شرح سنن أبي داود [353]


الحلقة مفرغة

شرح حديث كتابة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المسلمين واليهود في المدينة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟

حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال: أخبرنا شعيب عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه -وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- (كان كعب بن الأشرف يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود، وكانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمران:186] الآية.

فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ رضي الله تعالى أن يبعث رهطاً يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: طرق صاحبنا فقتل، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامةً صحيفة) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟

أي: الكيفية التي حصل بها إخراجهم، ومعلوم أنهم قد أجلوا من المدينة، ومنهم من ذهب إلى خيبر، ومنهم من ذهب إلى الشام.

وقد أورد أبو داود حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكان أحد الثلاثة الذي تيب عليهم أي: الذين خلفوا في غزوة تبوك، وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى بعد أن ذكر توبته على المهاجرين والأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] ذكر التوبة على الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك وصاحباه، ولم يكونوا منافقين ولا معذورين، فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة، وأنزل الله عز وجل توبته عليهم، وقد نجاهم الله تعالى بالصدق، وأنزل الله عز وجل فيهم الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وبعدها قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] أي: كونوا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صادقون، والذين نجاهم الله تعالى بالصدق.

ذكر كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف -وهو من كبار اليهود في المدينة من بني النضير- كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـسعد بن معاذ سيد الأوس: (ابعث من يقتل كعب بن الأشرف)؛ وذلك لإيذائه الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه، فأرسل محمد بن مسلمة وقتله، وقد مر في كتاب الجهاد قصة قتله.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان فيها أخلاط من أهل الكتاب من اليهود وهم من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والمسلمون من الأوس والخزرج، والمشركون الذين بقوا على شركهم وعلى عبادتهم للأوثان، وكانوا متمالئين مع اليهود، وأنزل الله عز وجل فيهم: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، وأمر الله عز وجل نبيه أن يصبر، وبعد أن قتل كعب بن الأشرف جاء اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا: إنه طرق صاحبنا -أي: طرق بليل- وقتل، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبينهم عهداً يلتزمون به، وينتهون إلى ما كتب فيه، ويعتمدونه، فكتب صحيفة صلح بين المسلمين وبينهم، ولكنهم بعد ذلك نقضوا العهد، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة عليه وهو جالس تحت جدار، وبعد ذلك حصل إجلاؤهم من المدينة.

وهذا بالنسبة لبني النضير، وأما بنو قريظة فإنهم بقوا على العهد حتى جاء الأحزاب من مكة وغيرها لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا معهم، فنقضوا بذلك العهد، ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ذهب إلى بني قريظة.

وأما بنو قينقاع فإنهم أول من أُخرج من المدينة قبل بني النضير وقبل بني قريظة.

تراجم رجال إسناد حديث كتابة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المسلمين واليهود في المدينة

قوله: [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ].

محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ أن الحكم بن نافع حدثهم ].

هو أبو اليمان الحكم بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا شعيب ].

شعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري ].

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الرحمن ].

عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ عن أبيه ].

أي: عن جده كعب بن مالك ، وهو الذي تيب عليه، وأما عبد الله والد عبد الرحمن بن كعب فإنه تابعي وليس بصحابي، وعبد الرحمن روى عن جده كما روى عن أبيه، ورواية أبيه تكون مرسلة، ولكنه هنا قال: وكان من الذين تيب عليهم، فالمقصود به الجد الذي هو كعب بن مالك ، فالرواية إنما هي عن الجد كعب بن مالك ، والجد يقال له: أب.

و كعب بن مالك رضي الله عنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث: (يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مصرف بن عمرو الأيامي حدثنا يونس -يعني ابن بكير - حدثنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عزوجل في ذلك: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:12]، قرأ مصرف إلى قوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:13] ببدر (وَأُخْرَى كَافِرَةٌ [آل عمران:13]) ].

أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة اليهود، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قاتل المشركين في بدر ونصره الله عز وجل عليهم جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وهم طائفة من اليهود، ومنهم عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، وقال لهم: (أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً) فقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، يعني: ليس عندهم خبرة ومعرفة في الحروب، إنك إن قاتلتنا لعرفت أننا الناس، أي: الذين لا يوقف في وجوهنا، وتحصل منا النكاية بمن يقاتلنا.

فأنزل الله عز وجل في ذلك: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12].

قوله: [ (قرأ مصرف إلى قوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:13] ببدر) ].

هذا تفسير للآية، وأن المقصود بذلك ما حصل بين المسلمين وكفار قريش في بدر.

وهذا الحديث غير ثابت؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً وهو محمد بن أبي محمد .

تراجم رجال إسناد حديث: ( يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً)

قوله: [ حدثنا مصرف بن عمرو الأيامي ].

مصرف بن عمرو الأيامي ثقة، أخرج له أبو داود .

[ حدثنا يونس يعني ابن بكير ].

يونس بن بكير وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ حدثنا محمد بن إسحاق ].

محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثني محمد بن أبي محمد ].

محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول، أخرج له أبو داود .

[ عن سعيد بن جبير وعكرمة ].

سعيد بن جبير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعكرمة هو مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مصرف بن عمرو حدثنا يونس قال ابن إسحاق : حدثني مولى لـزيد بن ثابت قال: حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة على شبيبة رجل من تجار يهود كان يلابسهم فقتله، وكان حويصة إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة ، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: يا عدو الله! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله) ].

أورد أبو داود حديث محيصة بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)، فوثب محيصة إلى رجل من اليهود من تجارهم يقال له: شبيبة فقتله، وكان حويصة أخوه لم يسلم، وكان أكبر من محيصة ، فجعل يضرب أخاه الذي أسلم لأنه قتل شبيبة ، ويقول: يا عدو الله! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.

يعني: إنك أكلت منه كثيراً إما أعطاه إياه أو عن طريق الشراء، وإن جسمك نبت على شيء من ماله.

وقوله: كان يلابسهم أي: يختلط بهم.

وهذا الحديث أيضاً غير ثابت؛ لأن فيه ذلك الرجل المبهم الذي هو مولى زيد بن ثابت ، وفيه أيضاً ابنة محيصة ، وهي مجهولة لا تعرف.

تراجم رجال إسناد حديث: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)

قوله: [ حدثنا مصرف بن عمرو عن يونس عن ابن إسحاق عن مولى لـزيد بن ثابت عن ابنة محيصة ].

ابنة محيصة قال الحافظ : لا تعرف، أخرج لها أبو داود .

[ عن محيصة ].

محيصة رضي الله عنه، صحابي، أخرج له أصحاب السنن.

شرح حديث: (يا معشر يهود أسلموا تسلموا...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا قتيبة بن سعيد قال: أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بينما نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فناداهم فقال: يا معشر يهود! أسلموا تسلموا. فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسلموا تسلموا. فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك أريد، ثم قالها الثالثة: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم) ].

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر يهود! أسلموا تسلموا) يعني: إذا أسلمتم حصلت لكم السلامة، وهذا فيه ترغيب لهم في الإسلام، وأنه يحصل لهم السلامة إذا أسلموا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مكاتبته للملوك يأتي بهذه العبارة، كما جاء في أول حديث هرقل : (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن أبيت فإنما عليك إثم الأريسيين)، ففيه ترغيب وترهيب، وأنه يحصل لهم بالإسلام السلام والأمن على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى ذراريهم ونسائهم.

قوله: (ذلك أريد) يعني: أنه قد أقام عليهم الحجة، وأنه قد بلغهم الشيء الذي أمر بتبليغه، وإذا حصل منه بعد ذلك عقوبة لهم من إجلاء أو قتال أو ما إلى ذلك فإنه قد سبق أن دعاهم إلى الإسلام، وأمرهم أن يسلموا لتحصل لهم السلامة.

قوله: [ (ثم قال الثالثة: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض) ].

يعني: الحكم في الأرض لله ورسوله، وهو يريد أن يجليهم منها إذا لم يسلموا.

قوله: (فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه) ].

يعني: الشيء الذي يريد أن يبيعه يبيعه، والشيء الذي يريد أن ينقله معه يحمله معه.

وهذا الحديث فيه ذكر أنه يريد أن يجليهم، وفيه ذكر أبي هريرة ، وأبو هريرة إنما أسلم عام خيبر، وهذا يفيد بأن هذا وقع بعد خيبر، ومعلوم أن اليهود كلهم قد أجلوا قبل خيبر إلى خيبر وإلى الشام، فيحمل حديث أبي هريرة هذا على بقايا بقيت من اليهود في المدينة، وكان ذلك بعد أن رجع من خيبر؛ لأن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر.

يقول الخطابي : أخذ بعضهم من هذا الحديث: أن بيع المكره في حق واجب عليه ماض لا رجوع فيه، وهذا مأخوذ من قوله: (فليبعه)؛ لأنهم سيخرجون، وإذا أرادوا أن يبيعوا شيئاً فليبيعوه، وبيعهم ليس باختيارهم، وإنما هم مضطرون، فهذا من جنس بيع المكره.

تراجم رجال إسناد حديث (يا معشر يهود أسلموا تسلموا...)

قوله: [ حدثنا قتيبة بن سعيد ].

قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا الليث ].

الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سعيد بن أبي سعيد ].

سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبيه ]

وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟

حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال: أخبرنا شعيب عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه -وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- (كان كعب بن الأشرف يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود، وكانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمران:186] الآية.

فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ رضي الله تعالى أن يبعث رهطاً يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: طرق صاحبنا فقتل، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامةً صحيفة) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟

أي: الكيفية التي حصل بها إخراجهم، ومعلوم أنهم قد أجلوا من المدينة، ومنهم من ذهب إلى خيبر، ومنهم من ذهب إلى الشام.

وقد أورد أبو داود حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكان أحد الثلاثة الذي تيب عليهم أي: الذين خلفوا في غزوة تبوك، وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى بعد أن ذكر توبته على المهاجرين والأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] ذكر التوبة على الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك وصاحباه، ولم يكونوا منافقين ولا معذورين، فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة، وأنزل الله عز وجل توبته عليهم، وقد نجاهم الله تعالى بالصدق، وأنزل الله عز وجل فيهم الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وبعدها قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] أي: كونوا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صادقون، والذين نجاهم الله تعالى بالصدق.

ذكر كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف -وهو من كبار اليهود في المدينة من بني النضير- كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـسعد بن معاذ سيد الأوس: (ابعث من يقتل كعب بن الأشرف)؛ وذلك لإيذائه الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه، فأرسل محمد بن مسلمة وقتله، وقد مر في كتاب الجهاد قصة قتله.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان فيها أخلاط من أهل الكتاب من اليهود وهم من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والمسلمون من الأوس والخزرج، والمشركون الذين بقوا على شركهم وعلى عبادتهم للأوثان، وكانوا متمالئين مع اليهود، وأنزل الله عز وجل فيهم: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، وأمر الله عز وجل نبيه أن يصبر، وبعد أن قتل كعب بن الأشرف جاء اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا: إنه طرق صاحبنا -أي: طرق بليل- وقتل، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبينهم عهداً يلتزمون به، وينتهون إلى ما كتب فيه، ويعتمدونه، فكتب صحيفة صلح بين المسلمين وبينهم، ولكنهم بعد ذلك نقضوا العهد، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة عليه وهو جالس تحت جدار، وبعد ذلك حصل إجلاؤهم من المدينة.

وهذا بالنسبة لبني النضير، وأما بنو قريظة فإنهم بقوا على العهد حتى جاء الأحزاب من مكة وغيرها لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا معهم، فنقضوا بذلك العهد، ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ذهب إلى بني قريظة.

وأما بنو قينقاع فإنهم أول من أُخرج من المدينة قبل بني النضير وقبل بني قريظة.

قوله: [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ].

محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ أن الحكم بن نافع حدثهم ].

هو أبو اليمان الحكم بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا شعيب ].

شعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري ].

هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الرحمن ].

عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ عن أبيه ].

أي: عن جده كعب بن مالك ، وهو الذي تيب عليه، وأما عبد الله والد عبد الرحمن بن كعب فإنه تابعي وليس بصحابي، وعبد الرحمن روى عن جده كما روى عن أبيه، ورواية أبيه تكون مرسلة، ولكنه هنا قال: وكان من الذين تيب عليهم، فالمقصود به الجد الذي هو كعب بن مالك ، فالرواية إنما هي عن الجد كعب بن مالك ، والجد يقال له: أب.

و كعب بن مالك رضي الله عنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2891 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2845 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2837 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2732 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2704 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2695 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2689 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2681 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2656 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2652 استماع