شرح سنن أبي داود [480]


الحلقة مفرغة

شرح الأحاديث الواردة في تعظيم قتل المؤمن

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في تعظيم قتل المؤمن.

حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا محمد بن شعيب عن خالد بن دهقان قال: كنا في غزوة القسطنطينية بذلقية، فأقبل رجل من أهل فلسطين، من أشرافهم وخيارهم يعرفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كلثوم بن شريك الكناني ، فسلم على عبد الله بن أبي زكريا وكان يعرف له حقه، قال لنا خالد : فحدثنا عبد الله بن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)، فقال هانئ بن كلثوم : سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، قال لنا خالد : ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح).

وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله سواء ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب في تعظيم قتل المؤمن ].

أي: أن قتل المؤمن عظيم وخطير، وأنه ليس بالأمر الهين، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على خطورته، وجاء في السنة المطهرة ما يدل على أنه خطير، وأنه أمر عظيم، وأنه من أكبر الذنوب وأعظمها.

أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قال خالد بن دهقان : كنا في غزوة القسطنطينية بذلقية، فأقبل رجل من أهل فلسطين من أشرافهم وخيارهم يعرفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كلثوم بن شريك الكناني فسلم على عبد الله بن أبي زكريا وكان يعرف له حقه، قال لنا خالد : فحدثنا عبد الله بن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً) ].

قوله: [(أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)]، هذا هو محل الشاهد منه، وأنه عطف على الشرك بالله عز وجل، ولكنه جاء في القرآن الكريم أن الشيء الذي لا يغفر هو الشرك وحده، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فيدخل في ذلك قتل النفس وغير ذلك، والذنب الذي لا يغفر، والذي صاحبه خالد مخلد في النار لا يخرج منها بحال من الأحوال بل يبقى فيها أبد الآباد هو: الشرك، وأما الكبائر والذنوب الأخرى ومنها قتل النفس العمد فإن ذلك يكون تحت مشيئة الله عز وجل؛ إن شاء عذب وإن شاء عفا وتجاوز، وإذا عذب فإن ذلك المعذب -بسبب ذلك الذنب الكبير الذي هو دون الشرك- لا يخلد في النار، بل لابد وأن يخرج منها، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها.

وإذا كان الإنسان استحل القتل فإن الذنوب إذا استحلت كان استحلالها كفراً، لكن مع عدم الاستحلال هو تحت المشيئة، إن شاء عذب وإن شاء تجاوز.

قوله: [ فقال هانئ بن كلثوم : سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) ].

أورد حديث عبادة بن الصامت : (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، هذا تهديد ووعيد شديد، وهو كغيره من أحاديث الوعيد التي فيها مثل هذا التهديد، إذا شاء الله ألا يتجاوز عن صاحبه فإنه يعذبه، ولكنه لا يخلد في النار.

قوله: [(اعتبط)] أي: قتله ظلماً من غير قصاص، وفي بعض النسخ: (اغتبط) أي: فرح وسُرَّ، ولم يكن متأثراً ولا متألماً، بل هو واقع في المعصية وفرح بها، وليس نادماً عليها.

قوله: [ (صرفاً) ]، قيل: إن المقصود به النوافل.

قوله: [ (وعدلاً) ]، قيل: المقصود به الفرائض.

[ قال لنا خالد : ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح) ].

أورد حديث أبي الدرداء : (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلّح)، يعني: يريد خفيف الظهر يعنق في مشيه فيسير سير المخف.

قوله: [ (معنقاً صالحاً) ]، هذا تمثيل وتشبيه بالذي يكون خالياً من الظهر ويسير سيراً خفيفاً، والعنق: نوع من السير وهو أخف من النص -كما جاء في حديث الحج وانصرافهم من عرفة إلى مزدلفة، (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) أي: أنه كان يسير سيراً خفيفاً، فإذا وجد فجوة أسرع، وزاد في الإسراع.

قوله: [ (فإذا أصاب دماً حراماً بلح)] ، أي: أعيا وانقطع وهو ضد العنق والسير؛ لأنه كان يسير سيراً خفيفاً ليس فيه سرعة شديدة، ولكنه إذا أصاب دماً حراماً بلح، يعني: أعيا وصار بخلاف الحالة الأولى، وذلك بسبب هذا الذنب، فهو مثل الإنسان الذي يسير وسيره فيه نشاط وقوة، ولكنه إذا حصل هذا الذنب فإنه يتحول إلى العي والتعب ولم يستطع السير.

قوله: [ وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله سواء ].

تراجم رجال أسانيد الأحاديث الواردة في تعظيم قتل المؤمن

قوله: [ حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني ].

مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا محمد بن شعيب ].

محمد بن شعيب صدوق، أخرج له أصحاب السنن.

[ عن خالد بن دهقان ].

خالد بن دهقان مقبول، أخرج له أبو داود .

[ عبد الله بن أبي زكريا ].

عبد الله بن أبي زكريا ثقة، أخرج له أبو داود .

[ عن أم الدرداء ].

أم الدرداء هي هجيمة وهي أم الدرداء الصغرى ، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الدرداء ].

أبو الدرداء هو عويمر بن زيد وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قال: [ هانئ بن كلثوم ].

هانئ بن كلثوم ثقة، أخرج له أبو داود .

[ سمعت محمود بن الربيع ].

محمود بن الربيع صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأكثر روايته عن الصحابة، وهو صاحب المجة الذي قال: (عقلت مجة مجها علي الرسول صلى الله عليه وسلم من دلو).

[ عن عبادة بن الصامت ].

عبادة بن الصامت رضي الله عنه الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

والحديث صحيح، وله متابعات.

شرح أثر يحيى الغساني في تفسير قوله (اعتبط بقتله)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن بن عمرو عن محمد بن المبارك قال: حدثنا صدقة بن خالد أو غيره قال: قال: خالد بن دهقان : سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: (اعتبط بقتله) قال: الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله، يعني: من ذلك.

قال أبو داود وقال: فاعتبط يصب دمه صباً ].

أورد أبو داود هذه الآثار عن خالد قال: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: (اعتبط بقتله) قال: الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله.

فسره يحيى بن يحيى الغساني بأنه الذي يقاتل في الفتنة فيرى أنه على حق في قتاله، فلا يستغفر الله؛ لأنه لا يعتقد أنه مذنب، بل يعتقد أنه على حق، وذلك مثل أهل البدع مع أهل المعاصي، فأهل المعاصي أمرهم أسهل من أهل البدع؛ لأن صاحب المعصية يعتقد أنه مذنب، ويعترف بأنه مذنب، فيكون على خوف من الله عز وجل، وأما ذاك فهو يرى أنه على حق، وهو على ضلالة، فلا يستغفر ولا يتوب، ويعتقد أن غيره هو المبطل وهو المحق؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يتوب من بدعته)؛ وذلك أن صاحب البدعة لا يتوب؛ لأنه يرى أنه على حق، ولا يعتقد أنه مذنب كصاحب المعصية الذي يزني ويعلم أن الزنا حرام، أو يسرق ويعلم أن السرقة حرام، فتجده خائفاً، وأما هذا فتجده مرتاحاً مطمئناً، وقد زين له سوء عمله فرآه حسناً والعياذ بالله!

قوله: [ يصب دمه صباً ].

هذا فيه مبالغة في القتل.

إذاً: كون الإنسان يقاتل وهو يعتقد أنه على حق، ولا يرى أنه مخطئ أو أنه مذنب فيستغفر الله، ليس كصاحب المعصية الذي يعرف أنه مذنب قد عصى، ويكون خائفاً نادماً مستغفراً، وهذا حاله مثل الخوارج الذين كانوا يقاتلون الصحابة، فقد كانوا يرون أنهم على حق ولا يعتقدون أنهم مذنبون.

والقسطنطينية حصل غزوها في زمن الصحابة، وكان فيها يزيد بن معاوية .

تراجم رجال إسناد أثر يحيى الغساني في تفسير قوله (اعتبط بقتله)

قوله: [ حدثنا عبد الرحمن بن عمرو ].

عبد الرحمن بن عمرو ثقة، أخرج له أبو داود .

[ عن محمد بن المبارك ].

محمد بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا صدقة بن خالد ].

صدقة بن خالد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ أو غيره ].

هذا شك في صدقة هل هو الراوي أو غيره، ومثل هذا لا يؤثر لأنه ليس حديثاً، وإنما كلام يحيى الغساني في تفسير الحديث.

[ قال خالد بن دهقان ].

خالد بن دهقان مر ذكره.

[ يحيى بن يحيى الغساني ].

يحيى بن يحيى الغساني ثقة، أخرج له أبو داود ، وهو صاحب هذا الأثر، وهذا الإسناد منتهاه إليه، فهو الذي قال هذا الكلام.

شرح أثر زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا حماد أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن مجالد بن عوف أن خارجة بن زيد قال: سمعت زيد بن ثابت في هذا المكان يقول: أنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93] بعد التي في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ [الفرقان:68]، بستة أشهر. ].

أورد أبو داود أثر زيد بن ثابت أن هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93]، في سورة النساء نزلت بعد التي في الفرقان وهي: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ ولا يزنون [الفرقان:68]، وهذا قال عنه الشيخ الألباني : إنه منكر، ولعل وجه النكارة فيه من جهة أن نزول سورة الفرقان كان بمكة، ونزول سورة النساء كان بالمدينة، والفترة التي بين نزول هذه ونزول هذه لا تكون ستة أشهر.

تراجم رجال إسناد أثر زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً ...)

قوله: [ حدثنا مسلم بن إبراهيم ].

هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا حماد ].

هو حماد بن سلمة ، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ].

عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي الزناد ].

أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن مجالد بن عوف ].

مجالد بن عوف صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ أن خارجة بن زيد قال ].

هو خارجة بن زيد بن ثابت ، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ سمعت زيد بن ثابت ].

زيد بن ثابت صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

إجماع السلف على أن للقاتل توبة

وإذا قيل: إن آية النساء متأخرة عنها تكون كالناسخة للتي في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ ولا يزنون [الفرقان:68]، لكن كما هو معلوم أن السلف أجمعوا على أن الذي في سورة النساء للتغليظ، وأن القاتل له توبة، وأن الله تعالى يتوب على كل من تاب، وأن أمره إن لم يتب تحت مشيئة الله، والذنب الذي لا سبيل إلى مغفرته هو الشرك بالله وحده، وجاء عن ابن عباس غير ذلك، ولكن جاء عنه أنه رجع عن قوله إلى قول جمهور السلف، وبذلك صارت المسألة اتفاقية، وهو أنه تحت المشيئة، وأن له توبة، ومن أوضح ذلك قصة الإسرائيلي -كما في الصحيحين- الذي قتل مائة نفس، ثم بعد ذلك لقي عالماً وقال له: هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟!

شرح أثر ابن عباس في أن القاتل المسلم لا توبة له

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن منصور عن سعيد بن جبير أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس فقال: لما نزلت التي في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ [الفرقان:68]، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وأتينا الفواحش، فأنزل الله: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70] فهذه لأولئك، قال: وأما التي في النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93] الآية، قال: الرجل إذا عرف شرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم، لا توبة له، فذكرت هذا لـمجاهد فقال: إلا من ندم ].

أورد المصنف هذا الأثر عن سعيد بن جبير قال: (سألت ابن عباس فقال: لما نزلت التي في الفرقان، قال: هذه في المشركين)، يعني: أن لهم توبة، وأنهم إذا تابوا فإن الله تعالى يتوب عليهم، قال: وأما التي في النساء، فإنها في الذي عرف شرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له. وهذا الذي قاله ابن عباس أولاً، ثم رجع عنه وصار إلى القول الذي عليه جمهور السلف، وبذلك صارت المسألة متفقاً عليها، ولا خلاف فيها، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب يتوب الله تعالى على من تاب منه، كما قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وكذلك المسلم إذا تاب من ذنبه فإن له توبة، وقصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس تبين ذلك، ثم قال له العالم: من يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى أن ينتقل من البلد الذي هو فيه إلى بلد آخر فيه أناس صالحون يكون معهم، ثم مات في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والحديث مشهور ومعروف، وهو في الصحيحين.

قوله: [ فذكرت هذا لـمجاهد فقال: إلا من ندم ].

معناه: أن له توبة.

تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في أن القاتل المسلم لا توبة له

قوله: [ حدثنا يوسف بن موسى ].

يوسف بن موسى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة .

[ حدثنا جرير ].

هو جرير بن عبد الحميد الضبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن منصور ].

هو منصور بن المعتمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سعيد بن جبير ].

سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير ].

الحكم هو الحكم بن عتيبة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ سألت ابن عباس ].

ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح أثر ابن عباس في أن قوله (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر) هم أهل الشرك

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثني يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه القصة في: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68] أهل الشرك، قال: ونزل: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ].

أورد أبو داود أثر ابن عباس من طريق أخرى، وقال: إن الآية التي في الفرقان في أهل الشرك، ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، ومعلوم أن الله عز وجل يغفر الذنوب جميعاً، وكل ذنب تيب منه فإنه يغفر لصاحبه، والذي لم يتب منه إن كان شركاً فإنه لا يغفر، وإن كان دون الشرك فهو تحت المشيئة.

تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في أن قوله (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر) هم أهل الشرك

قوله: [ حدثنا أحمد بن إبراهيم ].

أحمد بن إبراهيم هو الدورقي ، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ حدثنا حجاج ].

هو حجاج بن محمد المصيصي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن جريج ].

ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثني يعلى ].

يعلى يحتمل أن يكون ابن مسلم أو ابن حكيم ، ولكن يرجع كونه ابن مسلم أنه مكي، وابن جريج مكي، ويعلى بن مسلم ثقة، وذاك صدوق؛ وعبد الملك بن جريج يروي عن الاثنين، وسعيد بن جبير روى عنه الاثنان، هو يحتمل هذا وهذا.

لكن في تحفة الأشراف نص على ابن مسلم ويوضحه كونه مكياً و

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في تعظيم قتل المؤمن.

حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا محمد بن شعيب عن خالد بن دهقان قال: كنا في غزوة القسطنطينية بذلقية، فأقبل رجل من أهل فلسطين، من أشرافهم وخيارهم يعرفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كلثوم بن شريك الكناني ، فسلم على عبد الله بن أبي زكريا وكان يعرف له حقه، قال لنا خالد : فحدثنا عبد الله بن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)، فقال هانئ بن كلثوم : سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، قال لنا خالد : ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح).

وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله سواء ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب في تعظيم قتل المؤمن ].

أي: أن قتل المؤمن عظيم وخطير، وأنه ليس بالأمر الهين، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على خطورته، وجاء في السنة المطهرة ما يدل على أنه خطير، وأنه أمر عظيم، وأنه من أكبر الذنوب وأعظمها.

أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قال خالد بن دهقان : كنا في غزوة القسطنطينية بذلقية، فأقبل رجل من أهل فلسطين من أشرافهم وخيارهم يعرفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كلثوم بن شريك الكناني فسلم على عبد الله بن أبي زكريا وكان يعرف له حقه، قال لنا خالد : فحدثنا عبد الله بن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً) ].

قوله: [(أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)]، هذا هو محل الشاهد منه، وأنه عطف على الشرك بالله عز وجل، ولكنه جاء في القرآن الكريم أن الشيء الذي لا يغفر هو الشرك وحده، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فيدخل في ذلك قتل النفس وغير ذلك، والذنب الذي لا يغفر، والذي صاحبه خالد مخلد في النار لا يخرج منها بحال من الأحوال بل يبقى فيها أبد الآباد هو: الشرك، وأما الكبائر والذنوب الأخرى ومنها قتل النفس العمد فإن ذلك يكون تحت مشيئة الله عز وجل؛ إن شاء عذب وإن شاء عفا وتجاوز، وإذا عذب فإن ذلك المعذب -بسبب ذلك الذنب الكبير الذي هو دون الشرك- لا يخلد في النار، بل لابد وأن يخرج منها، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها.

وإذا كان الإنسان استحل القتل فإن الذنوب إذا استحلت كان استحلالها كفراً، لكن مع عدم الاستحلال هو تحت المشيئة، إن شاء عذب وإن شاء تجاوز.

قوله: [ فقال هانئ بن كلثوم : سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) ].

أورد حديث عبادة بن الصامت : (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، هذا تهديد ووعيد شديد، وهو كغيره من أحاديث الوعيد التي فيها مثل هذا التهديد، إذا شاء الله ألا يتجاوز عن صاحبه فإنه يعذبه، ولكنه لا يخلد في النار.

قوله: [(اعتبط)] أي: قتله ظلماً من غير قصاص، وفي بعض النسخ: (اغتبط) أي: فرح وسُرَّ، ولم يكن متأثراً ولا متألماً، بل هو واقع في المعصية وفرح بها، وليس نادماً عليها.

قوله: [ (صرفاً) ]، قيل: إن المقصود به النوافل.

قوله: [ (وعدلاً) ]، قيل: المقصود به الفرائض.

[ قال لنا خالد : ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح) ].

أورد حديث أبي الدرداء : (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلّح)، يعني: يريد خفيف الظهر يعنق في مشيه فيسير سير المخف.

قوله: [ (معنقاً صالحاً) ]، هذا تمثيل وتشبيه بالذي يكون خالياً من الظهر ويسير سيراً خفيفاً، والعنق: نوع من السير وهو أخف من النص -كما جاء في حديث الحج وانصرافهم من عرفة إلى مزدلفة، (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) أي: أنه كان يسير سيراً خفيفاً، فإذا وجد فجوة أسرع، وزاد في الإسراع.

قوله: [ (فإذا أصاب دماً حراماً بلح)] ، أي: أعيا وانقطع وهو ضد العنق والسير؛ لأنه كان يسير سيراً خفيفاً ليس فيه سرعة شديدة، ولكنه إذا أصاب دماً حراماً بلح، يعني: أعيا وصار بخلاف الحالة الأولى، وذلك بسبب هذا الذنب، فهو مثل الإنسان الذي يسير وسيره فيه نشاط وقوة، ولكنه إذا حصل هذا الذنب فإنه يتحول إلى العي والتعب ولم يستطع السير.

قوله: [ وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله سواء ].

قوله: [ حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني ].

مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا محمد بن شعيب ].

محمد بن شعيب صدوق، أخرج له أصحاب السنن.

[ عن خالد بن دهقان ].

خالد بن دهقان مقبول، أخرج له أبو داود .

[ عبد الله بن أبي زكريا ].

عبد الله بن أبي زكريا ثقة، أخرج له أبو داود .

[ عن أم الدرداء ].

أم الدرداء هي هجيمة وهي أم الدرداء الصغرى ، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الدرداء ].

أبو الدرداء هو عويمر بن زيد وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قال: [ هانئ بن كلثوم ].

هانئ بن كلثوم ثقة، أخرج له أبو داود .

[ سمعت محمود بن الربيع ].

محمود بن الربيع صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأكثر روايته عن الصحابة، وهو صاحب المجة الذي قال: (عقلت مجة مجها علي الرسول صلى الله عليه وسلم من دلو).

[ عن عبادة بن الصامت ].

عبادة بن الصامت رضي الله عنه الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

والحديث صحيح، وله متابعات.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2650 استماع