أرشيف المقالات

مجالس شرح كتاب الطب من صحيح البخاري (1)

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
مجالس شرح كتاب الطب من صحيح البخاري (1)
 
المجلس الأول من شرح كتاب الطب؛ للإمام البخاري رحمه الله تعالى:
• قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى قُبيل (5678): (كِتَابُ الطِّبِّ).
أي هذا بيان مشروعية الطب والتداوي، بخلاف ما يزعمه بعض الجهَّالمن الناس بأنَّ التداوي ينافي الرضا عن الله، فتراهم يتركون التداوي؛ مُتَّكلين على التَّوكل بزعمهم، ولا شكَّ أنَّهم غير موفقين في فهمهم هذا، بل هم مخالفون للهدي والشرع والفطرة والعقل السليم، والله المستعان.
 
وقوله: (كتاب الطب): أي هذا كتابٌ فيه ما صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأمور الطبية، سواء كان علاجًا أو حمية أو نحو ذلك.
 
فأصل الكتاب هو خاص بما روي مرفوعًا عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع من أنَّ البخاري يورد فيه غير المرفوع، إذ الحكم يكون للأعم الأغلب.
 
والمرفوع: هو ما يضاف للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ولا يطلق على غيره، وسمِّي بذلك؛ لرفعته وعلو شأنه.
 
والموقوف والمقطوع - وهو غير المنقطع - هو ما جاء عن غيره، وقد استقر الاصطلاح على تسمية الموقوف: ما يضاف للصحابي، والمقطوع على من دونه، والأمر في ذلك واسع، ولا مشاحة في الاصطلاح هنا، إلا أنَّ من الجيد أن يعرف طالب العلم كل ذلك؛ حتى لا يحاكم العلماء المتقدمين على اصطلاح المتأخرين.
 
والبخاري رحمه الله قسم كتابه الجامع على كتب، كل كتاب فيه يعنى بعلم من العلوم الشَّرعية، وسمي كتابه بالجامع؛ لأنَّه جمع جميع أنواع العلوم الشرعية فيه، من صلاة وزكاة وحج وعقائد وتفسير وطب وهلم جرًا.
 
وقوله رحمه الله: (كتاب الطب): الطِّبُّ مِنْ تَطَبَّبَ الطبيب، والطبُّ: العالم بالأمور، يقال: هو به طبٌّ: أي عالمٌ[1].
والطُّبُّ: بِضمِّ الطَّاء وفتحها لغتان في الطِّبِّ[2].
 
وأصل الطب: الحذق بالأشياء والمهارة بها، يقال: رجل طب وطبيب: إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المرض[3].
 
والطبيب: هو العالم الحاذق بأمور التداوي الماهر العارف بها، وجمع القلة أطِبَّةٌ، والكثير أطِبَّاء[4].
والمتطبب: الذي يتعاطى علم الطب.
 
ولا بدَّ لنا أنْ نقدِّم بمقدمة عن المرض وأقسامه قبل أن ندخل في شرح الأحاديث، فنقول مستعينين بالله ثمَّ معتمدين على بضاعة من سبقنا:
 
يقسم المرض على نوعين، وهما مذكوران في القرآن الكريم:
الأول: مرض القلب، وهو على قسمين:
أ‌.
مرض شبهة وشك: قال الله تبارك وتعالى عن مرض الشبهة: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10].
وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ﴾ [المدثر: 31].
وقال فيمن دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض: ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [النور: 48 - 50]، فهذا مرض الشبهات والشكوك.


ب.
مرض شهوة وغي: قال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32]، فهذا مرض شهوة وزنا والله أعلم[5].


الثاني: مرض الأبدان: قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 61] [الفتح: 17]، فهذه الآية فيها ذكر مرض البدن.


فائدة: قال العلَّامة ابن القيم (751هـ): (وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء؛ لسرٍّ بديع يبين لك عظمة القرآن، والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه، وذلك أنَّ قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصِّحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة: فقال في آية الصَّوم: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فأباح الفطر للمريض؛ لعذر المرض، وللمسافر؛ طلبًا لحفظ صحته وقوته؛ لئلا يذهبها الصوم في السفر؛ لاجتماع شدَّة الحركة، وما يوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة، وتضعف، فأباح للمسافر الفطر؛ حفظًا لصحته وقوته عما يضعفها.
 
وقال في آية الحجِّ: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196] فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام؛ استفراغًا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.
 
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا تبيغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه.
 
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى.
 
وأما الحمية: فقال تعالى في آية الوضوء: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج، فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده)
[6].
 
إذًا لا بدَّ أن تعرف هذه المسألة، أنَّ الطب يدور على هذه القواعد الثلاث:
الأولى: حفظ الصحية.
الثانية: الحمية عن المؤذي.
الثالثة: استفراغ المواد الفاسدة.
 
فمتى ما أمكن دفع الداء بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء، وكذا في الحمية وسيأتي تذييلًا عن ذلك في ثنايا الشرح إن شاء الله، وقد فصل ذلك العلامة ابن القيم فأجاد وأفاد.
 
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:
بَابُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً

(5678) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً)).
 


• بيان ترجمة البخاري على الحديث:ترجمة الإمام البخاري هي نصٌ للحديث بتمامه؛ لم يحذف منه شيئًا، ولم يضف إليه حرفًا، وهذا الصنيع ضرب من أضرب تراجمه، فقد يبوب بتمام الحديث كما هنا، وقد يبوب بحديث لم يخرجه أصلًا في صحيحه؛ لصنعة حديثية، وقد يستنبط من الحديث ترجمةً جعلت الأئمة تشهد له بعبقريته في الاستنباط والفقه، فتراجم الإمام البخاري بين الخفية والظاهرة.


 
وقد أحسن الإمام البخاري بتقديمه لهذا الحديث في أول كتاب الطب، ومن فوائد تقديمه لذلك:
• من باب زفِّ البُشرى وإحياء الأمل في قلب كلِّ مريض، بأنَّ داءك مهما عظم فإنَّ الله قد أنزل له شفاء، فابحث عنه، ولا يقعدك اليأس عن طلبه.
 
• ليعلِّق المريض بالله، بأنَّ الله هو الذي أنزل الدَّاء والدَّواء، فجدير بمن عرف ذلك أنْ يعلق قلبه بالله متوكلًا عليه جل جلاله، وأن يسعى في ضوء هذا اليقين باحثًا عن السبب الذي أنزله الله.
 
• أنَّ طلب الشِّفاء أمرٌ مشروع، لأنَّ الله هو خالق الداء والدواء، وكما قال الأخيار: نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله جلَّ وعلا، فينغي للمؤمن أن يأخذ بالأسباب، متوكلًا على رب الأرباب، فهو سبحانه المشافي حقيقة، ولا شفاء إلا شفاؤه.
 
• ليجتهد الطبيب في البحث عن الدَّواء للمريض، وأن لا يقعده اليأس أو الإحباط عن البحث.
 
• دعوى منه إلى التفكُّر وإمعان النظر والمراجعة وإعمال التَّجارب للأمراض المعقَّدة، فإن علم الطبيب أنَّ ما من داء إلا وأنزل الله له دواء اجتهد في عمله حتى يتوصل إلى الدواء الناجع الشافي بإذن الله جل وعلا.
 
• ليبعث في المريض روح الأمل بالشفاء؛ فإنَّ الروح إن قويت تعاونت مع الجسد في طرد الداء من الجسد، وهذا الأمر مهم جدًا في الشفاء.
 
• ليعلم الطبيب حينما يعجز عن توفير الدواء الناجع عجزه أمام قدرة الله العلي الأعلى، وأنه ما أوتي من العلم إلا قليلًا، ومن عرف عجزه عرف عظيم قدرة ربِّه، فعجز المخلوق يدل على كمال الخالق، وعجز المخلوق يدل على عظيم قدرة الله جل وعلا.
 


التعريف برجال الإسناد:



• محمد بن المثنى: وهو أبو موسى البصري (252هـ)، من كبار الأئمة، حتى أنَّ بعضهم قدَّمه على محمد بن بشار بُندار، كان يُلقب بــ(الزمن).


• أبو أحمد الزبيري: وهو محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي (203هـ)، ثقة إلا أنَّ روايته عن الثوري متكلمٌ فيها، وهو ما يعرف بالكلام النِّسبي، وأفضل من رأيته يفصل في ذلك في هذا الزمان العلَّامة المحدِّث عبد الله السعد وفقه الله.

 

فائدة: قال الحافظ في الفتح10/ 134: (نسب لجده؛ وهو أسد من بني أسد بن خزيمة، فقد يلتبس بمن ينسب إلى الزبير بن العوام؛ لكونهم من بني أسد بن عبد العزى، وهذا من فنون علم الحديث، وصنفوا فيه الأنساب المتفقة في اللفظ، المفترقة في الشخص).
فتأمل يا رعاك الله بعين الإنصاف الجهد الذين بذله أهل الحديث في ضبط الأنساب والأسماء والمتون والأسانيد، فمن طالع في صنيعهم وعنايتهم لصنعتهم بعين بصيرته سلم لهم واستسلم ولكن كيف نصف الألوان للأعمى؟!


• عمر بن سعيد بن أبي حسين: وهو القرشي المكي توفي بعد (151هـ)، أحد الثقات.

 

• عطاء بن أبي رباح: وهو أبو محمد المكي، الإمام الكبير الحجة، وقد تكلَّم النقاد في مرسلاته؛ لأنَّه كان يأخذ عن كل ضرب، توفي (144هـ) عن عمر ناهز المائة.


• أبو هريرة: وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة رواية للحديث، كان يلازم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه، توفي بعد (57هـ)، رضي الله عنه وجزاه عنَّا كلَّ خير.




• اللطائف الإسنادية والصَّنعة الحديثية: فيه التصريح بالتحديث بين أربعة من رواته، وصيغ التحديث الواردة: (حدَّثنا، وحدَّثني)، وكان الإمام البخاري يحرص حرصًا شديدًا على إظهار التَّحديث بالسماع حتى مع الرواة غير المدلسين، حتى تجنَّب في صحيحه ما قد صححه الأئمة لا لانقطاع فيه، وإنَّما لعدم ثبوت التصريح بالسَّماع، ولا يخفى أنَّ ثمة فرق بين الأمرين، أعني النص على وجود الانقطاع، وبين نفي ثبوت السماع، فالأخير يحتمل ممَّن عاصر مع إمكانية اللقاء ولم يعرف بالتدليس.

 


وفيه صيغة العنعنة بين عطاء وأبي هريرة رضي الله عنه، وهي (عن)، وهي محمولة على السَّماع؛ فهي هنا كقوله: (حدَّثنا)؛ لأنَّ لقاء عطاء بأبي هريرة وسماعه منه ثابتٌ، وعطاء غير مُدلِّس، فكانت عنعنته والتصريح بالتَّحديث كالأمر الواحد.
 
وقد دار الحديث بين البصرة والكوفة ومكة والمدينة، ومن هنا نعلم عظيم الجهد الذي بذهله هؤلاء الأئمة خلفًا عن سلفٍ حتى أوصلوا لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نسمعه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مباشرة، ثمَّ يأتي بعض من لا خلاق له في العلم فيشكك بالسنة أو يقلل من قدرها أو قدر أهلها، لذلك نص بعض السلف: أن من وجدتموه يطعن في أهل الحديث فاتهموه.
فيا رب احشرنا في زمرة أهل الحديث.
 


• أطراف الحديث في الجامع الصحيح: لم يُخرِّجه الإمام البخاري إلا في هذا الموطن، والله أعلم.

 


• ذكر من رواه من أصحاب الكتب التسعة: أخرجه ابن ماجه (3439)، من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعيد الجوهري جميعًا عن أبي أحمد به.



• بيان الكلمات الغريبة الواردة في الحديث: قوله: صلى الله عليه وسلم: (داء): أي مرض، وقوله: (شفاء): الشفاء أعم من الدواء، فالدواء إذا نجع سُمِّي شفاء، فالشفاء اسم للبرء، لذلك قال الله عن العسل: ﴿ فِيهِ شِفَاءٌ للناسِ ﴾، أي: أنَّ العسل ليس مجرد دواء، بل هو شفاءٌ، لأنَّ الدواء قد ينفع وقد لا ينفع، وقد ينفع وفي الوقت نفسه قد يضر، وقد لا ينفع مع إلحاقه ضررًا.



إذًا الشفاء اسم للبرء، بمعنى أنَّ الله أنزل الداء وأنزل الدواء الناجع له، علمه من علمه وجهله من جهله.
 
لما جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكو إليه بطن أخيه قال له صلى الله عليه وسلم: ((اسقه عسلًا))، فلما كرر مجيئه وشكواه قال له: ((اسقه عسلًا، صدق الله وكذب بطن أخيك))؛ وذلك لأنَّ الله قال في العسل: ﴿ فيه شفاءٌ للناس ﴾.
وسيأتي معنا الحديث مع شرحه إن شاء الله تعالى.
 
وكذا سمى الله كتابه بالشفاء ولم يسمه دواء؛ لما تقدم ذكره، فالدواء إن لم يصب الداء لم ينجع، والدواء إن كثر عن مقدراه أضر، فسمى الله كتابه شفاء؛ لأنَّه ينفع ولا يضر، وكل ما أخذ منه كان تأثيرها أعظم، وسيأتي معنا كيف أنَّ الله جعله شفاء للديغ وبالله التوفيق.




• معنى العام للحديث: ينصُّ الحديث على أنَّ جميع الأدواء قد أنزل الله لها دواء ناجعًا لها، وأنَّ الله هو خالق الداء والدواء، وقد اختلف العلماء في الحديث، هل الحديث على عمومه أم أنَّه مخصوص بالأدواء غير القاتلة، والصحيح أنَّه على عمومه إلا داء واحدًا، وهو (الهرم) وهو الكِبَر، وفي رواية: (الموت): أي أنَّ من كتب الله عليه الموت فإنَّه ميت لا محالة، ومما ويؤكد أنَّ الحديث على عمومه في الشفاء من الأدواء جميعها سوى ما تقدم ذكره ما أخرجه مسلم (2204) من حديث جَابِرٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))، وجاء أيضًا: ((إِنَّ الله لم ينزل داء إلّا أنزل شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ)).



قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الزاد 4/ 12: (علق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصراً، ومتى لم يقع المداوي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثم مانع يمنع من تأثيره، لم يحصل البرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين في الحديث).
 


• أهم ما يستفاد من الحديث:


• إثبات المسببات والأسباب، وإبطال قول من ينكرها.

• أنَّ الله هو خالق الداء والدواء، وهذا يدل على مشروعية الطب والتداوي.

• أنَّ التداوي لا ينافي التوكل على الله.

• أنَّ جميع الأمراض قد أنزل الله لها شفاء، فينبغي على المختصين في الطب أن يجتهدوا في البحث والتحصيل، حتى يفتح الله على أيديهم.

• ينبغي للمريض أن يعلق قلبه بالله تعالى، فأمره بين يدي ربه.

• فيه الحث على البحث التطبب والتداوي.

يقول العلامة ابن القيم4/ 15: (وفي قوله صلى الله عليه وسلم ((لكل داء دواء))، تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإنَّ المريض إذا استشعرت نفسه أنَّ لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء، وبردت عنده حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، متى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح، قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه).
 
وقال الحافظ الذهبي في كتابه الطب: ((أن الله لم ينزل داء إلا وله دواء))، وذلك يقتضي حث العزائم، وتحريك الهمم على تعلم الطب، وذلك أنَّه إذا علم إمكان شفاء كل داء وأنَّ له دواء رغب الإنسان في العلم به، فإنَّ حفظ الصحة أشرف المطالب كما تقدم، فإن بها يحصل تمام أمر الدين والدنيا.



[1] العين 7/ 407.


[2] مختار الصحاح: 88.


[3] تهذيب اللغة 13/ 208.


[4] الصحاح 1/ 170.


[5] ينظر: زاد المعاد؛ لابن القيم 4/ 5.


[6] زاد المعاد 4/ 7.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير