خطب ومحاضرات
شرح سنن أبي داود [082]
الحلقة مفرغة
شرح حديث: (...إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً ...)
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً فصُرع عنه، فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) ].
قوله: [ باب الإمام يصلي من قعود ].
يعني: الإمام إذا صلى قاعداً كيف يصلي وراءه المأمومون؟ هل يصلون قعوداً أو يصلون قياماً؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فمنهم من قال: يصلون قعوداً أخذاً بحديث أنس هذا وغيره من الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وصلى معه جماعة من أصحابه قعوداً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وفي آخر الحديث قال: (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون).
ومن أهل العلم من قال: إذا صلى قاعداً فإنهم يصلون قياماً ولا يصلون قعوداً، واستدلوا على ذلك بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صلاة صلاها بأصحابه، فإنه صلى بهم وهو جالس، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد بدأ الصلاة، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم معه وهو في أولها، فصار رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الإمام وهو جالس، وأبو بكر عن يمينه قائم، والناس قيام، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكبر ويكبر أبو بكر بتكبيره، والناس يتّبعون تكبير أبي بكر رضي الله عنه.
قالوا: فهذه آخر صلاة صلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء في الأحاديث الصحيحة كحديث أنس وغيره من أنه صلى قاعداً وصلى وراءه قوم قعوداً، يكون المتأخر من الأحاديث ناسخاً للمتقدم.
ومعنى هذا أن الإمام إذا صلى قاعداً فالذين وراءه يصلون قياماً ولا يصلون قعوداً؛ استناداً إلى ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه في آخر صلاة صلّاها بأصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وهو جالس وصلوا وراءه قياماً.
ومن أهل العلم من ذهب إلى الجمع بين الأحاديث، بأنه إذا كان بدأ الصلاة قاعداً فإنهم يصلون وراءه قعوداً، وهذا هو الذي تدل عليه الأحاديث التي أوردها أبو داود في هذا الباب، كحديث أنس وعائشة وغيرهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً وصلى وراءه قوم قعوداً)، وأما إذا كانوا قد دخلوا في الصلاة وهم قيام، وإمامهم صلى قاعداً، كما جاء في قصة صلاته صلى الله عليه وسلم حيث جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكبّر وصار هو إمام الناس، فالقيام في الركعة الأولى حصل مع أبي بكر رضي الله عنه وهو إمامهم، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس عن يسار أبي بكر ، وصار يكبّر، وأبو بكر يكبّر بتكبيره، والناس يكبرون بتكبير أبي بكر.
وبهذا جمع بعض أهل العلم بين هذه الأحاديث.
والذي ينبغي أن الإمام إذا كان لا يستطيع أن يصلي بالناس إلا وهو جالس، فإن الأولى في حقه أن يمكّن غيره من الصلاة ويصلي هو وراءه قاعداً، فيكون في هذا احتياط في الدين وخروج من الخلاف.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب فرساً فصرع عنه فجُحِش شقه الأيمن) ].
يعني: أنه حصل له خدش أو حك وتألم منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يستطع بسبب ذلك أن يصلي قائماً.
وجاء في بعض الروايات: (أنه انفكت قدمه) كما سيأتي، ويمكن أن يكون الاثنان حصلا جميعاً، وأن تكون القصة واحدة، وإنما أحد الرواة ذَكَر بعض ما حصل، والآخر ذكر بعض ما حصل، فيكون كل ما جاء في الروايات قد حصل.
ومنهم من قال: إنهما واقعتان، الأولى: التي فيها ذكر انفكاك القدم، والثانية: التي فيها أن شقه الأيمن قد جُحش، أي: خدش.
قوله: [ (فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعوداً) ].
يعني: أن الصحابة صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، وصلوا وراءه وهم قعود، وقد جاء في بعض الروايات أنه أشار إليهم أن يجلسوا، وقال: (إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على رءوس ملوكهم وهم جلوس).
فالشاهد: أنه أشار إليهم أن يجلسوا فجلسوا، وكانوا يصلون بصلاته وهو قاعد وهم قعود.
قوله: [ (فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به) ].
أي: فلما فرغ من صلاته قال لهم: (إنما جُعل الإمام ليؤتّم به)يعني: أن المقصود من الإمام أنه يؤتم به ويقتدى به، ثم بيّن عليه الصلاة والسلام كيفية الاقتداء بالإمام فقال: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً)، أي: إذا صلى الإمام قائماً، فصلّوا أنتم معه قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا معه قعوداً.
قوله: [ (وإذا ركع فاركعوا) ].
أي: بعد أن يأخذ في الركوع فتابعوه، ولا تسبقوه ولا تتأخروا عنه، ولا توافقوه بأن يكون ركوعكم مع ركوعه في آن واحد، بل هو يتقدمكم، بحيث تركعون معه إذا أخذ في الركوع واستقر في الركوع، وليس المقصود أنه إذا فرغ من الركوع.
فإذاً: على الإنسان إذا كان يرى الإمام قد استقر راكعاً فإنه يتابعه، وإذا كان لا يراه وسمع صوته قد انقطع بالتكبير، فإنه يهوي إلى الركوع.
قوله: [ (وإذا رفع فارفعوا) ].
أي: وإذا رفع من الركوع فارفعوا، وهو كالركوع، فلا تسابقوه ولا توافقوه ولا تتأخروا عنه؛ لأن أحوال المأمومين مع الإمام في الائتمام أربع حالات:
مسابقة، وتأخر، وهذان متقابلان، وقد نُهي عنهما.
ثم موافقة: وهي أن توافق حركة المأموم حركة الإمام، بحيث لا يسبق أحدهما الآخر، وهذه منهي عنها.
الحالة الرابعة: المتابعة، وهي المشروعة التي بيّنها صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإذا ركع فاركعوا).
قوله: [ (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) ].
يعني: أنهم يفعلون مثل ما يفعل الإمام، فيكبرون كما يكبر، ويركعون كما يركع، ويسجدون كما يسجد، ويقولون مثل ما يقول بالنسبة للتكبير، مثل: تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال؛ لأن كل أحوال الصلاة في الانتقال ليس هناك إلا التكبير، إلا عند الرفع من الركوع فإنه يقول فيه الإمام والمنفرد: سمع الله لمن حمده، وأما المأموم فيقول: ربنا ولك الحمد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ومعناه: أنتم تقولون شيئاً، وهو يقول شيئاً آخر، فلا توافقوه فيما يقول في هذه الحالة، وهذا هو الذي يدل عليه هذا الحديث، والدلالة واضحة.
وبعض أهل العلم قال: إن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد، ويستدل على ذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)، وهو يقول: سمع الله لمن حمده، فمن وراءه يقول: سمع الله لمن حمده.
فنقول: لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن في هذا الحديث أن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده، حيث أنه ذكر ما يفعله الإمام وما يفعله المأموم، وما يقوله الإمام وما يقوله المأموم، ولم يذكر أن المأموم يقول كما يقول الإمام عند قول: سمع الله لمن حمده، وإنما يقول المأموم: ربنا ولك الحمد، وهذا الذي يقتضيه الحديث، وهو نصّ في المقصود والمطلوب.
وأما حديث: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)، وهو الذي استدل به بعض أهل العلم على أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده، فأخرج منه ذلك بهذا البيان، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) لكن عند قوله: حي على الصلاة، حيّ على الفلاح جاء أنه لا يقول مثلما يقول المؤذن، وإنما يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من جنس الأول، فهو مستثنى بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد).
قوله: [ (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) ].
وهذا سبقت الإشارة إليه وهو المقصود من الترجمة.
تراجم رجال إسناد حديث: (... إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً ... )
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .
[ عن مالك ].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن شهاب ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أنس بن مالك ].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
و ابن شهاب من صغار التابعين، وأنس رضي الله عنه من صغار الصحابة، ولذلك يوجد من صغار التابعين من يروي عن بعض صغار الصحابة؛ لأن صغار التابعين أدركوا صغار الصحابة الذين تأخرت وفاتهم.
شرح حديث: (... إذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً وإذا صلى الإمام قائماً فصلوا قياماً ...)
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرعه فرسه على جذم نخلة، يعني: على أصلها أي جذعها، فانفكت قدمه، وهذا فيه أن القدم انفكت، والحديث الأول فيه: أن شقه الأيمن جُحش، يعني: خُدش، وعرفنا أن كلاً من الراويين ذكر شيئاً مما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من قال: يحتمل أن تكون واقعتين مختلفتين.
في هذا الحديث أنهم جاءوا ووجدوه يسبّح، يعني: يصلي نافلة؛ لأن النافلة يقال لها: سُبحة، ومنه الحديث الذي فيه: (ولم يسبّح بينهما)، يعني: أنه بين الصلاتين التي يُجمع بينهما كالظهر والعصر، أو المغرب والعشاء لم يكن يتنفل بينهما.
قوله: [ (يسبح جالساً) ] يعني: يصلي جالساً.
قوله: [ (فقمنا خلفه) ]، أي: يصلون.
قوله: [ (فسكت) ]، يعني: لم ينههم عن ذلك.
قوله: [ (ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالساً، فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا، فلما قضى الصلاة قال: إذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً، وإذا صلى الإمام قائماً فصلوا قياماً) ] يعني: تابعوا الإمام في جلوسه وفي قيامه.
قوله: [ (ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها) ].
يعني: أنهم يقومون على رءوسهم وهم جلوس، وقد جاء في صحيح مسلم : (إن كدتم آنفاً أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على رءوس ملوكهم وهم قعود).
وهذا فيه دليل على أن القيام على الرؤساء والملوك لا يجوز، إلا فيما إذا كان يحضره العدو من أجل يرى هيبة احتفائهم بالإمام واهتمامهم بالإمام؛ لأن هذا حصل في صلح الحديبية لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً والمغيرة بن شعبة قائم على رأسه.
فهذا يدل على أنه إذا حصل مثل ذلك لا بأس به، ولكن كونه يتخذ ذلك ديدناً وطريقة فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر هذا.
وهو يدل على أن الإمام إذا صلى قاعداً فالناس يصلون وراءه قعوداً، وجاء أنه في المكتوبة، أما بالنسبة للنافلة فقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت عنهم، فجاء أنهم صلوا بعده الصلاة جلوساً في المكتوبة، والمكتوبة أهم من النافلة، مع أن النافلة يجوز أن تصلى عن قعود ولو كان الإنسان قادراً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الجالس على النصف من صلاة القائم) يعني: إذا جلس وهو يقدر على القيام.
إذاً: فكون الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بهم جالساً في المكتوبة وهي أهم من النافلة دل ذلك على صحة ذلك، وفيه الكلام الذي ذكرته فيما مضى من أن بعض أهل العلم ذهب إلى أنهم يصلون جلوساً وبعضهم قال: يصلون قياماً، وبعضهم يقول: يفصل بين بدئهم الصلاة قياماً وبدئهم الصلاة جلوساً، فإذا بدءوا الصلاة جلوساً يستمرون جلوساً، وإذا بدءوا الصلاة قياماً يتمون الصلاة قياماً تبعاً للإمام.
تراجم رجال إسناد حديث: (... إذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً وإذا صلى الإمام قائماً فصلوا قياماً...)
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[ حدثنا جرير ].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ووكيع ].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الأعمش ].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سفيان ].
هو طلحة بن نافع وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (... وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)
قال أبو داود : اللهم ربنا لك الحمد، أفهَمَني بعض أصحابنا عن سليمان ].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وهذه قضية عامة ما بعدها كله تفسير لها.
ثم إن متابعة الإمام والائتمام إنما يكون في التقدم والتأخر والركوع والسجود، وكذلك في الجلوس والقيام، وأما الأمور الأخرى التي هي سنن ومستحبات فالإنسان يفعل السنة، وسواء فعلها الإمام أو لم يفعلها، فإذا كان بعض الأئمة لا يرفع يديه عند التكبير عند الركوع والرفع منه والقيام من التشهد الأول فالمأموم له أن يرفع يديه؛ لأن هذه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام لا ينبغي له أن يتركها، فمثل هذه الأمور لا يقال: إن الإنسان يتابع إمامه؛ لأن هذا يلزم منه أنه يعرف طريقة إمامه قبل أن يصلي وراءه، وهل يفعلها أو لا يفعلها.
فإذاً: المتابعة إنما تكون بالقيام والقعود والركوع والسجود وما إلى ذلك.
قوله: [ (فإذا كبر فكبروا) ] يعني: إذا كبر الإمام للإحرام أو كبر للانتقال عند كل خفض ورفع فإنه يكبر بتكبيره المأموم، إلا عند الرفع من الركوع فإن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، والمأموم يقول: ربنا ولك الحمد، وكذلك أيضاً الإمام يقول: ربنا ولك الحمد.
فإذاً: المفهوم من قوله: (إذا كبر فكبروا) يعني: أنهم لا يسبقونه وأنهم يكبرون وراءه، فأكد ذلك بقوله: (ولا تكبروا حتى يكبر) وهو لو لم يأت بهذه الجملة لكان قوله: (إذا كبر فكبروا) كافياً، لكن هذا زيادة تأكيد، ولهذا بعض الأحاديث التي مرت: (إذا ركع فاركعوا) وليس فيها: (ولا تركعوا حتى يركع) وكذلك: (وإذا سجدوا فاسجدوا) وليس فيها: (ولا تسجدوا حتى يسجد) يعني: أن هذا من باب التأكيد.
قوله: [ (وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع) ].
نعم مثله.
قوله: [ (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، قال
أي: أن قوله: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) من طريق سليمان بن حرب شيخه الأول، وقوله: (اللهم ربنا ولك الحمد) من طريق مسلم بن إبراهيم .
قوله: [ (وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون) ].
هذه الجملة الأخيرة هي محل الشاهد للترجمة.
[ قال أبو داود : (اللهم ربنا لك الحمد، أفهمني بعض أصحابنا عن
يعني: لما ذكر أبو داود الحديث من طريق شيخيه: سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم ، وكان قد أخذ عن شيخيه لفظ الحديث كاملاً، إلا أنه في روايته عن سليمان بن حرب شيخه الأول لم يضبط لفظ: (اللهم ربنا لك الحمد) ، إما أن يكون ما سمعها، أو أنه سمع منه ولكنه لم يفهمه فأفهمه بعض أصحابه الذين كانوا يتلقون معه من شيخهم سليمان بن حرب ، وقال: إنه قال كذا، وهذا من الاحتياط والتوقي والإتقان والعناية من أبي داود رحمه الله.
تراجم رجال إسناد حديث: (... وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ ومسلم بن إبراهيم ].
مسلم بن إبراهيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ المعنى ].
يعني: المعنى واحد، والألفاظ مختلفة.
[ عن وهيب ].
هو وهيب بن خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن مصعب بن محمد ].
مصعب بن محمد لا بأس به، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن أبي صالح ].
هو أبو صالح ذكوان السمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأحاديث الثلاثة التي مرّت عن أنس ، وعن جابر ، وعن أبي هريرة ، هؤلاء الثلاثة كلّهم من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث (... وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون) من طريق أخرى
قال أبو داود : وهذه الزيادة: (إذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد ].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم، إلا أن فيها زيادة: (وإذا قرأ فأنصتوا) قال أبو داود : وهذه الزيادة غير محفوظة والوهم فيها عندنا من أبي خالد الذي هو أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان شيخ شيخه، ولكن المنذري تعقب هذا وقال: إن هذا فيه نظر؛ لأن أبا خالد الأحمر قد توبع على ذلك، وقد جاء من حديث آخر غير هذا الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا قرأ فأنصتوا)، وقد جاء عن مسلم رحمه الله أنه سئل عن حديث سليمان بن طرخان التيمي الذي فيه: (وإذا قرأ فأنصتوا) أليس هذا بصحيح؟ فقال: نعم صحيح، قالوا: لماذا لم تضعه في الصحيح، قال: ليس كل حديث صحيح وضعته، فهو حكم بصحته وأشار إلى ذلك في صحيحه عندما سئل عنه، وكما هو معلوم أن البخاري ومسلماً لم يلتزما أن يخرجا كل حديث صحيح، وما أكثر الأحاديث الصحيحة التي لم يخرجها الشيخان.
وعلى هذا فالحديث من حديث أبي هريرة وغيره، وجاء أيضاً من حديث أبي خالد ، وقد توبع جاء من طريق سليمان بن طرخان التيمي الذي حكم مسلم بصحته، وقال: إنه صحيح، ثم أيضاً هو المطابق للفظ القرآن: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] فالإنصات مطلوب، من الإنسان عندما يقرأ الإمام في الصلاة، ولكن يستثنى من ذلك قراءة الفاتحة فإن الصحيح أن المأموم يقرأ الفاتحة، والإمام يقرأ السورة، وهذه مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك لما قال : (ما لي أنازع القراءة لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) يعني: لا تقرءوا والإمام يقرأ إلا بفاتحة الكتاب، فهذا يدل على أن فاتحة الكتاب مستثناة، وأما غير فاتحة الكتاب فعلى المأموم أن ينصت ولا يقرأ شيئاً.
تراجم رجال إسناد حديث (... وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون) من طريق أخرى
هو محمد بن آدم المصيصي الجهني وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي .
[ حدثنا أبو خالد ].
هو أبو خالد الأحمر واسمه سليمان بن حيان وهو صدوق يخطئ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عجلان ].
هو محمد بن عجلان المدني وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن زيد بن أسلم ].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (... إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)
قال المصنف رحمه الله تعالى : [ باب الإمام يصلي من قعود.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً فصُرع عنه، فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) ].
قوله: [ باب الإمام يصلي من قعود ].
يعني: الإمام إذا صلى قاعداً كيف يصلي وراءه المأمومون؟ هل يصلون قعوداً أو يصلون قياماً؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فمنهم من قال: يصلون قعوداً أخذاً بحديث أنس هذا وغيره من الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وصلى معه جماعة من أصحابه قعوداً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وفي آخر الحديث قال: (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون).
ومن أهل العلم من قال: إذا صلى قاعداً فإنهم يصلون قياماً ولا يصلون قعوداً، واستدلوا على ذلك بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صلاة صلاها بأصحابه، فإنه صلى بهم وهو جالس، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد بدأ الصلاة، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم معه وهو في أولها، فصار رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الإمام وهو جالس، وأبو بكر عن يمينه قائم، والناس قيام، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكبر ويكبر أبو بكر بتكبيره، والناس يتّبعون تكبير أبي بكر رضي الله عنه.
قالوا: فهذه آخر صلاة صلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء في الأحاديث الصحيحة كحديث أنس وغيره من أنه صلى قاعداً وصلى وراءه قوم قعوداً، يكون المتأخر من الأحاديث ناسخاً للمتقدم.
ومعنى هذا أن الإمام إذا صلى قاعداً فالذين وراءه يصلون قياماً ولا يصلون قعوداً؛ استناداً إلى ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه في آخر صلاة صلّاها بأصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وهو جالس وصلوا وراءه قياماً.
ومن أهل العلم من ذهب إلى الجمع بين الأحاديث، بأنه إذا كان بدأ الصلاة قاعداً فإنهم يصلون وراءه قعوداً، وهذا هو الذي تدل عليه الأحاديث التي أوردها أبو داود في هذا الباب، كحديث أنس وعائشة وغيرهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً وصلى وراءه قوم قعوداً)، وأما إذا كانوا قد دخلوا في الصلاة وهم قيام، وإمامهم صلى قاعداً، كما جاء في قصة صلاته صلى الله عليه وسلم حيث جاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكبّر وصار هو إمام الناس، فالقيام في الركعة الأولى حصل مع أبي بكر رضي الله عنه وهو إمامهم، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس عن يسار أبي بكر ، وصار يكبّر، وأبو بكر يكبّر بتكبيره، والناس يكبرون بتكبير أبي بكر.
وبهذا جمع بعض أهل العلم بين هذه الأحاديث.
والذي ينبغي أن الإمام إذا كان لا يستطيع أن يصلي بالناس إلا وهو جالس، فإن الأولى في حقه أن يمكّن غيره من الصلاة ويصلي هو وراءه قاعداً، فيكون في هذا احتياط في الدين وخروج من الخلاف.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب فرساً فصرع عنه فجُحِش شقه الأيمن) ].
يعني: أنه حصل له خدش أو حك وتألم منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يستطع بسبب ذلك أن يصلي قائماً.
وجاء في بعض الروايات: (أنه انفكت قدمه) كما سيأتي، ويمكن أن يكون الاثنان حصلا جميعاً، وأن تكون القصة واحدة، وإنما أحد الرواة ذَكَر بعض ما حصل، والآخر ذكر بعض ما حصل، فيكون كل ما جاء في الروايات قد حصل.
ومنهم من قال: إنهما واقعتان، الأولى: التي فيها ذكر انفكاك القدم، والثانية: التي فيها أن شقه الأيمن قد جُحش، أي: خدش.
قوله: [ (فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد، وصلينا وراءه قعوداً) ].
يعني: أن الصحابة صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، وصلوا وراءه وهم قعود، وقد جاء في بعض الروايات أنه أشار إليهم أن يجلسوا، وقال: (إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على رءوس ملوكهم وهم جلوس).
فالشاهد: أنه أشار إليهم أن يجلسوا فجلسوا، وكانوا يصلون بصلاته وهو قاعد وهم قعود.
قوله: [ (فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به) ].
أي: فلما فرغ من صلاته قال لهم: (إنما جُعل الإمام ليؤتّم به)يعني: أن المقصود من الإمام أنه يؤتم به ويقتدى به، ثم بيّن عليه الصلاة والسلام كيفية الاقتداء بالإمام فقال: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً)، أي: إذا صلى الإمام قائماً، فصلّوا أنتم معه قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا معه قعوداً.
قوله: [ (وإذا ركع فاركعوا) ].
أي: بعد أن يأخذ في الركوع فتابعوه، ولا تسبقوه ولا تتأخروا عنه، ولا توافقوه بأن يكون ركوعكم مع ركوعه في آن واحد، بل هو يتقدمكم، بحيث تركعون معه إذا أخذ في الركوع واستقر في الركوع، وليس المقصود أنه إذا فرغ من الركوع.
فإذاً: على الإنسان إذا كان يرى الإمام قد استقر راكعاً فإنه يتابعه، وإذا كان لا يراه وسمع صوته قد انقطع بالتكبير، فإنه يهوي إلى الركوع.
قوله: [ (وإذا رفع فارفعوا) ].
أي: وإذا رفع من الركوع فارفعوا، وهو كالركوع، فلا تسابقوه ولا توافقوه ولا تتأخروا عنه؛ لأن أحوال المأمومين مع الإمام في الائتمام أربع حالات:
مسابقة، وتأخر، وهذان متقابلان، وقد نُهي عنهما.
ثم موافقة: وهي أن توافق حركة المأموم حركة الإمام، بحيث لا يسبق أحدهما الآخر، وهذه منهي عنها.
الحالة الرابعة: المتابعة، وهي المشروعة التي بيّنها صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإذا ركع فاركعوا).
قوله: [ (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) ].
يعني: أنهم يفعلون مثل ما يفعل الإمام، فيكبرون كما يكبر، ويركعون كما يركع، ويسجدون كما يسجد، ويقولون مثل ما يقول بالنسبة للتكبير، مثل: تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال؛ لأن كل أحوال الصلاة في الانتقال ليس هناك إلا التكبير، إلا عند الرفع من الركوع فإنه يقول فيه الإمام والمنفرد: سمع الله لمن حمده، وأما المأموم فيقول: ربنا ولك الحمد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ومعناه: أنتم تقولون شيئاً، وهو يقول شيئاً آخر، فلا توافقوه فيما يقول في هذه الحالة، وهذا هو الذي يدل عليه هذا الحديث، والدلالة واضحة.
وبعض أهل العلم قال: إن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد، ويستدل على ذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)، وهو يقول: سمع الله لمن حمده، فمن وراءه يقول: سمع الله لمن حمده.
فنقول: لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن في هذا الحديث أن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده، حيث أنه ذكر ما يفعله الإمام وما يفعله المأموم، وما يقوله الإمام وما يقوله المأموم، ولم يذكر أن المأموم يقول كما يقول الإمام عند قول: سمع الله لمن حمده، وإنما يقول المأموم: ربنا ولك الحمد، وهذا الذي يقتضيه الحديث، وهو نصّ في المقصود والمطلوب.
وأما حديث: (صلّوا كما رأيتموني أصلي)، وهو الذي استدل به بعض أهل العلم على أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده، فأخرج منه ذلك بهذا البيان، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) لكن عند قوله: حي على الصلاة، حيّ على الفلاح جاء أنه لا يقول مثلما يقول المؤذن، وإنما يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من جنس الأول، فهو مستثنى بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد).
قوله: [ (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) ].
وهذا سبقت الإشارة إليه وهو المقصود من الترجمة.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح سنن أبي داود [139] | 2893 استماع |
شرح سنن أبي داود [462] | 2845 استماع |
شرح سنن أبي داود [106] | 2839 استماع |
شرح سنن أبي داود [032] | 2733 استماع |
شرح سنن أبي داود [482] | 2704 استماع |
شرح سنن أبي داود [529] | 2695 استماع |
شرح سنن أبي داود [555] | 2690 استماع |
شرح سنن أبي داود [177] | 2681 استماع |
شرح سنن أبي داود [097] | 2656 استماع |
شرح سنن أبي داود [273] | 2652 استماع |