغة

الفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في التصنيف في مباحث العقيدة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب شرح السنة.

حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب السنة]، وهذا الكتاب من جملة كتب كتاب السنن لـأبي داود ، وهو يتعلق بمباحث العقيدة، ولفظ السنة يأتي عند السلف والمراد به ما يتعلق بالعقيدة، ولهذا نجد أن الكتب التي أفردت بهذا الاسم هي من كتب العقيدة، وغير أبي داود أفرد مباحث العقيدة بكتب، فمنها ما جاء بهذه التسمية وهو: كتاب السنة، وأما أبو داود رحمه الله فقد جعل هذا الكتاب ضمن كتابه السنن، فهو من جنس كتاب التوحيد عند الإمام البخاري ، وكتاب الإيمان عند الإمام البخاري أيضاً، أي: أن الكتاب الجامع يشتمل على كتب في العقيدة: ككتاب الإيمان، وكتاب السنة، وكتاب التوحيد.. وغير ذلك من الكتب التي هي ضمن الكتب الجامعة.

ومن المعلوم أن التأليف في العقيدة له حالتان أو طريقتان: إحداهما طريقة المتقدمين، وهي أنهم يذكرون الأحاديث والآثار بالأسانيد، ويخصصون كتباً للعقيدة باسم السنة، أو باسم الإيمان، أو باسم الرد على الجهمية.. أو غير ذلك، ومن العلماء من يجعل في المؤلفات الجامعة العامة كتباً تشتمل على مباحث العقيدة، كما فعل أبو داود رحمه الله في هذا الكتاب، فقد ذكر كتاب السنة ضمن كتابه: (السنن).

وأما الطريقة الثانية فهي طريقة المتأخرين، فتجدهم يأتون إلى مباحث العقيدة فيذكرون في كل مبحث ما ورد فيه من الآيات والأحاديث، لكنهم لا يسندون ذلك، بل يعزون ذلك إلى الكتب المسندة، فيقولون مثلاً: روى البخاري في صحيحه كذا، وروى أبو داود في سننه كذا، وروى ابن ماجة في سننه كذا، دون أن يذكروا أسانيدهم بذلك، وإنما يذكر الكتب التي خرجت تلك الأحاديث، وكذلك يذكرون الآثار والرد على المخالفين.

ويأتي ضمن تأليفات المتقدمين أسماء عامة يدخل تحتها مسميات كثيرة، فمثل لفظ السنة جاء فيه مؤلفات عديدة، منها ما هو موجود ومنها ما ليس موجوداً، بل فُقد ولم يظفر منه على شيء، ومثال الكتب المؤلفة في السنة: كتاب السنة لـابن أبي عاصم ، والسنة للطبراني ، والسنة للالكائي ، والسنة لـمحمد بن نصر المروزي ، وكتب كثيرة بهذا اللفظ، ومنها ما هو باسم الإيمان، ومنها ما هو باسم الرد على الجهمية، وأما المتأخرون -فكما قلت- فإنهم يذكرون الآيات والأحاديث والآثار، ويردون على المخالفين في كل موضوع من الموضوعات، وذلك مثل شرح العقيدة الطحاوية، ومثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كمنهاج السنة، والعقيدة الواسطية والتدمرية والحموية، وغير ذلك من الكتب، ومثل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ككتاب التوحيد وغيرها من الكتب.

المعاني المرادة من إطلاق لفظ السنة

ولفظ السنة يطلق على أربعة معانٍ، أعمها وأشملها: أن السنة تطلق ويراد بها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي، سواء كان كتاباً أو سنة، والمراد بالسنة هنا الطريقة، أي: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أي: طريقته ومنهجه ودينه الذي جاء به عليه الصلاة والسلام؛ فالقرآن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء به الرسول من الوحي فهو داخل في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى العام، فمن رغب عن سنتي التي جئت بها -سواء كانت في القرآن أو في السنة- فليس مني.

والمعنى الثاني: أن تأتي بمعنى الحديث، أي: خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمحدثون والفقهاء عندما يأتون إلى الاستدلال على مسائل فإنهم يقولون: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فالمراد بالسنة هنا الحديث؛ لأنها عطفت على الكتاب، فيراد بها خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ذكروها إجمالاً عادوا إليها تفصيلاً، فقالوا: فأما الكتاب فيقول الله عز وجل كذا وكذا، وأما السنة فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على كذا، وأما المعقول فإن القياس والعقل يدل على كذا وكذا مما هو مطابق للنقل، لذلك تطلق السنة على الحديث، فيقال: حديث ويقال: سنة، فهما بمعنى واحد، والحديث هو ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خَلقي أو خُلقي، وهذه هي السنة.

المعنى الثالث: أن يؤتى بالسنة في مقابل بدعة، ومنه ما نحن فيه هنا، فإن قوله: كتاب السنة، أي: ما يعتقد طبقاً للسنة، ومخالفاً ما هو مبتدع، وكذلك قولهم: فلان من أهل السنة، أي: ممن هو على عقيدة سليمة وصحيحة، ويقال: هذا سني وذاك بدعي، أي: إذا كان هذا من أهل السنة وذاك من أهل البدع.

والمعنى الرابع: أن يراد بالسنة: المندوب والمستحب في اصطلاح الفقهاء، أي: أنها مترادفات عندهم، لذلك فالفقهاء يقسمون الأحكام إلى خمسة أقسام، وهي: واجب ومندوب ومحرم ومكروه ومباح، فما أمر به على سبيل الإلزام يقال له: واجب، وهو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وما أمر به ليس على سبيل الإلزام يقال: مندوب ومستحب، وهذا هو الذي يقال له في اصطلاح الفقهاء: سنة، فإذا جاء في كتب الفقهاء يسن كذا، أو يستحب كذا، أو يندب كذا، أو هذا سنة، أو هذا مندوب، أو هذا مستحب، فإنه يقصد بذلك ما كان الأمر فيه ليس على سبيل الإلزام.

شرح حديث (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة..)

وأورد أبو داود رحمه الله باب: شرح السنة، والمقصود بذلك بيان وإيضاح المراد بالسنة، وقد جاء في حديث معاوية بيان أن المقصود بالفرقة الناجية التي هي واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، والتي هي في الجنة، أنها الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالمقصود بقوله: شرح السنة، أي: بيان وتوضيح السنة.

وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة)، وهذا الحديث يدل على حصول الافتراق في الأمم السابقة من اليهود والنصاري، وأنهم فرق شتى، ونحل متعددة، وأن هذه الأمة سيحصل لها مثل ما حصل لهم، وأنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار، أي: أنها مستحقة لدخول النار، وهذا الحديث فيه الإخبار عن أمور مغيبة، ففيه الإخبار عن أمور مضت، وأمور مستقبلة، فالأمور التي مضت هي افتراق اليهود والنصارى إلى هذه الفرق الكثيرة، والأمر المستقبلي هو افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ولا ينجو منها إلا فرقة واحدة، وهذه هي الفرقة الناجية، وهي الجماعة، أي:جماعة المسلمين الذين كانوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته، واثنتان وسبعون فرقة مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ليسوا كفاراً، بل هم مسلمون، ولكنهم مستحقون للعذاب، وأمرهم إلى الله عز وجل، فمن شاء أدخله النار، ولكنه لابد أن يخرج منها؛ لأنه لا يبقى فيها أبد الآباد إلا الكفار، ومن شاء الله تعالى أن يعفو عنه عفا عنه وأدخله الجنة ولم يدخل النار، ومن دخلها فإنه لابد وأن يخرج منها، وهذه الفرق هي من أمة الإجابة، فهم مسلمون، ولكن عندهم بدع وأهواء ومخالفات، فهم يستحقون بسببها النار كما ذكرنا سابقاً، ولا يسلم من عذاب الله ويدخل الجنة من أول وهلة إلا فرقة واحدة وهم الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وهذا الحديث من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإن فيه إخباراً عن أمور ماضية وعن أمور مستقبلة، وقد وقعت تلك الأمور المستقبلة، طبقاً لما أخبر به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو من الأحاديث المشتملة على علامة من علامات نبوته وهو الإخبار عن أمر مغيب.

قوله: [ (وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة) ]، المراد بذلك أمة الإجابة؛ لأن أمة الإجابة هم المسلمون الذين دخلوا في الإسلام، وفيهم من هو سالم من البدع، وفيهم من هو واقع في البدع، والأكثرون هم الواقعون في البدع، وهم مستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وأمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هم الإنس والجن، وذلك من حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، أي: أن الدعوة موجهة إليهم، فهم مكلفون ومطالبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن دخل في دينه، وآمن به، واتبع ما جاء به فقد سلم، ومن أعرض ولم يدخل فيما جاء به من الدين الحنيف فإنه يكون كافراً، ومآله إلى النار، ولو كان تابعاً لنبي من الأنبياء السابقين؛ لأنه ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خُتمت الرسالات، وتعين على كل من جاء بعد بعثة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يدخل في دينه، وإلا فليس أمامه إلا النار، ويكون كافراً من الكفار؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فقوله في هذه الحديث: (لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصران) المراد به أمة الدعوة؛ لأنه ذكر اليهود والنصارى فيها، واليهود والنصارى هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مدعوون ومطالبون بالدخول في دينه، ومن أبى ولم يدخل في دينه فهو كافر، وليس له إلا النار خالداً مخلداً فيها أبد الآباد ولا ينفعه أن يقول: إنه تابع لموسى إذا كان يهودياً، أو إنه تابع لعيسى إذا كان نصرانياً؛ لأن تلك الرسالات قد انتهت ونسخت ببعثة نبينا محمد عليه الصلا والسلام، فشريعته ناسخة لجميع الشرائع، ولا يقبل الله من أحد ديناً سوى الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، نعم ينفعهم قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام أن يتبعوا موسى ويسيروا على طريقته، أو أن يتبعوا ما جاء به عيسى، فهم على حق في ذلك الوقت، وأما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينفع أحداً أن يدعي أنه تابع لموسى أو عيسى، بل لا بد أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وإلا كان كافراً ليس أمامه إلا النار.

وعلى هذا فالأمة أمتان كما ذكرنا سابقاً: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هي التي جاء ذكرها في حديث: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة..)، وأما أمة الإجابة فهي التي ذكرت في حديثنا هنا، وهو (إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة).

وقد جمع الله عز وجل بين الأمتين، وبين أن الدعوة موجهة إليهم على سبيل العموم، وبين من كان موفقاً للدخول في الإسلام، وذلك في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فقوله: (والله يدعوا إلى دار السلام) فيه حذف المفعول، أي: فكل الناس مدعوون إلى دار السلام، فليس هناك تفريق بين الناس في ذلك؛ ولهذا أثبت الله لنبيه صلى الله عليه الهداية العامة، وهي: هداية الدلالة والإرشاد فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فالرسول صلى الله عليه وسلم دل وأرشد إلى الطريق المستقيم، وأوضح ذلك الطريق غاية الإيضاح؛ حتى يوصل إلى الله عز وجل، فمن أخذ به سلم، ومن أعرض عنه خسر، وهذا الإرشاد والبيان موجه إلى كل أحد من أمة الدعوة، ثم قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وهؤلاء هم الذين وفقوا للدخول في الإسلام، وهداهم الله إلى الصراط المستقيم، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ منهم من هو على الجادة المستقيمة، ومنهم من عنده خلل، ولكنهم كلهم لا يخلد أحدٌ منهم في النار، وهذا قد بيناه سابقاً.

تراجم رجال إسناد حديث (افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة...)

قوله: [ حدثنا وهب بن بقية ].

هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ عن خالد ].

هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن محمد بن عمرو ].

هو محمد بن عمرو بن وقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة ].

هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثرهم حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.

شرح حديث (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان ح وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية قال: حدثني صفوان نحوه، قال: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: (ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).

زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، -وقال عمرو : الكلب بصاحبه- لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) ].

أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه في افتراق الأمم السابقة على اثنتين وسبعين، وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين، وأن اثنتين وسبعين منها في النار، وواحدة في الجنة، وأن هذه الواحدة التي في الجنة هي الجماعة، أي: الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما جاء تفسير ذلك في بعض الروايات بقوله: (هم من كانوا على ما أنا عليه وأصحابي)، والحديث دال على ما دل عليه حديث أبي هريرة من افتراق الأمم السابقة، واللفظ الذي ذكره هو الذي جاء في بعض الأحاديث عن النصارى، وأنهم انقسموا على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهو مطابق لما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم من انقسام هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن اثتنين وسبعين فرقة في النار، وواحدة في الجنة، ولكن -كما قلت- هذه الأمة هي أمة الإجابة، وهذه الفرق كلها من المسلمين، ولكن أكثرهم على انحراف عن الجادة، ومستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، أو هم من كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قوله: [ (وأنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحب) ]، أي: أنه يخرج أقوام وهم من هذه الفرق الثنتين وسبعين التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم في النار، تتجارى فيهم الأهواء، والأهواء هي: البدع التي يتبع فيها الهوى ولا تتبع فيها السنة فيكون عندهم انحراف، مع كونهم مسلمين، (تتجارى بهم الأهواء) أي: أن الأهواء توجد فيهم، وتتمكن من عقولهم (كما يتجارى الكلب بصاحبه)، والكلب: هو الداء الذي يحصل من الكلب الذي أصيب بداء الكلب، فإذا عضّ أحداً فإنه يحصل لذلك المعضوض بسبب هذه العضة ضرر وألم يصل إلى جميع جسده، ولا يبقى منه مفصل أو عرق إلا دخله.

تراجم رجال إسناد حديث (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، الإمام المحديث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ ومحمد بن يحيى ].

هو محمد بن يحيى الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ قالا: حدثنا أبو المغيرة ].

أبو المغيرة هو عبد القدوس بن حجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا صفوان ].

هو صفوان بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.

[ ح وحدثنا عمرو بن عثمان ].

هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا بقية ].

هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثني صفوان ].

صفوان هو ابن عمرو الذي مر ذكره.

[ نحوه ].

أي: أن السياق كان على الإسناد الأول، وأما السياق الثاني فهو على نحو السياق الأول.

[ حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي ].

أزهر بن عبد الله الحرازي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي .

[ عن أبي عامر الهوزني ].

أبو عامر الهوزني هو عبد الله بن لحي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن معاوية بن أبي سفيان ].

معاوية بن أبي سفيان ، أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

قوله: [ (وهي الجماعة) ]، أي: الذين كانوا على السنة؛ ولهذا يأتي في الكتب التي أُلفت في عقيدة أهل السنة والجماعة: هم جماعة المسلمين الذين هم على الحق، وعلى منهاج النبوة، وعلى ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فهؤلاء هم الجماعة، وقد جاء تفسيرها في بعض الأحاديث (هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي) بدل ذكر الجماعة.

قوله: [ زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما ].

ابن يحيى هو محمد بن يحيى الذهلي الذي جاء في الإسناد الأول، وعمرو هو الذي جاء في الإسناد الثاني.

[ زاد في حديثيهما: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام) ].

أي: أن هذه الزيادة ليست عند الإمام أحمد ، وإنما هي عند محمد بن يحيى الذهلي وعمرو بن عثمان .

قوله: [ (كما يتجارى الكلب لصاحبه - وقال عمرو -الكلب بصاحبه) ]، أي: أن محمد بن يحيى قال: لصاحبه، والثاني قال: بصاحبه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب شرح السنة.

حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب السنة]، وهذا الكتاب من جملة كتب كتاب السنن لـأبي داود ، وهو يتعلق بمباحث العقيدة، ولفظ السنة يأتي عند السلف والمراد به ما يتعلق بالعقيدة، ولهذا نجد أن الكتب التي أفردت بهذا الاسم هي من كتب العقيدة، وغير أبي داود أفرد مباحث العقيدة بكتب، فمنها ما جاء بهذه التسمية وهو: كتاب السنة، وأما أبو داود رحمه الله فقد جعل هذا الكتاب ضمن كتابه السنن، فهو من جنس كتاب التوحيد عند الإمام البخاري ، وكتاب الإيمان عند الإمام البخاري أيضاً، أي: أن الكتاب الجامع يشتمل على كتب في العقيدة: ككتاب الإيمان، وكتاب السنة، وكتاب التوحيد.. وغير ذلك من الكتب التي هي ضمن الكتب الجامعة.

ومن المعلوم أن التأليف في العقيدة له حالتان أو طريقتان: إحداهما طريقة المتقدمين، وهي أنهم يذكرون الأحاديث والآثار بالأسانيد، ويخصصون كتباً للعقيدة باسم السنة، أو باسم الإيمان، أو باسم الرد على الجهمية.. أو غير ذلك، ومن العلماء من يجعل في المؤلفات الجامعة العامة كتباً تشتمل على مباحث العقيدة، كما فعل أبو داود رحمه الله في هذا الكتاب، فقد ذكر كتاب السنة ضمن كتابه: (السنن).

وأما الطريقة الثانية فهي طريقة المتأخرين، فتجدهم يأتون إلى مباحث العقيدة فيذكرون في كل مبحث ما ورد فيه من الآيات والأحاديث، لكنهم لا يسندون ذلك، بل يعزون ذلك إلى الكتب المسندة، فيقولون مثلاً: روى البخاري في صحيحه كذا، وروى أبو داود في سننه كذا، وروى ابن ماجة في سننه كذا، دون أن يذكروا أسانيدهم بذلك، وإنما يذكر الكتب التي خرجت تلك الأحاديث، وكذلك يذكرون الآثار والرد على المخالفين.

ويأتي ضمن تأليفات المتقدمين أسماء عامة يدخل تحتها مسميات كثيرة، فمثل لفظ السنة جاء فيه مؤلفات عديدة، منها ما هو موجود ومنها ما ليس موجوداً، بل فُقد ولم يظفر منه على شيء، ومثال الكتب المؤلفة في السنة: كتاب السنة لـابن أبي عاصم ، والسنة للطبراني ، والسنة للالكائي ، والسنة لـمحمد بن نصر المروزي ، وكتب كثيرة بهذا اللفظ، ومنها ما هو باسم الإيمان، ومنها ما هو باسم الرد على الجهمية، وأما المتأخرون -فكما قلت- فإنهم يذكرون الآيات والأحاديث والآثار، ويردون على المخالفين في كل موضوع من الموضوعات، وذلك مثل شرح العقيدة الطحاوية، ومثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كمنهاج السنة، والعقيدة الواسطية والتدمرية والحموية، وغير ذلك من الكتب، ومثل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ككتاب التوحيد وغيرها من الكتب.

ولفظ السنة يطلق على أربعة معانٍ، أعمها وأشملها: أن السنة تطلق ويراد بها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي، سواء كان كتاباً أو سنة، والمراد بالسنة هنا الطريقة، أي: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أي: طريقته ومنهجه ودينه الذي جاء به عليه الصلاة والسلام؛ فالقرآن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء به الرسول من الوحي فهو داخل في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى العام، فمن رغب عن سنتي التي جئت بها -سواء كانت في القرآن أو في السنة- فليس مني.

والمعنى الثاني: أن تأتي بمعنى الحديث، أي: خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمحدثون والفقهاء عندما يأتون إلى الاستدلال على مسائل فإنهم يقولون: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فالمراد بالسنة هنا الحديث؛ لأنها عطفت على الكتاب، فيراد بها خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ذكروها إجمالاً عادوا إليها تفصيلاً، فقالوا: فأما الكتاب فيقول الله عز وجل كذا وكذا، وأما السنة فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على كذا، وأما المعقول فإن القياس والعقل يدل على كذا وكذا مما هو مطابق للنقل، لذلك تطلق السنة على الحديث، فيقال: حديث ويقال: سنة، فهما بمعنى واحد، والحديث هو ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خَلقي أو خُلقي، وهذه هي السنة.

المعنى الثالث: أن يؤتى بالسنة في مقابل بدعة، ومنه ما نحن فيه هنا، فإن قوله: كتاب السنة، أي: ما يعتقد طبقاً للسنة، ومخالفاً ما هو مبتدع، وكذلك قولهم: فلان من أهل السنة، أي: ممن هو على عقيدة سليمة وصحيحة، ويقال: هذا سني وذاك بدعي، أي: إذا كان هذا من أهل السنة وذاك من أهل البدع.

والمعنى الرابع: أن يراد بالسنة: المندوب والمستحب في اصطلاح الفقهاء، أي: أنها مترادفات عندهم، لذلك فالفقهاء يقسمون الأحكام إلى خمسة أقسام، وهي: واجب ومندوب ومحرم ومكروه ومباح، فما أمر به على سبيل الإلزام يقال له: واجب، وهو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وما أمر به ليس على سبيل الإلزام يقال: مندوب ومستحب، وهذا هو الذي يقال له في اصطلاح الفقهاء: سنة، فإذا جاء في كتب الفقهاء يسن كذا، أو يستحب كذا، أو يندب كذا، أو هذا سنة، أو هذا مندوب، أو هذا مستحب، فإنه يقصد بذلك ما كان الأمر فيه ليس على سبيل الإلزام.

وأورد أبو داود رحمه الله باب: شرح السنة، والمقصود بذلك بيان وإيضاح المراد بالسنة، وقد جاء في حديث معاوية بيان أن المقصود بالفرقة الناجية التي هي واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، والتي هي في الجنة، أنها الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالمقصود بقوله: شرح السنة، أي: بيان وتوضيح السنة.

وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة)، وهذا الحديث يدل على حصول الافتراق في الأمم السابقة من اليهود والنصاري، وأنهم فرق شتى، ونحل متعددة، وأن هذه الأمة سيحصل لها مثل ما حصل لهم، وأنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار، أي: أنها مستحقة لدخول النار، وهذا الحديث فيه الإخبار عن أمور مغيبة، ففيه الإخبار عن أمور مضت، وأمور مستقبلة، فالأمور التي مضت هي افتراق اليهود والنصارى إلى هذه الفرق الكثيرة، والأمر المستقبلي هو افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ولا ينجو منها إلا فرقة واحدة، وهذه هي الفرقة الناجية، وهي الجماعة، أي:جماعة المسلمين الذين كانوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته، واثنتان وسبعون فرقة مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ليسوا كفاراً، بل هم مسلمون، ولكنهم مستحقون للعذاب، وأمرهم إلى الله عز وجل، فمن شاء أدخله النار، ولكنه لابد أن يخرج منها؛ لأنه لا يبقى فيها أبد الآباد إلا الكفار، ومن شاء الله تعالى أن يعفو عنه عفا عنه وأدخله الجنة ولم يدخل النار، ومن دخلها فإنه لابد وأن يخرج منها، وهذه الفرق هي من أمة الإجابة، فهم مسلمون، ولكن عندهم بدع وأهواء ومخالفات، فهم يستحقون بسببها النار كما ذكرنا سابقاً، ولا يسلم من عذاب الله ويدخل الجنة من أول وهلة إلا فرقة واحدة وهم الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وهذا الحديث من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإن فيه إخباراً عن أمور ماضية وعن أمور مستقبلة، وقد وقعت تلك الأمور المستقبلة، طبقاً لما أخبر به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو من الأحاديث المشتملة على علامة من علامات نبوته وهو الإخبار عن أمر مغيب.

قوله: [ (وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة) ]، المراد بذلك أمة الإجابة؛ لأن أمة الإجابة هم المسلمون الذين دخلوا في الإسلام، وفيهم من هو سالم من البدع، وفيهم من هو واقع في البدع، والأكثرون هم الواقعون في البدع، وهم مستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وأمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هم الإنس والجن، وذلك من حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، أي: أن الدعوة موجهة إليهم، فهم مكلفون ومطالبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن دخل في دينه، وآمن به، واتبع ما جاء به فقد سلم، ومن أعرض ولم يدخل فيما جاء به من الدين الحنيف فإنه يكون كافراً، ومآله إلى النار، ولو كان تابعاً لنبي من الأنبياء السابقين؛ لأنه ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خُتمت الرسالات، وتعين على كل من جاء بعد بعثة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يدخل في دينه، وإلا فليس أمامه إلا النار، ويكون كافراً من الكفار؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فقوله في هذه الحديث: (لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصران) المراد به أمة الدعوة؛ لأنه ذكر اليهود والنصارى فيها، واليهود والنصارى هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مدعوون ومطالبون بالدخول في دينه، ومن أبى ولم يدخل في دينه فهو كافر، وليس له إلا النار خالداً مخلداً فيها أبد الآباد ولا ينفعه أن يقول: إنه تابع لموسى إذا كان يهودياً، أو إنه تابع لعيسى إذا كان نصرانياً؛ لأن تلك الرسالات قد انتهت ونسخت ببعثة نبينا محمد عليه الصلا والسلام، فشريعته ناسخة لجميع الشرائع، ولا يقبل الله من أحد ديناً سوى الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، نعم ينفعهم قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام أن يتبعوا موسى ويسيروا على طريقته، أو أن يتبعوا ما جاء به عيسى، فهم على حق في ذلك الوقت، وأما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينفع أحداً أن يدعي أنه تابع لموسى أو عيسى، بل لا بد أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وإلا كان كافراً ليس أمامه إلا النار.

وعلى هذا فالأمة أمتان كما ذكرنا سابقاً: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هي التي جاء ذكرها في حديث: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة..)، وأما أمة الإجابة فهي التي ذكرت في حديثنا هنا، وهو (إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة).

وقد جمع الله عز وجل بين الأمتين، وبين أن الدعوة موجهة إليهم على سبيل العموم، وبين من كان موفقاً للدخول في الإسلام، وذلك في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، فقوله: (والله يدعوا إلى دار السلام) فيه حذف المفعول، أي: فكل الناس مدعوون إلى دار السلام، فليس هناك تفريق بين الناس في ذلك؛ ولهذا أثبت الله لنبيه صلى الله عليه الهداية العامة، وهي: هداية الدلالة والإرشاد فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فالرسول صلى الله عليه وسلم دل وأرشد إلى الطريق المستقيم، وأوضح ذلك الطريق غاية الإيضاح؛ حتى يوصل إلى الله عز وجل، فمن أخذ به سلم، ومن أعرض عنه خسر، وهذا الإرشاد والبيان موجه إلى كل أحد من أمة الدعوة، ثم قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وهؤلاء هم الذين وفقوا للدخول في الإسلام، وهداهم الله إلى الصراط المستقيم، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ منهم من هو على الجادة المستقيمة، ومنهم من عنده خلل، ولكنهم كلهم لا يخلد أحدٌ منهم في النار، وهذا قد بيناه سابقاً.

قوله: [ حدثنا وهب بن بقية ].

هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ عن خالد ].

هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن محمد بن عمرو ].

هو محمد بن عمرو بن وقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة ].

هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثرهم حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان ح وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية قال: حدثني صفوان نحوه، قال: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: (ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).

زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، -وقال عمرو : الكلب بصاحبه- لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) ].

أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه في افتراق الأمم السابقة على اثنتين وسبعين، وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين، وأن اثنتين وسبعين منها في النار، وواحدة في الجنة، وأن هذه الواحدة التي في الجنة هي الجماعة، أي: الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما جاء تفسير ذلك في بعض الروايات بقوله: (هم من كانوا على ما أنا عليه وأصحابي)، والحديث دال على ما دل عليه حديث أبي هريرة من افتراق الأمم السابقة، واللفظ الذي ذكره هو الذي جاء في بعض الأحاديث عن النصارى، وأنهم انقسموا على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهو مطابق لما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم من انقسام هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن اثتنين وسبعين فرقة في النار، وواحدة في الجنة، ولكن -كما قلت- هذه الأمة هي أمة الإجابة، وهذه الفرق كلها من المسلمين، ولكن أكثرهم على انحراف عن الجادة، ومستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، أو هم من كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قوله: [ (وأنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحب) ]، أي: أنه يخرج أقوام وهم من هذه الفرق الثنتين وسبعين التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم في النار، تتجارى فيهم الأهواء، والأهواء هي: البدع التي يتبع فيها الهوى ولا تتبع فيها السنة فيكون عندهم انحراف، مع كونهم مسلمين، (تتجارى بهم الأهواء) أي: أن الأهواء توجد فيهم، وتتمكن من عقولهم (كما يتجارى الكلب بصاحبه)، والكلب: هو الداء الذي يحصل من الكلب الذي أصيب بداء الكلب، فإذا عضّ أحداً فإنه يحصل لذلك المعضوض بسبب هذه العضة ضرر وألم يصل إلى جميع جسده، ولا يبقى منه مفصل أو عرق إلا دخله.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2728 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2643 استماع