شرح سنن أبي داود [477]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً، قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى).

قال أبو داود : من قال: خراش فقد أخطأ ].

ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين؛ فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: بل مما مضى)، قيل في هذا الحديث: إن المراد بذلك: قوة الإسلام في هذه المدة، ثم بعد ذلك يحصل التغيير، وقيل: إن المقصود بدوران الرحى: الحروب التي تحصل وتقع، ولا شك أن مدة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله تعالى عنهم كانت خلافة راشدة، وكان الخير عظيماً والإسلام منتشرا،ً وقد حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وتولي علي رضي الله عنه شيء من الاقتتال والاختلاف حيث وجدت الفتن، وحصل اقتتال بين المسلمين، ثم بعد ذلك حصل اجتماع للمسلمين على يدي الحسن بن علي رضي الله عنهما بتنازله لـمعاوية وحصول اجتماع الكلمة على معاوية بعدما كانت الفرقة وكان الخلاف قبل ذلك، وتحقق ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله في الحسن رضي الله عنه، وقد حمله معه على المنبر وهو طفل صغير، وكان ينظر إليه وينظر إلى الناس، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد تحقق ذلك في عام واحد وأربعين من الهجرة، والذي سمي بعام الجماعة، حيث اجتمعت الكلمة وصار على الناس خليفة واحد، هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، وقد آتى الله الملك بعد مدة الخلفاء الراشدين معاوية بن أبي سفيان ، وهو خير وأول ملوك المسلمين؛ لأنه صحابي، والخلفاء الذين جاءوا بعده على مختلف العصور والدهور ليسوا من الصحابة، فهو أول الملوك وخير الملوك رضي الله عنه وأرضاه، وقد جاء إطلاق الخلافة على الخلفاء الراشدين وعلى ثمانية من بعدهم، وذلك في الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، فإن هؤلاء الخلفاء هم الخلفاء الراشدون، وثمانية من خلفاء بني أمية.

قوله: [ (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين) ]،قيل: إن المراد بذلك مدة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وهي ثلاثون سنة، ويضاف إليها خمس أو قريباً من ذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن المراد بذلك: ما حصل في سنة خمس وثلاثين من الهجرة من قتل عثمان رضي الله عنه، وما حصل بعد ذلك من الفتن، لكن كما هو معلوم أن استخدام التاريخ الهجري إنما حصل في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لكن إذا اعتبرت مدة الخلفاء الراشدين الأربعة التي هي ثلاثون سنة، وضم إليها خمس سنوات من بعدها فيكون معنى ذلك أن هذه المدة هي الخلافة الراشدة، وقد حصل فيها الخير الكثير، وإن وجد شيء من الاختلاف.

وعلى هذا يكون المقصود برحى الإسلام: قوته واستقامته وسلامته، وكونه على منهاج النبوة، وكون الخلافة خلافة نبوة، ويكون بدوران الرحى حصول الخير والنفع، كما أن الرحى إذا دارت على الحب وصار طحيناً ودقيقاً بسبب دوران الرحى حصل بذلك النفع.

فيكون معنى هذا: أن الدوران يشبه دوران الرحى بطحن الحب، فيكون في ذلك فوائد للناس، وهذا يطابق ويوافق ما حصل في زمن الخلفاء الراشدين الذين خلافتهم خلافة نبوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) فعلى هذا يكون المعنى: حصول استقامة وقوة خلافة راشدة، وخلافة نبوة في خمس وثلاثين سنة؛ منها ثلاثون مدة الخلفاء، ومنها خمس هي المدة الباقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله ذاك.

ودوران الرحى بهذا المعنى على اعتبار النفع، وأن خلافة الخلفاء الراشدين حصل فيها خير وهي خلافة راشدة، ويستقيم على معنى دوران الرحى بالحب وطحن الحب، كونه يصير دقيقاً يستفاد منه، ومعلوم أن الحب لا يستفاد منه إلا بالطحن، والرحى هي التي تطحن الحب وتجعله دقيقاً فيكون معنى ذلك أنه حصل للناس في هذه المدة فوائد عظيمة وخير كثير.

ولهذا من الأبيات التي يلغز بها بعض الشعراء بحجري الرحى، فيقول:

أخوان من أم وأب لا يفتران من التعب

ما منهما إلا ضن

يشكو معاناة التعب

فلنا بصلحهما ردى

ولنا بحربهما نشب

إذا اصطلحا وانطبق واحد على الثاني بلا حركة، فلن يكون هناك حب يطحن، فاصطلاحهما لا نستفيد منه، ولكن إذا صار بينهما حرب، وهذا يدور على هذا، فيحصل الطحين ويستفيد الناس.

وهذا يؤتى به في كتب الأدب في الإلغاز.

ومعلوم أن الاقتتال إنما حصل بعد قتل عثمان ، وقبل اجتماع الكلمة على معاوية، ولكن على هذا المعنى الذي ذكرته، والذي ذكره بعض العلماء: أن المراد به القوة والانتشار والاستقامة، فيدخل في ذلك مدة الخلفاء الراشدين مع خمس سنين من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما على القول بأن دوران الرحى المقصود به الحرب، فالحرب إنما حصلت بعد مقتل عثمان ، فقد حصلت الفتن وحصل الاقتتال بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وهم مجتهدون، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وخطؤه مغفور له، والواجب هو إحسان الظن بالجميع، وعدم النيل من أحد منهم، بل الواجب هو الترضي عنهم ومحبتهم وموالاتهم جميعاً، وسلامة القلوب والألسنة من كل ما لا يليق بهم، هذا هو الواجب في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ (فإن يهلكوا فسبيل من هلك) ]، يعني: من الأمم السابقة، والهلاك لا يلزم أن يكون بتلف وذهاب أجسادهم، بل يكون بانحرافهم وحصول فتن وأمور مضلة.

قوله: [ (وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين سنة) ]، ولا شك أنه لم يحصل الهلاك، ولكن حصل قيام الدين، وقيام الملك لبني أمية بعد عهد الراشدين، وقد حصل في زمن بني أمية خير ونفع عظيم، وفتحت الفتوحات وبلغت الديار الإسلامية المفتوحة إلى المحيط الأطلسي غرباً، وإلى بلاد السند والهند والصين شرقاً، وقد سبق أن مر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وقد بلغ ملك هذه الأمة في زمن بني أمية مبلغاً وصل إلى حد المحيط الأطلسي غرباً وإلى الصين شرقاً، فصار في ذلك القوة للإسلام وأهله.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، والخلفاء الثمانية هم خلفاء بني أمية، وقبلهم الخلفاء الراشدون الهادون المهديون، فهذا فيه بيان أن الإسلام قوي حيث انتشر في هذه المدة، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية.

قوله: [ (وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً) ]، قيل المقصود به: ملكهم، وقد قام ملك بني أمية هذه المدة من حين بويع معاوية رضي الله عنه بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، فمدة سبعين بعد ذلك فيها قوة، وبعد ذلك حصل الضعف في بني أمية، وحصلت الحروب والاقتتال الذي أدى إلى ظهور بني العباس وتغلبهم على بني أمية وانتزاعهم الملك منهم، فتكون مدة السبعين هي من خلافة معاوية إلى تمام السبعين، وخلافة بني أمية تبلغ تسعاً وثمانين سنة، لكن في آخرها حصل اضطراب وقلاقل وفتن، ولكن مدة السبعين سنة هي مدة الخلفاء الأقوياء والتي حصل فيها خير كثير، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقوي الإسلام وصار عزيزاً، وأمر الناس ماضياً، فتحقق ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من قوله: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، فيكون المقصود بذلك الخلفاء الثمانية الذين هم من بني أمية، وهم من كانوا في مدة سبعين سنة ابتداء من خلافة معاوية ، وفي آخرها التي هي فوق السبعين مقدار تسعة عشر سنة بقية مدة الخلافة الأموية حتى ظهر عليهم العباسيون وتغلبوا عليهم. وانتزعوا الملك منهم، تلك كان فيها ضعف، وعدم قوة، وعدم استقامة؛ بسبب الحروب والفتن التي حصلت في آخر عهد بني أمية.

قوله: [ (قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى) ].

يعني: كأن السبعين بعدما مضى.

تراجم رجال إسناد حديث (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين...)

قوله: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ]

محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود .

[ حدثنا عبد الرحمن ].

هو عبد الرحمن بن مهدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سفيان ].

سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن منصور ].

هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ربعي بن حراش ].

ربعي بن حراش ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن البراء بن ناجية ].

البراء بن ناجية ثقة، أخرج له أبو داود .

[ عن عبد الله بن مسعود ].

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ قال أبو داود : من قال: خراش فقد أخطأ ].

خراش بالخاء بدل الحاء، في والد ربعي ، فإنما هو بالحاء المهملة، وليس بالخاء المعجمة، ويقال: الحاء المهملة والخاء المعجمة؛ لأن رسم الحاء والخاء واحد، والنطق بها واحد، إلا أن هذه فيها إعجام نقطة وتلك خالية مهملة.

ولا يقال: الجيم المعجمة؛ لأن الجيم رسمها ولفظها يختلف عن الحاء والخاء؛ لأن الحاء والخاء بينهن تشابه، وأما الجيم فهي تختلف في النطق عن الحاء والخاء، فلا يقال: الجيم المعجمة؛ لأن لفظ الجيم أخرجها عن الحاء والخاء، لكن الحاء والخاء رسمها واحد والنطق بها واحد، إلا أن الفرق في النقطة، فلذلك احتاجوا إلى أن يقولوا: معجمة ومهملة، فهنا حراش بالحاء المهملة هو الصواب، ومن قال: خراش بالخاء المعجمة فقد أخطأ.

المقصود بالهلاك في قوله ( فإن يهلكوا فسبيل من هلك )

قوله: [ (فإن يهلكوا ...) ].

الهلاك هنا معلوم أنه ليس هلاك وذهاب الأجسام؛ لأن هذه الأمة لا تهلك، بل لابد وأن تبقى وهي باقية، ولكن الذي حصل هو هلاك في التصور والعمل، وليس أن الله يهلكهم بسنة عامة ويقضي عليهم، فهذا لا يكون في هذه الأمة، ولكن يحصل لهم أن يهلكوا بأن يكونوا على خلاف الهدى والاستقامة، فيكون فيه شيء من الضلال ويكون سبيل من مضى ممن ضل، وليس المقصود به الهلاك الذي هو الفناء، وألا يبقى لهم وجود.

وقوله: (مما مضى) معناه: أنه تابع لما مضى؛ وهذه السبعون مضافة إلى الخمس والثلاثين، وهذه مدة الخلفاء الراشدين ومدة قوة بني أمية .

شرح حديث (يتقارب الزمان وينقص العلم...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله! أية هو؟ قال: القتل القتل) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان)، وتقارب الزمان فسر بقلة فائدة الأعمار، وبغير ذلك، وفي هذا الزمان حصل تقارب الزمان، واتصال الناس، وصار الناس كأنهم في قرية أو مدينة بحيث لو حصل حادث في أي موضع من الدنيا فإن خبره يصل إلى الدنيا كلها في دقيقة واحدة، وكذلك أيضاً اتصال الناس بعضهم ببعض رغم وجود المسافات الشاسعة، ويكلم بعضهم بعضاً ويتبايعون، وترسل البضائع، وتنقل الأخبار، ويطمئن بعضهم على بعض، وكان فيما مضى لا يصل الخبر إلا بعد مدة طويلة بالانتقال على ظهور الإبل، وليس ببعيد أن يكون هذا من تقارب الزمان، وكذلك أيضاً سهولة الانتقال بالطائرات بتلك السرعة الهائلة التي يقطع فيها الإنسان مسافات بعيدة في ساعات، وكان هذا الذي يقطع الآن بأقل من ساعة يقطع فيما مضى في عشرة أيام أو ربما شهر، فلا شك أن هذا فيه تقارب، والناس صاروا كأنهم في قرية أو في مدينة بما يسر الله عز وجل لهم من هذه الوسائل سواء عن طريق الاتصالات الهاتفية، أو عن طريق الطائرات والسيارات، وما إلى ذلك من الوسائل التي سخرها الله في هذا الزمان، فليس ببعيد أن يكون معنى هذا الحديث ما حصل في هذا الزمان.

قوله: [ (وينقص العلم) ]، يعني: يحصل نقصان العلم وقلته وضعف أهله وذلك بالانشغال عنه، وبموت أهله الذين هم متمكنون منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فالقراء كثيرون والفقهاء قليلون .. وما أكثر من يقرأ وما أقل من يفقه، ومعلوم أن ذهاب أهل العلم الذين هم متمكنون منه والذين هم مرجع فيه يعد خسارة كبيرة على الناس، ويتضح ذلك في هذا الزمان بوفاة شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، والشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، فإن هذا يبين لنا أن ذهاب مثل هؤلاء نقص كبير وخسارة كبيرة للناس؛ لما أعطاهم الله عز وجل من سعة العلم ونفع الناس، وما خلفوه من تراث وعلم يبين لنا شدة الخسارة وعظم المصيبة بذهاب من هو متمكن في العلم.

قوله: [ (وتظهر الفتن) ]، وما أكثر الفتن في هذا الزمان وقبل هذا الزمان وفي مختلف الأزمان، ولكن في هذا الزمان الفتن كثيرة، نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

قوله: [ (ويلقى الشح) ]، الشح في النفوس والبخل بالمال، والشح هو شدة البخل.

والفرق بين البخل والشح: أن الشح هو شدة البخل، والبخل أعم والشح أخص؛ لأن الشح هو أشد ما يكون من البخل، وهذا واقع في هذا الزمان وفي أزمان كثيرة حيث تكون الدنيا عند الناس غالية حتى يقتتلوا عليها، وتحصل الشحناء بسببها بين الأقارب والأصدقاء.

قوله: [ (ويكثر الهرج) ]، الذي هو القتل في الفتن.

قوله: [ (قيل يا رسول الله! أية هو؟ قال: القتل القتل).

قولهم: أية هو؟ يعني: ما هو الهرج الذي أخبر عن كثرته وحصوله ووجوده، (قال: القتل القتل).

تراجم رجال إسناد حديث (يتقارب الزمان وينقص العلم ...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ].

هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.

[ حدثنا عنبسة ].

هو عنبسة بن خالد الأيلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود .

[ حدثني يونس ].

هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن ].

حميد بن عبد الرحمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أن أبا هريرة قال ].

أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً، قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى).

قال أبو داود : من قال: خراش فقد أخطأ ].

ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين؛ فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: بل مما مضى)، قيل في هذا الحديث: إن المراد بذلك: قوة الإسلام في هذه المدة، ثم بعد ذلك يحصل التغيير، وقيل: إن المقصود بدوران الرحى: الحروب التي تحصل وتقع، ولا شك أن مدة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله تعالى عنهم كانت خلافة راشدة، وكان الخير عظيماً والإسلام منتشرا،ً وقد حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وتولي علي رضي الله عنه شيء من الاقتتال والاختلاف حيث وجدت الفتن، وحصل اقتتال بين المسلمين، ثم بعد ذلك حصل اجتماع للمسلمين على يدي الحسن بن علي رضي الله عنهما بتنازله لـمعاوية وحصول اجتماع الكلمة على معاوية بعدما كانت الفرقة وكان الخلاف قبل ذلك، وتحقق ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله في الحسن رضي الله عنه، وقد حمله معه على المنبر وهو طفل صغير، وكان ينظر إليه وينظر إلى الناس، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد تحقق ذلك في عام واحد وأربعين من الهجرة، والذي سمي بعام الجماعة، حيث اجتمعت الكلمة وصار على الناس خليفة واحد، هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، وقد آتى الله الملك بعد مدة الخلفاء الراشدين معاوية بن أبي سفيان ، وهو خير وأول ملوك المسلمين؛ لأنه صحابي، والخلفاء الذين جاءوا بعده على مختلف العصور والدهور ليسوا من الصحابة، فهو أول الملوك وخير الملوك رضي الله عنه وأرضاه، وقد جاء إطلاق الخلافة على الخلفاء الراشدين وعلى ثمانية من بعدهم، وذلك في الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، فإن هؤلاء الخلفاء هم الخلفاء الراشدون، وثمانية من خلفاء بني أمية.

قوله: [ (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين) ]،قيل: إن المراد بذلك مدة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وهي ثلاثون سنة، ويضاف إليها خمس أو قريباً من ذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن المراد بذلك: ما حصل في سنة خمس وثلاثين من الهجرة من قتل عثمان رضي الله عنه، وما حصل بعد ذلك من الفتن، لكن كما هو معلوم أن استخدام التاريخ الهجري إنما حصل في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لكن إذا اعتبرت مدة الخلفاء الراشدين الأربعة التي هي ثلاثون سنة، وضم إليها خمس سنوات من بعدها فيكون معنى ذلك أن هذه المدة هي الخلافة الراشدة، وقد حصل فيها الخير الكثير، وإن وجد شيء من الاختلاف.

وعلى هذا يكون المقصود برحى الإسلام: قوته واستقامته وسلامته، وكونه على منهاج النبوة، وكون الخلافة خلافة نبوة، ويكون بدوران الرحى حصول الخير والنفع، كما أن الرحى إذا دارت على الحب وصار طحيناً ودقيقاً بسبب دوران الرحى حصل بذلك النفع.

فيكون معنى هذا: أن الدوران يشبه دوران الرحى بطحن الحب، فيكون في ذلك فوائد للناس، وهذا يطابق ويوافق ما حصل في زمن الخلفاء الراشدين الذين خلافتهم خلافة نبوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) فعلى هذا يكون المعنى: حصول استقامة وقوة خلافة راشدة، وخلافة نبوة في خمس وثلاثين سنة؛ منها ثلاثون مدة الخلفاء، ومنها خمس هي المدة الباقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله ذاك.

ودوران الرحى بهذا المعنى على اعتبار النفع، وأن خلافة الخلفاء الراشدين حصل فيها خير وهي خلافة راشدة، ويستقيم على معنى دوران الرحى بالحب وطحن الحب، كونه يصير دقيقاً يستفاد منه، ومعلوم أن الحب لا يستفاد منه إلا بالطحن، والرحى هي التي تطحن الحب وتجعله دقيقاً فيكون معنى ذلك أنه حصل للناس في هذه المدة فوائد عظيمة وخير كثير.

ولهذا من الأبيات التي يلغز بها بعض الشعراء بحجري الرحى، فيقول:

أخوان من أم وأب لا يفتران من التعب

ما منهما إلا ضن

يشكو معاناة التعب

فلنا بصلحهما ردى

ولنا بحربهما نشب

إذا اصطلحا وانطبق واحد على الثاني بلا حركة، فلن يكون هناك حب يطحن، فاصطلاحهما لا نستفيد منه، ولكن إذا صار بينهما حرب، وهذا يدور على هذا، فيحصل الطحين ويستفيد الناس.

وهذا يؤتى به في كتب الأدب في الإلغاز.

ومعلوم أن الاقتتال إنما حصل بعد قتل عثمان ، وقبل اجتماع الكلمة على معاوية، ولكن على هذا المعنى الذي ذكرته، والذي ذكره بعض العلماء: أن المراد به القوة والانتشار والاستقامة، فيدخل في ذلك مدة الخلفاء الراشدين مع خمس سنين من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما على القول بأن دوران الرحى المقصود به الحرب، فالحرب إنما حصلت بعد مقتل عثمان ، فقد حصلت الفتن وحصل الاقتتال بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وهم مجتهدون، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وخطؤه مغفور له، والواجب هو إحسان الظن بالجميع، وعدم النيل من أحد منهم، بل الواجب هو الترضي عنهم ومحبتهم وموالاتهم جميعاً، وسلامة القلوب والألسنة من كل ما لا يليق بهم، هذا هو الواجب في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ (فإن يهلكوا فسبيل من هلك) ]، يعني: من الأمم السابقة، والهلاك لا يلزم أن يكون بتلف وذهاب أجسادهم، بل يكون بانحرافهم وحصول فتن وأمور مضلة.

قوله: [ (وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين سنة) ]، ولا شك أنه لم يحصل الهلاك، ولكن حصل قيام الدين، وقيام الملك لبني أمية بعد عهد الراشدين، وقد حصل في زمن بني أمية خير ونفع عظيم، وفتحت الفتوحات وبلغت الديار الإسلامية المفتوحة إلى المحيط الأطلسي غرباً، وإلى بلاد السند والهند والصين شرقاً، وقد سبق أن مر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وقد بلغ ملك هذه الأمة في زمن بني أمية مبلغاً وصل إلى حد المحيط الأطلسي غرباً وإلى الصين شرقاً، فصار في ذلك القوة للإسلام وأهله.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، والخلفاء الثمانية هم خلفاء بني أمية، وقبلهم الخلفاء الراشدون الهادون المهديون، فهذا فيه بيان أن الإسلام قوي حيث انتشر في هذه المدة، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية.

قوله: [ (وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً) ]، قيل المقصود به: ملكهم، وقد قام ملك بني أمية هذه المدة من حين بويع معاوية رضي الله عنه بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، فمدة سبعين بعد ذلك فيها قوة، وبعد ذلك حصل الضعف في بني أمية، وحصلت الحروب والاقتتال الذي أدى إلى ظهور بني العباس وتغلبهم على بني أمية وانتزاعهم الملك منهم، فتكون مدة السبعين هي من خلافة معاوية إلى تمام السبعين، وخلافة بني أمية تبلغ تسعاً وثمانين سنة، لكن في آخرها حصل اضطراب وقلاقل وفتن، ولكن مدة السبعين سنة هي مدة الخلفاء الأقوياء والتي حصل فيها خير كثير، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقوي الإسلام وصار عزيزاً، وأمر الناس ماضياً، فتحقق ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من قوله: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، فيكون المقصود بذلك الخلفاء الثمانية الذين هم من بني أمية، وهم من كانوا في مدة سبعين سنة ابتداء من خلافة معاوية ، وفي آخرها التي هي فوق السبعين مقدار تسعة عشر سنة بقية مدة الخلافة الأموية حتى ظهر عليهم العباسيون وتغلبوا عليهم. وانتزعوا الملك منهم، تلك كان فيها ضعف، وعدم قوة، وعدم استقامة؛ بسبب الحروب والفتن التي حصلت في آخر عهد بني أمية.

قوله: [ (قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى) ].

يعني: كأن السبعين بعدما مضى.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2649 استماع