ضيقوا الخناق على فكرة الانتحار!
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
ضيقوا الخناق على فكرة الانتحار!من أبشع الأفكار السلبية التي تراود الإنسان المُثْقَل بالهموم فكرةُ الانتحار، والتخلص من ذاك الواقع التعيس الأليم الذي لم يستطع التكيف معه، أو التخلص منه بوسائل أخرى غير إزهاق نفسه.
ولهذه الفكرة أبعاد كثيرة فضلًا عن بُعْدِها الديني الذي يؤصل في النفس قيمة النفس البشرية، ويُعلي من قدرها، وأنها ليست سلعة قابلة للتداول أو شيئًا مُهمَلًا قابلًا للتنكيل والبطش وتقييد الحرية، ونصَّت الشريعة على أنه: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]، ونصت أيضًا على أن ((آذى مسلمًا بغير حق، فكأنما هدم بيت الله))، وأن ((قتل مؤمن بغير حق أعظم عند الله من زوال الدنيا)).
وإني لأعجب للمنتحر كيف هانت عليه نفسه كل هذا الهوان، حتى يقتل نفسه، ويتخلص من حياته، ونفسه عزيزة عليه، غالية لا يفرط في المساس بها، ولا يسمح لأحد أن يخدش كرامته، أو ينال من جسده بسوء، فكيف تأتَّتْ له هذه الفكرة الجهنمية ليفعل ما فعل، وأي شيطان إنسي هذا الذي قاده بحبل معقود الرَّسَنِ، فذهب به كلَّ مذهب؟
النفس غالية، والجسد غالٍ، ولا شيء ذا بال يستحق التقديم عليها إلا أن يكون جهادًا لإعلاء كلمة التوحيد، أو محبة لله ورسوله؛ كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر)).
وفي واقع الناس، والطيبين منهم، ومن لا يستطيعون ضربًا في الأرض، ومن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ومن يحسبهم الساذج مبسوطي المزاج لا عِلَلَ نفسية لديهم، ولا مؤرقات تسود عليهم بياض يومهم العفيف، في هذا الواقع، إن لم يملأ الإيمان قلوب الناس، وتعمرها التقوى والتسليم لقضاء الله وقدره، والمؤانسة بذكر الله ومجالسة الصالحين، والفضفضة والبوح بما تكنُّه النفس من مشاعر، وما تعانيه من آلام ومتاعب، إن لم توجد تلك السبل، فإن حبال الشياطين - إنسِهم وجنِّهم - جاهزة لتلتفَّ حول أعناق المساكين.
وفضلًا عن الإيمانيات والروحانيات التي تملأ المشهد، لكن أصبح تأثيرها ضعيفًا؛ لبُعْدِ القلب وعدم حضوره وتركيزه، فإن البوح لإنسان غالٍ، وأُذُنٍ لديها الاستعداد للإنصات، وقلب لديه الشفقة والمحبة، وعقل رزين لديه الحلول لِما يغالب ذلك المسكين من أفكار ووساوس، يصبح هذا البوح سبيلًا جميلًا لصرف النفوس الطيبة عن الأفكار الخبيثة، وتحويل أنظارها إلى كل جميل في ملكوت الله تعالى، وأن الحياة بحقٍّ جديرة بعيش هنيء، وأن السبيل الجميل ستكون آخرته أجمل وأنعم في جنات النعيم، مع الصالحين والشهداء والنبيين، مع الحور العين القابعات في خيامهن، والأنيس الصالح الذي لا حسدَ عنده ولا نية خبيثة لديه، في جوٍّ يسوده السلام والوئام، والمحبة والحبور، وأشجار الفاكهة الباسقة منها والدانية، والأنهار الجارية بالماء اللذيذ، والعسل المصفى، والخمر الحلال، والقصور والطيور، وما تشتهيه الأنفس وتلذ به، وكل ما لم يخطر بقلب بشر، وفوق هذا وذاك، الوقوف على الحوض، وشربة ماء هنيئة من يد الرسول، وفوق هذا وذلك، النظر عاليًا، فينكشف وجه الله لك، وأي وجه تُراك ترى؟ وأي جمال وبهاء وجلال تنظر؟ وجهٌ اندكَّت له الجبال، يتراءى لك أيها العبد الصابر على لَأْوَاء الدنيا، الظافر بنعيم الآخرة، يا حسرة من يبعده الله عنه وجهه!
دعونا نفضفض أيها الناس!
دعكم من ألواح معدنية بأيديكم على قدر من بها من جميل، فإن مساوئها لا تُعَد ولا تُحصى، أفسحوا المجال لدردشة حقيقة تفاعلية؛ وجهًا لوجه، نفسًا لنفس، مشاعر لمشاعر، قسمات لقسمات، ابتسامات لابتسامات، قربًا لقرب، وما أدفأ قرب المحبين المخلصين!
اتخذوا لكم خليلًا رغم كثرة المشاغل والمشاكل، بُثُّوا همومكم ونجواكم لهم، لا تبخلوا على أنفسكم بتبادل بوادر المحبة والألفة بين الناس، فالإنسان وحده ضعيف، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
كفاكم بُعْدُكم بأجسادكم وأرواحكم وأفكاركم عمن تحبون، أقبلوا على قرآن الحياة بتدبر وتمعُّن، وفي الحياة كتب آخر، ومسليات كثر، وأحاديث خير تنتشر، هي أولى وأجدر بالمتابعة، وأحسن أجرًا وأثمن أثرًا.