شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب المساجد - حديث 266-268


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد.. ) الحديث متفق عليه.

وعنه رضي الله عنه: ( أن عمر رضي الله عنه مر بـحسان ينشد في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ) متفق عليه.

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا ) رواه مسلم.

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك ) رواه النسائي والترمذي وحسنه.

أما أحاديث اليوم فسنأخذ منها ثلاثة أحاديث.

الحديث الأول منها هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه في سارية من سواري المسجد )، والحديث -كما يقول المؤلف- متفق عليه.

تخريج الحديث

وهذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه : كتاب: الصلاة، باب: الاغتسال في المسجد، وربط الأسير أيضاً في المسجد، هكذا في كتاب: الصلاة، باب: الاغتسال في المسجد وربط الأسير أيضاً في المسجد، وكأن هذه الترجمة التي ساق البخاري فيها الحديث كأنها ليست من وضع البخاري والله تعالى أعلم، ليس عليها بصمات أبي عبد الله ؛ فإن أبا عبد الله البخاري يحبك العناوين والتراجم حبكاً جيداً متميزاً، ولذلك قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.

أما هذه الترجمة فعليها مآخذ: (باب: الاغتسال وربط الأسير أيضاً في المسجد):

المأخذ الأول: أن الاغتسال ليس له مدخل في الباب الذي أوردها فيه، وهو كتاب الصلاة، فإن اغتسال الكافر إذا أسلم هذا الحكم يتعلق بباب الاغتسال في كتاب الطهارة، فإدخاله وإقحامه في كتاب الصلاة مما يلفت النظر، هذه واحدة.

الثانية: أنه قال: وربط الأسير أيضاً في المسجد، هذه الترجمة لها علاقة بكتاب الصلاة وبموضوع الصلاة والمساجد، لكن قوله: (وربط الأسير أيضاً في المسجد)، هذه يلاحظ عليها أنها مكررة مع الترجمة التي قبلها؛ لأن البخاري قال في الباب الذي قبله: (باب: الأسير أو الغريم يربط في المسجد)، وذكر فيه حديث أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأردت أن آخذه فأوثقه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: (( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ))[ص:35] فتركته، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم خاسئاً ).

ففي الحديث ربط الأسير في المسجد، ربط الأسير في المسجد، ولذلك في الترجمة التي عندنا الآن قال: (وربط الأسير أيضاً في المسجد)، يعني: كأنها ترجمة مكررة مع التي قبلها، هذا مأخذ آخر على الترجمة.

المأخذ الثالث: أنه جاء في بعض الروايات في صحيح البخاري قال: (باب) ثم ساق حديث ثمامة بن أثال، ولم يذكر لا باب الاغتسال إذا أسلم، ولا ربط الأسير في المسجد، قال: (باب)، ثم ساق الحديث، ولم يذكر مسألة الاغتسال ولا ربط الأسير.

الوجه الرابع: أنه عند الإسماعيلي ترجمة: (باب: دخول المشرك المسجد)، وساق فيه حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه، فكأن هذه الترجمة من وضع بعضهم أضافها إلى صحيح البخاري أو إلى صنيع الإمام البخاري، كأنها كذلك وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذا.

وأما مسلم رحمه الله فإنه قد روى الحديث في صحيحه : كتاب: الجهاد، باب: ربط الأسير وحبسه، والحديث رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

قصة ثمامة بن أثال

حديث ثمامة فيه قصة طويلة سبق أن مرت معنا في اغتسال الكافر إذا أسلم، باب: الغسل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل، وذكرت هناك قصة ثمامة بن أثال، وهي في الصحيحين، وفيها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة هو ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي -يا محمد- خير: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)، (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: مستحقاً للقتل؛ لأنه ربما يكون قتل من المسلمين، أو (ذا دم) يعني: أنه يطلب أهله وقومه بثأره إن قتلته، وقيل: (ذا ذم) بالذال، يعني: مذموماً أو ذا ذمة، يعني: ذمام ومكانة لدى قومه.

( وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرك، فلما كان من الغد مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من اليوم الثالث: مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة. فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد ) (إلى نخل) أي حائط أو بستان فيه ماء، وفي رواية: ( إلى نجل ) والنجل بالجيم المنقوطة: هو الماء القليل، كما في حديث عائشة في قصة الهجرة.

المهم: أنه ( ذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، يا رسول الله! والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، يا رسول الله! والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذته وهو قد أحرم بالعمرة، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فذهب واعتمر، فقال له قائل بـمكة : أصبوت؟ -وكانوا يسمون من دخل في الإسلام صابئاً- فقال: لا ما صبوت، ولكني تبعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

هذه هي قصة ثمامة بن أثال، وقصة ربطه في سارية من سواري المسجد.

معاني ألفاظ الحديث

قوله: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً ) أي: فرساناً على خيل، رجالاً على خيل، وقد جاء في بعض المصادر أن الذي قبض على ثمامة بن أثال هو العباس بن عبد المطلب، وهل يصح هذا؟ لا يصح؛ لأن العباس لم يسلم إلا عام فتح مكة -بل وقت فتح مكة - والنبي صلى الله عليه وسلم على مشارفها أو قريباً من ذلك، هذا على المشهور.

وعلى كل حال فهو لم يهاجر حتى يكون ممن قبض على ثمامة بن أثال .

وقوله: ( فجاءت برجل ) كما في الرواية التي ساقها المصنف هاهنا لم يذكر الرجل، ولكن عُرف من القصة أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة الحنفي، وهو سيد من سادات بني حنيفة، وفاضل من فضلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

أقوال العلماء في حكم دخول الكافر المسجد

في الحديث مسألة، وهي حكم دخول الكافر للمسجد.

في حكم دخول الكافر للمسجد أقوال عديدة، ذكر القرطبي في التفسير في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] أنها خمسة أقوال، ويمكن تلخيص هذه الأقوال في قولين:

القول الأول: جواز دخوله المساجد غير المسجد الحرام وأدلته

الأول: أنه يجوز دخول الكافر كل المساجد إلا المسجد الحرام، وهذا مذهب الشافعي وداود الظاهري وابن حزم، كما في المحلى، وقريب من ذلك رأي أبي حنيفة ؛ فإنه يرى أنه يجوز للكفار دخول المساجد كلها، ولا يستثني من ذلك إلا استثناء واحداً، وهو دخول المشرك للمسجد الحرام، يعني: دخول الوثني للمسجد الحرام، فإنه عنده لا يجوز، بخلاف غيره من اليهود والنصارى فإنه يجوز لهم ذلك.

إذاً: يختلف رأي أبي حنيفة عن رأي الشافعي ومن وافقه في أن أبا حنيفة يجيز حتى دخول الحرم لليهود والنصارى، بخلاف المشرك الوثني فإنه لا يجوز له دخوله.

ولذلك يمكن أن نقول إجمالاً: إن رأي أبي حنيفة قريب من رأي هؤلاء، وكأن البخاري رحمه الله يميل إلى هذا القول بجواز دخول الكفار للمسجد، ولذلك بوب في صحيحه : (باب: دخول المشرك المسجد)، وساق فيه حديث ثمامة بن أثال -حديث الباب- مختصراً، فكأنه رحمه الله يميل إلى هذا.

وفي كلام ابن القيم في أحكام أهل الذمة ما يدل على أن هذه رواية في مذهب الإمام أحمد أيضاً.

ولأصحاب هذا القول أدلة، منها:

أولاً: حديث الباب، حديث أبي هريرة في قصة ثمامة رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أن يربط في سارية من سواري المسجد، كما في بعض الروايات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أن يربط )، وحتى لو لم تثبت هذه الرواية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مر به ثلاث مرات، كل ذلك وهو يقرهم على ربطه في المسجد، فهذا من إقراره صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على الجواز.

وأما قوله في آخر الحديث في الليلة الثالثة: ( أطلقوا ثمامة )؛ فإن هذا ليس لأنه مربوط في المسجد، وإنما لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى المصلحة في إطلاقه وفكاك أسره، فمن المجزوم به بلا شك -خلافاً لما توهمه بعضهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أصحابه على ربط الأسير في المسجد.

وفي رواية: ( أنه أمر بذلك عليه الصلاة والسلام )، ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليفعلوا ذلك إلا وهم يعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم الرضا به والإقرار.

وثمامة ماذا كان دينه؟ مشركاً وثنياً، ولهذا لما قالوا له: ( صبوت؟ قال: لا، ولكني تبعت دين محمد صلى الله عليه وسلم )، فكأنه ما عد الشرك ديناً، الشرك الذي كان فيه قبل أن يسلم ما عده ديناً؛ لأن الصابئ: هو الذي انتقل من دين إلى دين آخر، فقال: (ما صبوت)، يعني: ما انتقلت من دين إلى دين، إنما انتقلت من الشرك وعدم الدين إلى الدين الحق، وهو الإسلام، هذه أحد الأوجه في معنى قوله: (صبوت)، هذا الدليل الأول.

الدليل الثاني: وفي الواقع أنني لم أر من استدل به منهم، لكنني أعتقد أنه يصلح دليلاً لهم، وهو ما ذكرته قبل قليل في رواية البخاري في الأسير يربط في المسجد: أن أبا هريرة ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأردت أن أوثقه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته، قال: فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم خاسئاً )، ما وجه الدلالة من هذا الحديث على جواز دخول الكافر أو المشرك إلى المسجد؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يربط الشيطان في سارية من سواري المسجد، حتى يصبحوا وينظروا إليه كلهم، ولم يمنعه من ذلك إلا أنه تذكر دعوة أخيه سليمان.

فدل هذا على جواز ربط الكافر الوثني المشرك أو غيره في المسجد.

لو قال لنا قائل: إن الشيطان يدخل في المسجد أصلاً بدون إذن المؤمنين ولا رضاهم ولا موافقتهم فكيف يحتج بهذا؟! فماذا نقول، ماذا نجيب على ذلك؟ نقول: صحيح أن الشيطان يدخل في المسجد ­كما ورد في أحاديث كثيرة، لكن إرادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد هذا أمر زائد على مجرد الدخول؛ لأنه إن ربطه النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بمستطيع أن يخرج من المسجد وينفك من ربط النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصبحوا، فكون الشيطان يستدام مربوطاً في المسجد دليل على جواز ذلك، ومن باب أولى: أنه يجوز أن يربط فيه المشرك أو الوثني أو غيرهما، فهذا مما يصلح -والله تعالى أعلم- دليلاً لهم.

من الأدلة أيضاً: قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، وهي في الصحيح، الذي ربط بعيره، ثم قال: أيكم محمد؟! والقصة في البخاري وغيره، وفيها: أن هذا الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وأركان الإسلام، وأسلم بعد ذلك، فكان وقت دخوله مشركاً، ومع ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة، ولم يخرجوه من المسجد.

ومن الأدلة على ذلك أيضاً: ما رواه أبو داود عن أبي هريرة : ( أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ) وكأن ذلك في قصة الرجل والمرأة اللذين زنيا من اليهود فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهما يحتكمون إليه، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الدخول.

ومن الأدلة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُنزل بعض الوفود في المسجد )، بعض الوفود من الكفار الذين يأتون للسؤال عن الإسلام أو لغير ذلك من الأغراض، كان يُنزلهم في المسجد، ومن الوفود التي أنزلها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد: وفد نجران .. نصارى نجران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنزلهم في المسجد، وكذلك وفد ثقيف أنزلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وهذه كلها معروفة عند أهل السير، ولو كان إنزالهم في المسجد محرماً لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن عدداً من المشركين كانوا يترددون على المسجد ويدخلون عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليهم، كما حدث لـأبي سفيان : دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وكذلك قصة عمير بن وهب الجمحي الذي جاء من أجل أن يغتال الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتله، فإنه دخل عليه وهو في المسجد.. إلى غير ذلك من الأحداث المعروفة المشهورة في السيرة.

فمن مجموع هذه الأدلة قالوا: إنه يجوز للكافر، وثنياً كان أو كتابياً أن يدخل المساجد مساجد المسلمين، إلا المسجد الحرام بـمكة فإنه لا يجوز دخوله؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] على خلاف في المسجد الحرام ما هو؟ أهو الحرم كله، أم المسجد، أم مكة؟

القول الثاني: عدم جواز دخول الكافر المساجد مطلقاً وأدلته

القول الثاني: منع الكافر من دخول المسجد؛ أياً كان الكافر وأياً كان المسجد، يعني: الكافر سواء كان كتابياً أو وثنياً، وسواء المسجد الحرام أو غيره من المساجد، وهذا هو مذهب أهل المدينة المشهور عن مالك واختاره المزني من الشافعية، وهو أحد الروايات عن الإمام أحمد كما يدل عليه كلام ابن القيم في أحكام أهل الذمة.

ولهم في ذلك أدلة: منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].

وجه الاستدلال بهذه الآية: قالوا: إن الله تعالى نبه على العلة بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وهذه العلة مصاحبة للمشرك في كل حال، فدلت على منعه من دخول المسجد، سواء كان المسجد الحرام أو غيره.

حتى قال ابن العربي رحمه الله: إن الاقتصار على منعه من المسجد الحرام بحجة قوله عز وجل: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:28] جمود على الظاهر، يقول: جمود على الظاهر؛ لأن الله تعالى نبه على العلة من المنع بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وهذه العلة تقتضي منعهم من المسجد الحرام ومن غيره من المساجد.

وكذلك مما استدلوا به قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، فإنهم قالوا: إن رفع المساجد وحفظها وتكريمها يقتضي منع الكفار من دخولها.

واستدل القرطبي لهم بما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول أو القذر )، والكافر والمشرك -يقول القرطبي - لا يخلو من شيء من ذلك، وفي الواقع يتضح لي جيداً أن وجه الاستدلال بهذا الحديث ليس بظاهر.

ومما استدلوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لا أُحل المسجد لحائض ولا جنب )، ما وجه الاستدلال بهذا الحديث؟

وجه الاستدلال أنهم قالوا: هذا من قياس الأولى؛ أنه إذا منعت الحائض ومنع الجنب من دخول المسجد فإن الكافر من باب الأولى؛ وذلك لأن الكافر نجس بنص القرآن: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وأما الحائض والجنب فإنهما طاهران بنص الحديث؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن المؤمن لا ينجس )، فقالوا: إذا مُنع الحائض والجنب من دخول المسجد فإن الكافر من باب الأولى، هذا وجه.

الوجه الثاني في استدلالهم بالحديث أن الكافر غالباً يكون جنباً؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة.

ومن أدلتهم: ما روي: ( أن أبا موسى كتب كتاباً إلى عمر فقرئ عليه في المسجد، وجاء أبو موسى، فطلب عمر الكاتب، فقال: يا أمير المؤمنين! إنه لا يدخل المسجد، قال ولم؟ قال: إنه نصراني )، وقد ذكر ابن القيم وغيره هذه القصة، وقال: دل على أن ذلك كان مشتهراً عند الصحابة؛ أن الكافر لا يدخل المسجد.

فهذه بعض الأدلة على تحريم دخول الكافر للمساجد.

وقد أجاب هؤلاء عن حديث ثمامة وما شابهه بأجوبة غير ناهضة:

منها: أن بعضهم ادعى النسخ؛ ادعى أنها منسوخة، ولا شك أن دعوى النسخ -كما سبق مراراً- تفتقر إلى معرفة المتقدم من المتأخر، وإلى أنه لا يمكن الجمع بينهما، يتعذر الجمع بينهما، فدعوى النسخ لا تصح.

وكذلك قال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم بإسلام ثمامة ، وهذا غريب! كيف يعلم بإسلامه ويربطه في المسجد ويسأله ثلاثة أيام: ما عندك فلا يخبره أنه مسلم؟! وحتى لو علم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه باطناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم بالباطن، إنما كان يحكم صلى الله عليه وسلم بالظاهر.

وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفه بذلك حتى يرى المسلمين ويرى صلاتهم فيستأنس بذلك ويكون هذا سبباً في إسلامه. وقيل غير ذلك من الأجوبة.

الراجح في حكم دخول الكافر المسجد

على كل حال الراجح في المسألة -والله تبارك وتعالى أعلم، من خلال استقراء الأدلة- أنه يجوز دخول الكافر للمسجد للحاجة والمصلحة من غير تفريق بين الكتابي والوثني، سواء كانت هذه الحاجة حاجة دينية مثل دعوته إلى الإسلام، أو حاجة دنيوية لنا أو له، الحاجة الدنيوية له هو مثل كونه يقوم بعمل، كإصلاح بناء -مثلاً- أو تكييف أو غير ذلك مما يحتاج إليه فيه، هذه مصلحة لنا نحن، والحاجة الدنيوية له هو مثل كونه محتاجاً إلى أخذ شيء من المسجد به قوام حياته وبقاؤه، وأيضاً: مثل كونه يريد حاجة من المسجد هو مأذون بها، مثلما لو كان يريد التقاضي، لو فرضنا أن القاضي في المسجد، القاضي كان يكون في المسجد أحياناً، فلو فرض أن القاضي طلبه في المسجد مع خصمه فدخل لذلك جاز، ومثله لو كان الإمام في المسجد، يعني: الإمام الحاكم السلطان المسلم في المسجد، وجاء رسول من الكفار بخبر أو برسالة إلى الحاكم واستدعى الأمر دخوله، فإنه يجوز دخوله حينئذ، وكأن هذا كان مشهوراً عند المسلمين في الصدر الأول.

الفرق بين الكافر والجنب من حيث حكم دخول المسجد

وحينئذ يأتي سؤال: ما هو الفرق بين الكافر والجنب؟ يعني: الآن الكافر يدخل والجنب المسلم لا يدخل؟ كيف يكون هذا؟!

بالمناسبة: حديث: ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) ضعيف وسبق معنا الحديث، فلا يحتج به، ما أدري أنا نوهت بهذا أو فاتني.

على أي حال الفرق بين الكافر والجنب: هو أن الجنب يمكن له أن يتطهر ويدخل المسجد، بخلاف الكافر فإنه لو اغتسل بماء البحر فإنه نَجس، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

ولذلك الحائض تمنع من دخول المسجد على اختلاف بين أهل العلم، لكن الأقرب منعها من دخول المسجد، بعضهم قال: لأنها قد تلوث المسجد بدمها، وبعضهم قال: لعدم طهارتها في تلك الحالة، يعني: لوجود الحدث عليها الموجب للغسل، ولذلك لو استثفرت عندهم وتحفظت وأمن تلويث المسجد فمع ذلك لا يجوز لها دخول المسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة -كما في صحيح مسلم -: ( إن حيضتك ليست في يدك ) ( لما أمرها أن تناوله الخمرة -الفراش الذي يقعد عليه- قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك ).

على كل حال الحائض لا تدخل المسجد لعدم الحاجة إلى ذلك، وهذا هو الراجح فيما يظهر.

إلا المسجد الحرام لا يدخل، لا يقرب المسجد الحرام أي نعم، وإن كان مبحث المسجد الحرام قد يأتي بشكل مفصل، فالآن قيدوا أنه يجوز دخولهم؛ في عامة المساجد للحاجة والمصلحة..

وهذا هو القول الأول، أما الترجيح بين مذهب أبي حنيفة ومذهب الباقين فلعله يأتي له مناسبة أوسع من هذه إن شاء الله تعالى.

وهذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه : كتاب: الصلاة، باب: الاغتسال في المسجد، وربط الأسير أيضاً في المسجد، هكذا في كتاب: الصلاة، باب: الاغتسال في المسجد وربط الأسير أيضاً في المسجد، وكأن هذه الترجمة التي ساق البخاري فيها الحديث كأنها ليست من وضع البخاري والله تعالى أعلم، ليس عليها بصمات أبي عبد الله ؛ فإن أبا عبد الله البخاري يحبك العناوين والتراجم حبكاً جيداً متميزاً، ولذلك قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.

أما هذه الترجمة فعليها مآخذ: (باب: الاغتسال وربط الأسير أيضاً في المسجد):

المأخذ الأول: أن الاغتسال ليس له مدخل في الباب الذي أوردها فيه، وهو كتاب الصلاة، فإن اغتسال الكافر إذا أسلم هذا الحكم يتعلق بباب الاغتسال في كتاب الطهارة، فإدخاله وإقحامه في كتاب الصلاة مما يلفت النظر، هذه واحدة.

الثانية: أنه قال: وربط الأسير أيضاً في المسجد، هذه الترجمة لها علاقة بكتاب الصلاة وبموضوع الصلاة والمساجد، لكن قوله: (وربط الأسير أيضاً في المسجد)، هذه يلاحظ عليها أنها مكررة مع الترجمة التي قبلها؛ لأن البخاري قال في الباب الذي قبله: (باب: الأسير أو الغريم يربط في المسجد)، وذكر فيه حديث أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأردت أن آخذه فأوثقه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: (( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ))[ص:35] فتركته، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم خاسئاً ).

ففي الحديث ربط الأسير في المسجد، ربط الأسير في المسجد، ولذلك في الترجمة التي عندنا الآن قال: (وربط الأسير أيضاً في المسجد)، يعني: كأنها ترجمة مكررة مع التي قبلها، هذا مأخذ آخر على الترجمة.

المأخذ الثالث: أنه جاء في بعض الروايات في صحيح البخاري قال: (باب) ثم ساق حديث ثمامة بن أثال، ولم يذكر لا باب الاغتسال إذا أسلم، ولا ربط الأسير في المسجد، قال: (باب)، ثم ساق الحديث، ولم يذكر مسألة الاغتسال ولا ربط الأسير.

الوجه الرابع: أنه عند الإسماعيلي ترجمة: (باب: دخول المشرك المسجد)، وساق فيه حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه، فكأن هذه الترجمة من وضع بعضهم أضافها إلى صحيح البخاري أو إلى صنيع الإمام البخاري، كأنها كذلك وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذا.

وأما مسلم رحمه الله فإنه قد روى الحديث في صحيحه : كتاب: الجهاد، باب: ربط الأسير وحبسه، والحديث رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

حديث ثمامة فيه قصة طويلة سبق أن مرت معنا في اغتسال الكافر إذا أسلم، باب: الغسل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل، وذكرت هناك قصة ثمامة بن أثال، وهي في الصحيحين، وفيها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة هو ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي -يا محمد- خير: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)، (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: مستحقاً للقتل؛ لأنه ربما يكون قتل من المسلمين، أو (ذا دم) يعني: أنه يطلب أهله وقومه بثأره إن قتلته، وقيل: (ذا ذم) بالذال، يعني: مذموماً أو ذا ذمة، يعني: ذمام ومكانة لدى قومه.

( وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرك، فلما كان من الغد مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من اليوم الثالث: مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة. فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد ) (إلى نخل) أي حائط أو بستان فيه ماء، وفي رواية: ( إلى نجل ) والنجل بالجيم المنقوطة: هو الماء القليل، كما في حديث عائشة في قصة الهجرة.

المهم: أنه ( ذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، يا رسول الله! والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، يا رسول الله! والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذته وهو قد أحرم بالعمرة، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فذهب واعتمر، فقال له قائل بـمكة : أصبوت؟ -وكانوا يسمون من دخل في الإسلام صابئاً- فقال: لا ما صبوت، ولكني تبعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

هذه هي قصة ثمامة بن أثال، وقصة ربطه في سارية من سواري المسجد.