شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب المساجد - حديث 273-276


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حمل الرسالة وأداها، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا نجوماً يهتدى بها في ظلمات البر والبحر.

أما بعد: أيها الإخوة! عندنا حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، فكانت تأتيني تتحدث عندي ).

يقول المصنف: متفق عليه.

تخريج الحديث

هذا الحديث رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، كتاب الصلاة، باب نوم المرأة في المسجد.

وفيه قصة طويلة: أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، فإما وضعته وإما سقط منها، فجاءت حدياة فحسبته لحماً فخطفته، فبحثوا عن الوشاح فلم يجدوه، فاتهموني به، ففتشوا كل شيء، قالت: حتى فتشوا قبلها؛ يبحثون عن الوشاح. قالت: فبينا أنا قائمة معهم إذ جاءت الحدياة فألقت بالوشاح، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به -زعمتم- وأنا منه بريئة وهو ذا هو. ثم انطلقت منهم، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها بيت حفش أو خباء في المسجد، فكانت تأتي عائشة تتحدث عندها، فلا تقعد مقعداً إلا قالت:

ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني

قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين مقعداً إلا قلت هكذا؟! فأخبرتها بالخبر.

أما مسلم فلم أقف على الحديث في مسلم، لم أهتد إلى موضعه مع البحث عنه، وقد وجدته في تحفة الأشراف للمزي نسبه للبخاري في ترجمة أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. نسبه إلى البخاري فحسب، وقد يكون في مسلم في موضع لم يتهيأ لي الوقوف عليه على كل حال.

معاني ألفاظ الحديث

قولها رضي الله عنها في هذه القصة: (أن وليدة): الوليدة في الأصل هي البنت أول ما تولد، تسمى وليدة، ولكن المقصود بها هاهنا: الأمة، المقصود الأمة، فإن الأمة تسمى وليدة حتى وإن كانت كبيرة السن.

وقولها: (وليدة) هذا باعتبار ما كان أيضاً؛ لأنها صرحت في الحديث بأنهم أعتقوها، فكانت معهم، فهي وليدة -يعني أمة- باعتبار أنها كانت أمة، وإلا فهي حالة حدوث القصة كانت حرة معتقة، ولم تكن أمة.

وقولها: (الوشاح): الوشاح هو بكسر الواو غالباً، وقد تفتح، وقد تبدل همزة، وهو عبارة عن خيطين من اللؤلؤ يخالف بينهما، وتلبسهما المرأة على كشحها، ويسمى وشاحاً، وقد يكون أبيض أو أحمر .

وقولها في بعض روايات البخاري : (وشاح ذي سيور)، فالسيور: هو الجلد، يعني: أن هذا الوشاح من الجلد، من سيور مصنوعة أو مقدودة من الجلد، وعليها حبات اللؤلؤ، تلبسها تلك الصبية التي ورد في بعض الروايات: أنها كانت عروساً فوضعته ثم أخذته الحدياة.

والحدياة: هي بضم الحاء تصغير حدأة بوزن: عنبة، وقد يقال: حدأة أيضاً، وكلاهما صحيح، وهي الطائر المعروف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الفواسق التي تقتل في الحل والحرم، قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ).

والحدياة معروفة بغرمها وحبها للحم، حتى إنها تخطفه من على الأرض أحياناً كما في هذه القصة.

وقولها: (كان لها خباء) الخباء: هو الخيمة الصغيرة من جلد وغيره .

أو (حفش)، تقول: (خباء أو حفش)، فالحفش أيضاً: هو البيت الصغير القصير الذي سقفه قصير، يسمى حفشاً .

حكم النوم في المسجد للرجل والمرأة

وفي الحديث: جواز النوم في المسجد، ولذلك بوب البخاري رحمة الله عليه: (باب نوم المرأة في المسجد)، ثم ساق بعده حديثاً آخر وقال: (نوم الرجل في المسجد).

ولا شك أن نوم المرأة في المسجد مقيد عند جميع الأمة بما إذا أمنت الفتنة كما كان الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن تلك المرأة كان لها خباء أو حفش -وهو بيت صغير كما ذكرت لكم- وكان بجوار أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسجد يتردد عليه الناس طيلة الليل والنهار في صلاة أو ذكر أو قراءة، فهو مأمون محروس، ونوم المرأة المنفردة التي ليس لها أهل في خيمة صغيرة في المسجد بلا شك أنه أكثر أماناً لها مما لو نامت في خيمة صغيرة خارج المسجد.

القول الأول: جواز النوم في المسجد وأدلته

ومسألة النوم في المسجد فيها أقوال عديدة:

الأول: مذهب الجمهور: جواز النوم في المسجد هذا مذهب الجمهور، نص عليه الشافعي وغيره، وهو منسوب إلى جماعة من الصحابة كـعبد الله بن عمر رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وغيرهما، ونقل عن جماعة من التابعين كـعمرو بن دينار وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء وابن سيرين وغيرهم، نقل عنهم: أنهم قالوا بجواز النوم في المسجد، ولعل البخاري أيضاً ممن يذهب إلى هذا كما ذكرت في تراجمه.

واستدلوا لذلك بأدلة، منها: حديث الباب، حيث إن هذه المرأة كانت تنام في المسجد، وكان بيتها هذا الحفش الصغير أو هذا الخباء الصغير.

ومن أدلتهم على جواز النوم في المسجد: ما رواه الشيخان أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه: في قصة علي حين ( جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت علي فلم يجده، ووجد فاطمة فسألها: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه مغاضبة -غضب عليها فخرج ولم يقل عندها، ما نام في القيلولة عندها- فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه فأخبر أنه في المسجد، فجاء إليه وقد نام وانحسر الرداء عن جنبه فأصابه التراب، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يحركه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب )، ولذلك كانت كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه، فالمهم أن علياً رضي الله عنه كان في تلك القيلولة في المسجد.

ومن الأدلة على جواز النوم في المسجد قصة أصحاب الصفة، وهي في الصحيح عن أبي هريرة وغيره، وقصتهم معروفة: أنهم كانوا سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ليس لهم إلا المسجد، فكانوا فيه ينامون ويجلسون يأكلون ويشربون، ليس لهم مكان سواه.

ومن الأدلة أيضاً على جواز النوم في المسجد حديث ابن عمر رضي الله عنه -وهو في الصحيح- وهو حديث طويل: ( أنه كان شاباً عزباً، فكان ينام في المسجد )، هذا هو الشاهد في الحديث، وفي آخره قصة في بعض المصادر: ( أنه نام في المسجد فرأى رؤيا أنه أتاه رجلان فأخذا بيديه وقالا له: هلم. فذهبا به حتى وقفا به على النار، فإذا بها مطوية كطي البئر، قال: وإذا فيها رجال ونساء قد عرفتهم، فقلت: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فقالا لي: لن تراع، لن تراع، ثم رأى أن معه قطعة من حرير لا يشير بها في شيء إلا طارت به، فاستيقظ وأخبر أخته حفصة وأمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الرؤيا، فسألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل )، فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً، والشاهد من الحديث هو أنه رضي الله عنه كان ينام في المسجد وكان شاباً عزباً قبل الزواج.

هذا القول الأول، وهو مذهب الجمهور.

القول الثاني: كراهية النوم في المسجد

القول الثاني: القول بالكراهة، أن النوم في المسجد مكروه مطلقاً، وهذا منقول عن ابن مسعود رضي الله عنه، ونقله ابن أبي شيبة في مصنفه أيضاً عن جماعة من التابعين كـعطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم.

وقد جاء في الباب أحاديث عن أبي ذر وغيره، ولكنها ضعيفة ولا توجد في كتب ودواوين السنة المعتمدة.

القول الثالث: كراهية النوم في المسجد لغير مريد الصلاة

وفي المسألة قول ثالث، وهو منسوب ومنقول عن ابن عباس رضي الله عنه: وهو القول بالكراهة إلا لمن يريد الصلاة، يعني: من أراد الصلاة فلا يكره له أن ينام في المسجد، أما من لا يريد الصلاة فإنه يكره.

ولعل مما يمكن أن يستدل به لهذا القول ما نقل وثبت في السنن وغيرها: أن الصحابة رضي الله عنهم (كانوا ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم ويضعون جنوبهم -كما سبق- ثم يصلون ولا يتوضئون).

وقال بعض أهل العلم: إن رأي ابن عباس رضي الله عنه ليس كذلك، وإنما رأيه: أن المسجد لا ينبغي أن يتخذ مرقداً، يعني: لا يمنع أن ينام فيه الإنسان حيناً أو وقتاً أو لحاجة أو ما شابه، لكن أن يتخذ عادة أن الإنسان إذا أراد أن ينام جاء إلى المسجد فإن هذا ينهى عنه ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

القول الرابع: كراهية نوم ذي السكن دون الغريب

وفي المسألة قول رابع عن الإمام مالك رحمه الله، وهو أيضاً قول للإمام أحمد وإسحاق بن راهويه : أنهم قالوا بالتفريق والتفصيل بين من له مسكن ومن ليس له مسكن، يعني: بين الغريب وغيره، فقالوا: من له مسكن فإن الأولى والأفضل أن ينام في مسكنه، ويكره له أن ينام في المسجد، أما من ليس له مسكن فإنه لا بأس أن ينام في المسجد، كما هو الحال بالنسبة لهذه الجارية الوليدة السوداء التي ذكرتها عائشة، وكذلك أصحاب الصفة ونحوهم.

وعلى كل حال لا شيء في جواز النوم في المسجد، ولا أظن أن هناك قولاً بالتحريم فيما أعلم، لم أقف على قول بالتحريم، ولكن يبقى الأمر متردداً بين الجواز وبين الكراهية، ولا شك أن المسجد كما سبق ( إن المساجد لم تبن لهذا )، فإن اتخاذ المسجد مرقداً -كما أشار ابن عباس رضي الله عنه- لغير حاجة مما لا يسوغ، لكن إن كان لذلك حاجة فلا حرج.

الحاجة مثل ماذا؟

مثل: أن يكون الإنسان غريباً ليس له مأوى، ما نقول: بالضرورة تذهب للفندق، لا بأس أن ينام في المسجد، مثل الحاجة أيضاً أنه قد يكون المسجد فيه شيء من البرودة المناسبة في بعض الأوقات والظروف، لكن البيت قد لا يكون كذلك، وهذا قد يوجد في كثير من البلاد، بمعنى: قد لا يملك الإنسان مكيفاً في بيته -مثلاً- فيكون محتاجاً إلى أن ينام جماعة في المسجد، فلا بأس بذلك.

مثال أيضاً: أن يكون في البيت إزعاج؛ لصراخ الأطفال، أو أصوات أو ما شابه ذلك، فلا يستطيع الإنسان أن ينام في البيت، فيكون محتاجاً إلى أن ينام في المسجد في أوقات معينة، فهذا -إن شاء الله- لا حرج فيه؛ لأنه ليس هناك أدلة صحيحة على كراهية ذلك فضلاً عن تحريمه.

فوائد الحديث

ومن فوائد حديث عائشة رضي الله عنها: جواز نصب الخيمة في المسجد إذا لم يترتب على ذلك ضرر مثل التضييق على المصلين، وقد سبق ذلك.

ومن فوائده: هجرة الإنسان عن البلد الذي امتحن فيه؛ فإن هذه المرأة لما حصلت لها هذه القصة، واتهمت بالسرقة غادرت ذلك البلد وهاجرت عنه، فكان ذلك عين الخير لها، حيث جاءت إلى المدينة وأسلمت وصارت من جلساء عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فكان انتقالها وكانت هجرتها خيراً لها في عاجل أمرها وآجله، ولذلك كان العلماء يوصون بالسفر والمغادرة لكل مكان يضيق بالإنسان أو يؤذى فيه أو يضيّق عليه فيه.

ومن فوائد الحديث: إجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً، فقد جاء في بعض روايات هذا الحديث -في صحيح البخاري -: أنها رضي الله عنها قالت: (فدعوت الله عز وجل أن يبرئني، فجاءت الحدياة وهم واقفون فألقته بين أيديهم)، فكأن هذا الأمر الذي أجراه الله عز وجل كان بسبب إجابة دعائها؛ لأنها اتهمت وهي بريئة فكانت مظلومة، ولذلك أجاب الله عز وجل دعاءها.

ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد أحاديث عدة لا بأس بأسانيدها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتق دعوة المظلوم ولو كان فاجراً )، وفي رواية: ( ولو كان كافراً )، ففجوره على نفسه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ في حديث ابن عباس -كما في الصحيحين- حين بعثه إلى اليمن، قال له في آخر الحديث مع أنه قال له: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب )، قال له: ( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ).

وأني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع

هذا الحديث رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، كتاب الصلاة، باب نوم المرأة في المسجد.

وفيه قصة طويلة: أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، فإما وضعته وإما سقط منها، فجاءت حدياة فحسبته لحماً فخطفته، فبحثوا عن الوشاح فلم يجدوه، فاتهموني به، ففتشوا كل شيء، قالت: حتى فتشوا قبلها؛ يبحثون عن الوشاح. قالت: فبينا أنا قائمة معهم إذ جاءت الحدياة فألقت بالوشاح، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به -زعمتم- وأنا منه بريئة وهو ذا هو. ثم انطلقت منهم، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها بيت حفش أو خباء في المسجد، فكانت تأتي عائشة تتحدث عندها، فلا تقعد مقعداً إلا قالت:

ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني

قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين مقعداً إلا قلت هكذا؟! فأخبرتها بالخبر.

أما مسلم فلم أقف على الحديث في مسلم، لم أهتد إلى موضعه مع البحث عنه، وقد وجدته في تحفة الأشراف للمزي نسبه للبخاري في ترجمة أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. نسبه إلى البخاري فحسب، وقد يكون في مسلم في موضع لم يتهيأ لي الوقوف عليه على كل حال.

قولها رضي الله عنها في هذه القصة: (أن وليدة): الوليدة في الأصل هي البنت أول ما تولد، تسمى وليدة، ولكن المقصود بها هاهنا: الأمة، المقصود الأمة، فإن الأمة تسمى وليدة حتى وإن كانت كبيرة السن.

وقولها: (وليدة) هذا باعتبار ما كان أيضاً؛ لأنها صرحت في الحديث بأنهم أعتقوها، فكانت معهم، فهي وليدة -يعني أمة- باعتبار أنها كانت أمة، وإلا فهي حالة حدوث القصة كانت حرة معتقة، ولم تكن أمة.

وقولها: (الوشاح): الوشاح هو بكسر الواو غالباً، وقد تفتح، وقد تبدل همزة، وهو عبارة عن خيطين من اللؤلؤ يخالف بينهما، وتلبسهما المرأة على كشحها، ويسمى وشاحاً، وقد يكون أبيض أو أحمر .

وقولها في بعض روايات البخاري : (وشاح ذي سيور)، فالسيور: هو الجلد، يعني: أن هذا الوشاح من الجلد، من سيور مصنوعة أو مقدودة من الجلد، وعليها حبات اللؤلؤ، تلبسها تلك الصبية التي ورد في بعض الروايات: أنها كانت عروساً فوضعته ثم أخذته الحدياة.

والحدياة: هي بضم الحاء تصغير حدأة بوزن: عنبة، وقد يقال: حدأة أيضاً، وكلاهما صحيح، وهي الطائر المعروف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الفواسق التي تقتل في الحل والحرم، قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ).

والحدياة معروفة بغرمها وحبها للحم، حتى إنها تخطفه من على الأرض أحياناً كما في هذه القصة.

وقولها: (كان لها خباء) الخباء: هو الخيمة الصغيرة من جلد وغيره .

أو (حفش)، تقول: (خباء أو حفش)، فالحفش أيضاً: هو البيت الصغير القصير الذي سقفه قصير، يسمى حفشاً .

وفي الحديث: جواز النوم في المسجد، ولذلك بوب البخاري رحمة الله عليه: (باب نوم المرأة في المسجد)، ثم ساق بعده حديثاً آخر وقال: (نوم الرجل في المسجد).

ولا شك أن نوم المرأة في المسجد مقيد عند جميع الأمة بما إذا أمنت الفتنة كما كان الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن تلك المرأة كان لها خباء أو حفش -وهو بيت صغير كما ذكرت لكم- وكان بجوار أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسجد يتردد عليه الناس طيلة الليل والنهار في صلاة أو ذكر أو قراءة، فهو مأمون محروس، ونوم المرأة المنفردة التي ليس لها أهل في خيمة صغيرة في المسجد بلا شك أنه أكثر أماناً لها مما لو نامت في خيمة صغيرة خارج المسجد.

ومسألة النوم في المسجد فيها أقوال عديدة:

الأول: مذهب الجمهور: جواز النوم في المسجد هذا مذهب الجمهور، نص عليه الشافعي وغيره، وهو منسوب إلى جماعة من الصحابة كـعبد الله بن عمر رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وغيرهما، ونقل عن جماعة من التابعين كـعمرو بن دينار وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء وابن سيرين وغيرهم، نقل عنهم: أنهم قالوا بجواز النوم في المسجد، ولعل البخاري أيضاً ممن يذهب إلى هذا كما ذكرت في تراجمه.

واستدلوا لذلك بأدلة، منها: حديث الباب، حيث إن هذه المرأة كانت تنام في المسجد، وكان بيتها هذا الحفش الصغير أو هذا الخباء الصغير.

ومن أدلتهم على جواز النوم في المسجد: ما رواه الشيخان أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه: في قصة علي حين ( جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت علي فلم يجده، ووجد فاطمة فسألها: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه مغاضبة -غضب عليها فخرج ولم يقل عندها، ما نام في القيلولة عندها- فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه فأخبر أنه في المسجد، فجاء إليه وقد نام وانحسر الرداء عن جنبه فأصابه التراب، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يحركه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب )، ولذلك كانت كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه، فالمهم أن علياً رضي الله عنه كان في تلك القيلولة في المسجد.

ومن الأدلة على جواز النوم في المسجد قصة أصحاب الصفة، وهي في الصحيح عن أبي هريرة وغيره، وقصتهم معروفة: أنهم كانوا سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ليس لهم إلا المسجد، فكانوا فيه ينامون ويجلسون يأكلون ويشربون، ليس لهم مكان سواه.

ومن الأدلة أيضاً على جواز النوم في المسجد حديث ابن عمر رضي الله عنه -وهو في الصحيح- وهو حديث طويل: ( أنه كان شاباً عزباً، فكان ينام في المسجد )، هذا هو الشاهد في الحديث، وفي آخره قصة في بعض المصادر: ( أنه نام في المسجد فرأى رؤيا أنه أتاه رجلان فأخذا بيديه وقالا له: هلم. فذهبا به حتى وقفا به على النار، فإذا بها مطوية كطي البئر، قال: وإذا فيها رجال ونساء قد عرفتهم، فقلت: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فقالا لي: لن تراع، لن تراع، ثم رأى أن معه قطعة من حرير لا يشير بها في شيء إلا طارت به، فاستيقظ وأخبر أخته حفصة وأمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الرؤيا، فسألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل )، فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً، والشاهد من الحديث هو أنه رضي الله عنه كان ينام في المسجد وكان شاباً عزباً قبل الزواج.

هذا القول الأول، وهو مذهب الجمهور.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع