أرشيف المقالات

مناقشة الآراء التي لا تتفق مع وجوب قتل المرتد

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
مناقشة الآراء التي لا تتفق مع وجوب قتل المرتد حدًّا

شارك في التأليف: الدكتور سامي صالح الوكيل

نناقش بعض الآراء المعاصرة التي لا تتفق مع وجوب قتل المرتد حدًّا:
استشهد بعض المعاصرين بعدم وجوب قتل المرتد حدًّا بما نُقِل عن بعض فقهاء السلف: إبراهيم النخعي بأن: "المرتدَّ يستتاب أبدًا"، وقد رواه عنه سفيان الثوري[1]، واستشهد كذلك برواية عن عمر بن الخطاب، أنه سئل عن قوم قُتلوا بعد ردتهم، فقال: "كنت عارضًا عليهم الباب الذي خرَجوا منه، أن يدخُلوا، فإن فعلوا ذلك قبلتُ منهم، وإلا استودعتهم السجن"[2]، كذلك نقل عن عمر بن عبدالعزيز أن قومًا أسلموا، ثم ارتدوا، فأمَر برد الجزية عليهم، وتركهم، ومن ذلك يتوصل د.
العوا "أن عقوبة الرِّدة إنما هي عقوبة تعزيرية، وليست عقوبةَ حد، وأنها عقوبة مفوَّضة إلى السلطة المختصة، تقرر بشأنها ما تراه ملائمًا بين أنواع العقاب"[3].
 
والرد على هذا القول، يتلخَّص في أنه قد ثبتت مخالفةُ سائر الفقهاء لقول إبراهيم النَّخَعي، وسفيان الثوري؛ حيث وصف ابنُ قدامة الحنبلي في كتابه المغني قولَ إبراهيم النخعي في استتابة المرتدِّ بأنه قول شاذ، مخالف للسنَّة والإجماع[4]، ولا حجة في قول أحدٍ دون رسول الله - عليه السلام.
 
أما الروايةُ عن عمر - رضي الله عنه - فلا تخالِفُ في وجوب قتل المرتدِّ، وإنما تُحمَل على وجوب الاستتابةِ قبل القتل، وألا يُقتَل فور ردته، بل يُمهَل في ذلك لعله يرجع؛ حيث نُقل عن عمرَ - رضي الله عنه - مسارعتُه في طلب قتلِ مَن ثبت نفاقه، واستئذانه النبي - عليه السلام - في قتلِ بعضهم، مما يدل على ما استقرَّ في عُرف الصحابة من وجوب قتل المرتد، فضلاً عن أنه قد قُتل عدد من المرتدين على يد ولاة عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قتَل عبدُالله بن مسعود - رضي الله عنه - "ابن نواحة لردته"، ورُوي أنه كتَب إلى عمر عن قوم ارتدوا فأجابه: "أن اعرض عليهم شَهادة الحق..
فإن قبِلوها فخلِّ عنهم، وإن لم يقبَلوها فاقتُلْهم"[5].
 
وثبت في رواية الشافعي للشوكاني في نيل الأوطار قول عمر في المرتد: "هلا حبستموه ثلاثًا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه لعله يتوبُ، ويراجع أمر الله[6]"، مما يدل بأن المقصود من رأي عمر المنقول بسجن المرتد عدمُ قتل المرتد مباشرة، بل الاستتابة له لعله يتوب.
 
ويردُّ ابن حزم الظاهري على قول مَن يزعم بوجوب الاستتابة أبدًا، بأن قول من رأى ذلك - لو صح - بطَل الجهاد جملة؛ لأن الدعاء للمعاندين للدعوة كان يلزم أبدًا مكررًا بلا نهاية، وليس دعاء المرتد وهو أحد الكفار بأوجبَ من دعاء غيرِه من أهل الكفر الحربيين، مما يُسقِط هذا القول"[7].
 
ويذكر الشيخ أبو زهرة أن المقصود من قول النَّخَعي هو استمرار الاستتابة حتى اليأس من عودة المرتدِّ إلى الإسلام، وعند ذلك يكون القتلُ، وهذا القول موافقٌ لمن يرى قتل المرتد حدًّا؛ لأنه يقرِّر القتل بالنهاية، وهو الثابتُ بالسنة الصحيحة، وإجماع أهل العلم، وقضاء الصحابة - رضي الله عنهم[8].
 
أيضًا من الواضح أن القاعدة الأساسية عند إقامة الحدود، هي درء الحدود بالشبهات، وليس مستبعدًا أن يكون مقصودُ عمر - رضي الله عنه - تطبيقها قبل إقامة الحد، للتأكد من إدراك المرتدين لجريمتهم، وعدم وجود شبهة لهم، تحتاج إلى كشفٍ وبيان.
 
أما ما نُقِل عن عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - في تركِ المرتدين بعد فرض الجزية عليهم، فإن الروايةَ خاصة في قوم جهِلوا أحكام الشرع؛ ولذلك لم يُطبق عليهم حُكْم الردة؛ لفقدان شرط العلم، والإدراك بالجرم، كما أن الروايةَ الأخرى عن عمر بن عبدالعزيز تدلُّ على أن الحد يقام إذا كان المرتدُّ محلاًّ لإقامة الحكم، لعلمه بالشرع؛ حيث إنه ورَد أن عمرَ بن عبدالعزيز كتَب إلى عامله بشأن المرتد: "أن سَلْه عن شرائع الإسلام، فإن كان قد عرَفها، فاعرِضْ عليه الإسلامَ، فإن أبى فاضرِبْ عُنقه، وإن كان لم يعرِفْها، فغلِّظِ الجزيةَ ودَعْه"[9]، وهذا يدل على أن المرتدَّ إذا لم تنطبق عليه شروط الردة، أو أركانها؛ كأن يكون جاهلاً أو متأولاً، أو كلاهما - فإنه يمكن حينئذٍ تعزيرُه، وهذا يطبَّق على كل جريمة حد، إذا لم تستوفِ شروطها وأركانها، وقد ورد أمثلة لذلك عديدة في فقه السلف؛ حيث لم يُقِمْ عمرُ - رضي الله عنه - حدَّ السرقة على من سرق بسبب جوعه عام الرمادة، ودرء عثمان - رضي الله عنه - حد الزنا عن جارية نشأت تجهَلُ حُكم الزِّنا؛ ولذلك لا حجة بالاستدلال بما نُقل عن عمر بن عبدالعزيز بهذا الصدد؛ حيث إن ذلك مقصورٌ على الحالات التي لا تتوفَّرُ فيها شروط إقامة الحد على جريمة الرِّدة.
 
أيضًا ورَد من الأقوال المعاصرة مَن يرى أن سبب التعزير في جريمة الردة هو أن الحدودَ لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحًا للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين، وفتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم تمنع الإكراه في الدِّين؛ ولهذا يرى الشيخ شلتوت أن هذه قرائنُ تصرِف عن الوجوب إلى الإباحة[10].
 
والجواب أن القول: بأن أحاديث الآحاد لا يثبت بها القتل، مردودٌ؛ حيث إن من الثابت العمل بهذه الأحاديث في أحكام الشريعة العملية، وقد ورد حكم القتل بأحاديث لجرائم أخرى؛ كقتل الزاني المحصن، وقتل الساحر، واللوطي؛ ولذلك لا وجه لاستبعاد حُكم القتل للمرتد؛ لوروده بأحاديث آحاد، خاصة مع إجماع العمل عليه من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - وكون جملة القرائن التي يستشهد بها من يرى أن المرتد يعزر، ولا يقتل حدًّا، ليست بقرائن قوية، حتى تصرف صيغة الأمر بالأحاديث الداعية إلى قتل المرتد من الوجوب إلى غير ذلك، بل إن جملة أقوال من رأى التعزير، في مجملها أقوال شاذة أو مؤولة بما يناسبها.
 
كذلك ورد شبهة لبعضهم في عدم قتل المرتد بكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - عرَف المنافقين، وعلم أنهم مرتدون، كفروا بعد إسلامهم، ولم يقتُلْهم؛ ولذلك يرى هؤلاء أنه لا قتل للمرتد، ويرد ابن حزم - رحمه الله - على هذه الشبهة في بحث طويل، يخلص فيه إلى أن المنافقين إما قوم لم يعرِفْهم - عليه السلام - بأنهم منافقون؛ ولذلك لا حدَّ عليهم، وإما قوم افتضحوا فعرفهم فلاذوا بالتوبة؛ ولذلك لم يُقِم الحدَّ إجراءً لحكم الظاهر عليهم، فيبطل بذلك زعم من قال بعدم قتل المرتد[11]، وقد فصل ابن حزم في ذلك بما لا مزيدَ عليه في رد هذه الشبهة، وتوصل إلى أن مَن عرفهم - عليه السلام - بأنهم منافقون "أظهروا الإسلام فحرُمت بذلك دماؤُهم في ظاهر الأمر، وباطنهم إلى الله -تعالى- في صِدق أو كذِب"[12].
 
أخيرًا، نذكر أن الرِّدة من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة الإسلامية، والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها، وقد شرَع الإسلامُ القتل لجرائم أخفَّ ضررًا؛ حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادعٍ زاجر؛ لِما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمَر بالقصاص حفظًا لأمن الجماعة، فلا يعقل أن يكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، والتي يترتب عليها انهيار أركان المجتمع بمجمله، دون ذلك، والحق أن المرتدَّ إذا ثبتت ردتُه، وانطبقت عليه شروط الحد، فإنه يجب على الدولة الإسلامية قتلُه حدًّا، إذا لم يتُبْ؛ لِما ثبت في ذلك من السنَّة وإجماع أهل العلم.

[1] محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، دراسة مقارنة، القاهرة، دار المعارف بدون تاريخ، ص 154.


[2] المرجع السابق، ص 154.


[3] المرجع السابق، ص 155.


[4] د.
المكاشفي طه الكباشي، الردة ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، الطبعة الأولى، الخرطوم، دار الفكر.


[5] المرجع السابق، صفحة 57.


[6] د.
المكاشفي طه الكباشي، صفحة 36.

[7] ابن حزم، المحلى، المجلد الثامن، ص 192.


[8] د.
المكاشفي طه الكباشي، ص 34.

[9] د.
المكاشفي طه الكباشي، مرجع سابق، صفحة 37.


[10] د.
محمد سليم العوا، مرجع سابق، ص 152.


[11] ابن حزم، المحلى، مرجع سابق، ص 201 - 211.


[12] المرجع السابق، ص 223.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣