الطريق إلى التفاؤل (2/2) - ناصر بن سليمان العمر
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
تحدثنا في المرة الماضية بإجمال عن عدد من القناعات الضرورية كي يصبح المرء متفائلًا، ويحافظ على تفاؤله في كل الأحوال والظروف، وهو ما سوف نفصله في هذه الكلمات القلائل.أولى هذه القناعات: حسن الظن بالله ؛ وهذه مسألة عقيدة، فإن من حَسُن ظنه بالله أيقن أنه لن يضيعه ولن يضيع دينه، وهذا هو عين التفاؤل.
وتأمل -إن شئت- حال أمنا هاجر رضي الله عنها يوم همَّ إبراهيم عليه السلام في تركها مع ابنها الرضيع في مكة، وهي يومئذ واد غير زرع، بلا أنيس ولا جليس مع قليل من التمر والماء، فلما أجابها أن "نعم" حين سألته: "آلله الذي أمرك بهذا؟ قالت: إذن لا يضيعنا" (صحيح البخاري [3/ 1227] [3184])، تجد صورة رائعة من صور حسن الظن بالله.
وتأمل حال نبينا صلى الله عليه وسلم يوم أحاط المشركون بالغار حتى قال له الصِّدِّيق: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»! ( صحيح البخاري [3/ 1337] [3453]، صحيح مسلم [4/ 1854] [2381])، تجد حسن الظن بالله في أزهى صوره وأعلاها.
وعلى النقيض من ذلك تجد ظن الكفار بربهم، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّـهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ .
وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22-23]، فإنهم لما ظنوا أن الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون، تمادوا في غيهم وضلالهم فأرداهم هذا الظن وجعلهم من أهل النار .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أنا عند ظن عبدي بي» (صحيح البخاري[6/ 2725] [7066])، وفي رواية عند ابن حبان: «فليظن بي ما شاء» (صحيح ابن حبان[2/ 401] [633]، قال شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح")، وفي رواية عند الإمام أحمد: «إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله»(مسند الإمام أحمد بن حنبل [2/ 391] [9065]، قال شعيب الأرناؤوط: "صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة")، فمن حَسُن ظنه بالله ظن به خيرًا فدفعه هذا للتفاؤل وعدم التشاؤم، الذي هو قريب من الإياس من رحمة الله وهو من الكبائر، والعياذ بالله.
ثاني هذه القناعات أن تكون المقاييس والموازين شرعية، فإن من قاس الأمور والأحداث بمقاييس الدنيا ؛ فإن فتحت له أو سارت كما يحب ويشتهي، أو رأى أمته تنتقل من نصر لآخر استبشر وتفاءل، وإن ضيق عليه في رزقه وعيشه، أو رأى الباطل ينتفش أو رأى الأمة تتعرض للمحن والهزائم تشاءم، كانت مقاييسه غير منضبطة شرعيًا، لأن هذه الدنيا دار ابتلاء، ولو أنها كانت دار جزاء أيضًا لحق له ذلك، لكن الصورة لا تكتمل إلا بإضافة الآخرة إلى الدنيا، فإنها هي وحدها دار الجزاء، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [ النساء من الآية:77]، وقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32]، فمن قدر هذه الدنيا قدرها وقدر الآخرة قدرها، صغرت هذه الدنيا بكل ما فيها من أفراح وأتراح، وانتصارات وانتكاسات في عينه كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ .
لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22-23].
ثالث هذه القناعات أن يعلم أن هذا الابتلاء فيه رفع درجاته إن هو صبر وقام بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم...» قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم» (سنن الترمذي [5/ 257] [3058]، قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني بشواهده في الصحيحة [1/ 812])، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر من الآية:10]، فمن علم ذلك كيف تجعله الابتلاءات يتشاءم؟ بل لو قيل إنها ينبغي أن تجعله يزداد تفاؤلًا فضلًا عن أن يصبح متفائلًا فحسب لكان أقرب.
أليس هو يريد الدرجات العلا في الجنة ؟ أليست الابتلاءات بابًا من أبواب رفع الدرجات؟ فكيف يتشاءم إذًا!
إن هذا لا يعني أنه لا يحزن ولا يتألم لما يصيبه ويصيب أمته، لكنه نوع حزن كحزن الطبيب الصالح على مرضاه لما يقاسونه من آلام وأوجاع، فهو ينتفع بمرضهم لأنه باب رزقه، وفي الوقت نفسه يتمنى ألا يقاسي أي منهم ما يقاسيه، وألا يمرض أحد منهم البتة، فالمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء، لكنه إن وقع ازداد أجره إذا علم الله صدقه وحزنه على واقع الناس وسعيه لهدايتهم وصلاحهم.
رابع هذه القناعات أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يحاسبه على النتائج وإنما يحاسبه على العمل؛ على القيام بالمأمورات وترك المنهيات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد» (صحيح البخاري [5/ 2170] [5420])، فهل تراهم قصروا في واجب الدعوة إلى الله عز وجل؟ حاشاهم، بل قد قاموا بذلك على أكمل وجه وأقومه، ومادام الأمر كذلك فلم يضر الواحد منهم أن يستجيب له قومه أو لا يستجيبوا.
نعم، لا شك أن عدم استجابة الناس للداعية ومخالفتهم لما يدعوهم إليه مما فيه فلاحهم ورشادهم، بل ومعاداته ووضع العقبات والعراقيل في طريق دعوته، كل هذا قد يدفع بالبعض للتشاؤم، لكن تكذيب قوم هؤلاء الأنبياء الكرام لهم وعدم استجابتهم لهم لم يحملهم على التشاؤم وسوء الظن بالله فهو محال عليهم، بل ازدادوا يقينًا وإيمانًا، فكانوا يوم القيامة في مقام سامٍ، ولنا فيهم عليهم السلام أسوة حسنة {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام من الآية:90].
خامس هذه القناعات أن يعلم أن من أحب الأعمال إلى الله مقارعة أهل الباطل ومدافعتهم بكل الوسائل المتاحة، ولو يضحي المرء في سبيل الله بالغالي والرخيص، وبخاصة عندما يصبح لهم نفوذ ووجود، فالواقف في وجههم له درجة عالية، وبهذه المدافعة تستقيم الحياة على وجه الأرض ويكف الله سبحانه شرور أعدائه، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة من الآية:251]، وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [ الحج من الآية:40].
أما أن ينزوي المرء ويفقد الأمل ويكتفي بزم شفتيه حسرة على أحوال البلاد والعباد ويأسًا منهم ومن صلاحهم، ولسان حاله يقول: هلك الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» (صحيح مسلم [4/ 2024] [2623])، بفتح الكاف وضمها، قال النووي رحمه الله: "قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين: الرفع أشهر ومعناها أشدهم هلاكًا، وأما رواية الفتح فمعناها هو جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة.
واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم، لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزنًا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه" (شرح النووي على مسلم [16/ 175]).
ختامًا فإن التفاؤل الذي ندعو إليه ليس من جنس التفاؤل الذي يقعد بصاحبه عن العمل بحجة أن لهذا الدين ربًا يحميه، كحال عبد المطلب يوم قال: للبيت رب يحميه!
فللدين رب يحميه وهو ناصر دينه لا محالة، هذا صحيح، لكنه عز وجل مبتلينا لينظر كيف نعمل لنصرة هذا الدين، قال تعالى: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ التوبة :39]، وقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد من الآية:38]، والله المستعان.