فيروس الوقت


الحلقة مفرغة

دلت نصوص الكتاب والسنة على مشروعية التوارث، وأسبابه: النسب والنكاح والولاء، وموانعه: الكفر والقتل والرق والزنا واللعان، وشروطه: عدم وجود مانع من موانع الإرث، والتحقق من موت الموروث ولو حكماً، وأن يكون الوارث حياً يوم موت مورثه، كما أنه لا وصية لوارث.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

معاشر المؤمنين: لقد ابتلينا في هذا الزمان ببلية أفسدت علينا أوقاتنا، وضيعت علينا ساعاتنا، وأشغلتنا بأدنى الأمور دون أعلاها، وكثيرٌ منا خادع نفسه وظن أنه يحسن فيما يفعل صنعاً، لقد ابتلي الكثير منا ببليةٍ جعلته يهجر أولاده وزوجه، ويضيع بيته، وينام عن فريضة ربه، لقد ابتلي كثيرٌ من المسلمين بهذه البلية إلى درجةٍ أفسدت عليه صلاته ودنياه، جعلته كسولاً متأخراً، متواكلاً، لا تراه إلا في مؤخرة الركب أو ذنب القافلة، وإنها لبليةٌ لم تفرض نفسها علينا ولم ترم بجرانها على صدورنا، وإنما باختيارنا فعلناها وبإرادتنا زاولناها، وباختيارنا أن نقلع عنها وأن نهجرها ونتركها، ويبقى من احتاج إليها بحدود إرادته، وبقدر ضرورته حينما تكون المصلحة راجحة والمفسدة غائبة، أتدرون ما هذه البلية؟

يقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس:67] ويقول عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم:23] ويقول عز وجل أيضاً: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر:61] ويقول عز وجل أيضاً: أَلَمْ يَرَوْا أنا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل:86] ويقول عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً [الفرقان:47].

تضييع المرء لمن يعول

أيها الأحبة: لعلكم من خلال هذه الآيات البينات الواضحات عرفتم ما هي البلية التي ابتلي بها كثير من الناس باختياره؛ ألا وهي السهر بالليل، ومكابدة المجالس، ومتابعة المواعيد واللقاءات إلى وقتٍ متأخر لا يأوي الواحد فيه إلى بيته إلا بعد أن يمضي الليل نصفه أو أكثر من نصفه، ثم يعود الواحد إلى بيته وقد طال على أبنائه السهاد، يرجون أباهم أو وليهم أن يقدم عليهم لحظةً أو لحظاتٍ يجلس فيها يسأل عن دروسهم، يتفقد حاجاتهم، يوجههم أو يؤدبهم، يعلمهم أو يربيهم، يمازحهم أو يلاعبهم، يضاحكهم أو يداعبهم، ينتظرون أباهم ليروا ابتساماته مشرقةً في وجه زوجته وأطفاله، ولكن حتى إذا استيئسوا من مجيئه وغلبهم السهاد وأسلمهم الرقاد؛ ناموا يائسين من عودة أبيهم إلا في وقتٍ متأخرٍ من الليل.

فإذا جاء ذلك الرجل أباً كان أو شاباً أو عازباً أو متزوجاً، إذا عاد وقد أسلم القوم أعينهم لنومٍ سبات، جاء وحده يتسلل لواذاً، يلتفت يمنةً ويسرة، ثم رمى بجنبه على فراشه، قد أنهكه الإعياء والتعب والسهر، وأنى له أن يتوضأ قبل نومه بعد سهرٍ طويل، الغالب فيه القيل والقال، وأنى له أن يصلي ركعاتٍ بخشوعٍ وهجوعٍ بعد سهرٍ طويل الغالب فيه الكلام في الأعراض، أو في علان وفلان، وأنى له أن يسجد ويقنت وأن يوتر ويدعو بعد سهرٍ طويل الغالب فيه -إلا من رحم الله- النظر إلى الأفلام والشاشات والمسلسلات عبر مختلف القنوات، فيرمي بنفسه ضجعة الغافلين، فينادى للصلاة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم، فلا تجد إلى أذنه سبيلاً، وأنى لها أن تجد السبيل إلى أذن الساهر اللاهي الغافل وقد ملأ فؤاده وقلبه البارحة بألوان الصور ومختلف الكلمات الساقطة، والعبارات الرديئة، أو الكلام فيما لا يعنيه، أو الاشتغال فيما لا ينفع دينه ودنياه، وأنى لها كلمات النداء أن تجد إلى أذنه وقلبه سبيلاً وقد عقد الشيطان على قافيته عقداً ثلاثاً، وقال له: عليك ليلٌ طويلٌ فنم، وربما جاءت أمه العجوز، أو أمه الفتية، أو والده يوقظانه للصلاة، فيخور كما يخور الثور عند المذبح، يتقلب يمنةً ويسرة، فلا يبرحان يفارقانه، أو لا يلبثان يفارقانه حتى يعود في غطيطه ونومه وسباته، في نومةٍ طويلةٍ سبقتها معصيةٌ أو لهوٌ أو غفلة، ومرت بقعودٍ عن ساعات فضيلة، واكتنفتها معصية وهي ترك صلاة الفجر، تركها إثم عظيم، ولكم أن تحسبوا نسبة الحاضرين الصلوات إلى الذين يشهدونها صلاة الفجر، أين المصلين في صلاة الفجر؟ هل زاغت عنهم الأبصار؟ هل تخطفتهم سهام المنون؟ هل نزلت بهم المقادير فأعاقتهم عن القيام والخروج إلى العبادة؟ أهم من ذوي الأعذار؟

الجواب: لا، ولكنه السهر، ولكنه الحديث الطويل والقيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال، وما أكثر الذين يسهرون! لو دعوا إلى حلقة من حلق الذكر لأبوها، ولو دعوا إلى شفاعةٍ أو نجدةٍ لمسلمٍ لتثاقلوا وقعدوا عنها، ولو دعوا إلى أمرٍ رشيدٍ لسوفوا وعللوا، ولكن السهر للكلام والقيل والقال والسماع والمشاهدة والرؤية وتتبع القنوات والمسلسلات والأفلام تهون فيه الساعات، أما إذا دخل في السهر لعب الورق ذلك الفيروس الذي يسري في دماء بعض الناس سرياناً يجعله يكابد السهر ويغالب النوم ويصارع السنة، وربما غسل وجهه مرتين أو ثلاثاً من أجل أن ينشط على جودة لعبه حذراً من أن يفوقه اللاعبون أو يغلبوه.

فوات أفضل أوقات العبادة عليهم

أما العبادة .. أين الذين: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] لأنهم يعملون بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها، نعم قد يزور الواحد شيئاً من الساعة تزيد أو تنقص قليلاً إجابة لدعوة، زيارةً لمريض ، إعانةً لذي حاجة، قياماً بواجب، عملاً بأمر فيه مصلحة، لا بأس، أما أن يمر بعد العشاء ثلاث ساعات وأربع ساعات وخمس ساعات والواحد يجول الطرقات والأسواق والممرات والمجالس وغيرها حتى يأوي إلى بيت قعيدته الحسيرة الكسيرة، فإذا أقبل إليها وهي تنتظر وجهاً مشرقاً، أو جبيناً طلقاً، أو ابتسامة ولو متواضعة، أعرض ونأى بجانبه، وجعل وجهه إلى جدارٍ حتى يقول لها: لا تسألي أين كنت البارحة.

إن هذا بلاء وداء عضال ومرضٌ خبيث، إن كثيراً من الذين فشلوا في دراساتهم ليس بغباء في عقولهم، ولا بقصورٍ في إدراكهم، ولا بعجزٍ عن أن يبلغوا ما بلغه المعلمون من أترابهم وأمثالههم، ولكنه السهر أشغلهم بالليل فتثاقلوا عن طلب العلم في الصباح، فتعلموا على وسادة الغفلة، وعلى فرش اللهو، ثم إذا أصبح أحدهم تعلل بالمرض والتعب والألم وما إلى ذلك، فإذا جاء آخر العام تأوه وعض أصابع الندم:

ومن زرع البذور وما سقـاها     تأوه نادماً وقت الحصاد

وإن آخرين فصلوا من أعمالهم، وما كان ذاك بسبب قصورٍ أو ضعفٍ في العلم والإدراك، ولكنه السهر يجاملون بعضهم، تعال يا فلان! اجلس معنا، لا يضرك، ساعة، تعود بعد قليل، فيئوب إلى بيته متأخراً، وعن صلاة الفجر يقعد على فراشه، وفي صبيحة يومه يسلم جنبه لنومٍ عميق يترك فيه عمله، فيتكرر هذا التأخر وهذا الكسل، ويكذب في اليوم الأول بعذرٍ مفتعلٍ مفترى، ويكذب في الثاني، ويفتري في الثالث حتى تنتهي الكذبات وتنتهي الأعذار، ثم لا يلبث أن يسلم نفسه لاستسلام لقرارٍ خطير وهو فصله والسبب هو: السهر!

لذا أيها الأحبة! وهذا الأمر قد يشترك فيه كثيرٌ من الناس حتى من الصالحين أو ممن يذكرون بصلاح، فإن البعض هداهم الله يسهرون سهراً ربما أفضى وأدى إلى ترك صلاة الفجر مع الجماعة، إن بعضهم لا يتركها قاصداً ولا مختاراً، ومعاذ الله أن يكون ذلك منه، ولكنه يجني طائعاً ومريداً مختاراً في هذا السهر، وإنك لا تجني من الشوك العنب، أتريد أن تسهر الليل كله في قيل وقال، وسمرٍ وحديثٍ لا ينتهي، ثم تسلم جنبك بعد تعبٍ من نهارٍ وليلٍ طويل إلى فراشٍ تريد بعده أن تستيقظ نشيطاً لصلاة الفجر؟! هيهات ما أبعد ما تكابد!!

فوات دنياهم عليهم

أيها الأحبة! إن الله عز وجل مَنَّ علينا بليل ونهار: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص:71-72].

إن هذا الليل والنهار قد فصل الله فيه الأحوال والأحكام، وجعل الليل سكناً والنهار معاشاً، جعل الليل راحة وطمأنينة وجعل النهار مرتعاً خصباً للأعمال، وبذل الأسباب في طلب الرزق، وإن من اعتاد سهر الليل بدون عبادة أو دون حاجة، فقد خالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إنه لا يزال -وقد يعد هذا ضربٌ من أضرب الخيال- ولله الحمد والمنة في مجتمعنا هذا أناساً إذا أوى العابثون واللاهثون والغافلون إلى فرشهم، فحينها يعرف أقوامٌ بأنهم انتصبوا في تهجد تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] يتقلبون على الفرش إذا مضى نصف الليل كما تتقلب الحبة على المقلاة، كأنما الواحد على جمر أو حديدة محمية، ولا يطيب له نوم أو تغمض له عين أو يهدأ له بال، حتى ينهض ويجافي مضجعه ويتوضأ ثم يقبل بوجهه إلى ربه راكعاً ساجداً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ولله الحمد والمنة إن أناساً لا يزالون في هذا المجتمع وهم بإذن الله بركة لهذه الأمة، وبرحمة الله خير لهذه الأمة، ولولا شيوخٌ وعجائز ركع، وبهائم رتع، وأطفال رضع؛ لأصاب القوم من البلاء ما الله به عليم، ولكن بعد رحمة الله مما يدفع البلاء عن الأمم كثرة الصالحين، والعناية بهذا الأمر.

أيها الأحبة! إن هذا النوم جعل الله فيه من الوظائف العظيمة الشيء الكثير، ولكن الذين يصرون على السهر ويخالفون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وينامون عن صلاة الفجر مع الجماعة فيصلونها بعد طلوع الشمس: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] إنهم لا يتركونها ولكنهم يؤخرونها عن وقتها توعدهم الله بويل وهو عذابٌ شديد.

إن السهر أيها الأحبة يحرم العبد فضائل الصلاة مع الجماعة، وتعلمون أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله، وقيام الليل يطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار كما في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

ثم أيها الأحبة! إن في هذا السهر من تعويد النفس على الاهتمام بالسفاسف، والاشتغال بما لا ينفع، وتضييع الخير الكثير الذي جعل بركة للأمة في بكورها ما الله به عليم، هل وجدتم الساهرين يغدون مع الطيور في الصباح الباكر طلباً للبركات والخيرات والأرزاق؟ (بورك لأمتي في بكورها) وفي بداية كل أمر خير، لكن الساهرين يحرمون من هذا.

لا بأس بالمباح في حدود

فيا أيها الأحبة! لو سألنا أنفسنا ما الذي نجنيه من هذا السهر؟

سيجيب البعض قائلاً: إنها مناسبات ولقاءات ومواعيد نضطر لإجابتها، أقول أيها الحبيب: ليس من ضرورة هذه المناسبات إن كان لا بد منها أن نسهر فيها إلى آخر الليل، ساعة أو ساعة ونصف بعد صلاة العشاء، ثم عد إلى بيتك كما يعود الجنود إلى ثكناتهم، ثم عد إلى دارك وسابق الساعة بدقائقها حتى تدرك من أطفالك لحظاتٍ قبل أن يناموا ويبيتوا، إن كثيراً من الآباء هداهم الله ربما لا يرى أولاده في الليل والنهار إلا لحظة من العصر، أو عند الغداء، وما ذاك إلا لأنه نائم وقت خروجهم للمدارس، ويعود وقت الظهيرة أو عند العصر من عمله، وبعضهم ربما كان نائماً، ثم يخرج بعد العصر إلى مجالسه وصداقاته فيسهر ويعود إلى بيته وقد وجدهم نائمين، فبالله متى يربيهم؟ متى يوجههم؟ متى يعلمهم ويرشدهم؟ ناهيك عن كثيرٍ من الآباء الذين سيان عندهم إن صلى الولد في المسجد أو صلى في البيت، أو صلى الصلاة أو لم يصلها ألبتة، وبعضهم يقول: لا زال صغيراً لا زال ضعيفاً لا زال مسكيناً.

وينشأ ناشئ الفتيان فينا     على ما كان عوده أبوه

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

أيها الأحبة: لعلكم من خلال هذه الآيات البينات الواضحات عرفتم ما هي البلية التي ابتلي بها كثير من الناس باختياره؛ ألا وهي السهر بالليل، ومكابدة المجالس، ومتابعة المواعيد واللقاءات إلى وقتٍ متأخر لا يأوي الواحد فيه إلى بيته إلا بعد أن يمضي الليل نصفه أو أكثر من نصفه، ثم يعود الواحد إلى بيته وقد طال على أبنائه السهاد، يرجون أباهم أو وليهم أن يقدم عليهم لحظةً أو لحظاتٍ يجلس فيها يسأل عن دروسهم، يتفقد حاجاتهم، يوجههم أو يؤدبهم، يعلمهم أو يربيهم، يمازحهم أو يلاعبهم، يضاحكهم أو يداعبهم، ينتظرون أباهم ليروا ابتساماته مشرقةً في وجه زوجته وأطفاله، ولكن حتى إذا استيئسوا من مجيئه وغلبهم السهاد وأسلمهم الرقاد؛ ناموا يائسين من عودة أبيهم إلا في وقتٍ متأخرٍ من الليل.

فإذا جاء ذلك الرجل أباً كان أو شاباً أو عازباً أو متزوجاً، إذا عاد وقد أسلم القوم أعينهم لنومٍ سبات، جاء وحده يتسلل لواذاً، يلتفت يمنةً ويسرة، ثم رمى بجنبه على فراشه، قد أنهكه الإعياء والتعب والسهر، وأنى له أن يتوضأ قبل نومه بعد سهرٍ طويل، الغالب فيه القيل والقال، وأنى له أن يصلي ركعاتٍ بخشوعٍ وهجوعٍ بعد سهرٍ طويل الغالب فيه الكلام في الأعراض، أو في علان وفلان، وأنى له أن يسجد ويقنت وأن يوتر ويدعو بعد سهرٍ طويل الغالب فيه -إلا من رحم الله- النظر إلى الأفلام والشاشات والمسلسلات عبر مختلف القنوات، فيرمي بنفسه ضجعة الغافلين، فينادى للصلاة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم، فلا تجد إلى أذنه سبيلاً، وأنى لها أن تجد السبيل إلى أذن الساهر اللاهي الغافل وقد ملأ فؤاده وقلبه البارحة بألوان الصور ومختلف الكلمات الساقطة، والعبارات الرديئة، أو الكلام فيما لا يعنيه، أو الاشتغال فيما لا ينفع دينه ودنياه، وأنى لها كلمات النداء أن تجد إلى أذنه وقلبه سبيلاً وقد عقد الشيطان على قافيته عقداً ثلاثاً، وقال له: عليك ليلٌ طويلٌ فنم، وربما جاءت أمه العجوز، أو أمه الفتية، أو والده يوقظانه للصلاة، فيخور كما يخور الثور عند المذبح، يتقلب يمنةً ويسرة، فلا يبرحان يفارقانه، أو لا يلبثان يفارقانه حتى يعود في غطيطه ونومه وسباته، في نومةٍ طويلةٍ سبقتها معصيةٌ أو لهوٌ أو غفلة، ومرت بقعودٍ عن ساعات فضيلة، واكتنفتها معصية وهي ترك صلاة الفجر، تركها إثم عظيم، ولكم أن تحسبوا نسبة الحاضرين الصلوات إلى الذين يشهدونها صلاة الفجر، أين المصلين في صلاة الفجر؟ هل زاغت عنهم الأبصار؟ هل تخطفتهم سهام المنون؟ هل نزلت بهم المقادير فأعاقتهم عن القيام والخروج إلى العبادة؟ أهم من ذوي الأعذار؟

الجواب: لا، ولكنه السهر، ولكنه الحديث الطويل والقيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال، وما أكثر الذين يسهرون! لو دعوا إلى حلقة من حلق الذكر لأبوها، ولو دعوا إلى شفاعةٍ أو نجدةٍ لمسلمٍ لتثاقلوا وقعدوا عنها، ولو دعوا إلى أمرٍ رشيدٍ لسوفوا وعللوا، ولكن السهر للكلام والقيل والقال والسماع والمشاهدة والرؤية وتتبع القنوات والمسلسلات والأفلام تهون فيه الساعات، أما إذا دخل في السهر لعب الورق ذلك الفيروس الذي يسري في دماء بعض الناس سرياناً يجعله يكابد السهر ويغالب النوم ويصارع السنة، وربما غسل وجهه مرتين أو ثلاثاً من أجل أن ينشط على جودة لعبه حذراً من أن يفوقه اللاعبون أو يغلبوه.