أرشيف المقالات

جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة (5)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
جهود الصحابة رضوان الله عليهم في خدمة السنة (5)

أدرك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم مكانةَ السُّنة النبوية المطهَّرة، وعرَفوا قدرها، واستوعبوا النصوص الآمرة بتبليغ العلم، وأحبُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، فازدادوا قربًا من النبي صلى الله عليه وسلم واستماعًا لأحاديثه، وتطبيقًا لها، ونقَلوها إلى مَن بعدهم على أحسن ما يكون النقل.
 
والناظر في كتبِ العلم يُدرِك بوضوح أن للصحابة رضوان الله عليهم جهودًا جبَّارة في خدمة الحديث النبوي، استطاعوا عن طريقها أن يحفَظوا سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينقلوها إلى الأجيال التالية غضَّةً طريَّة، كما أرادها الله عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وسلم، واستطاعوا أن يصِلوا إلى هذه النتيجة عن طريق جهودٍ ضخمة، ولقد أثمَرَتْ هذه الجهود حِفظ السُّنة في الصدور، وفهمها بالعقول، وتدوينها في الكتب، ونشرها وإذاعتها بين الناس، وتطبيقها في كل مجالات الحياة.
 
وسأذكر أبرز هذه الجهود، التي يتبيَّن من خلالها الجهد الذي بذلوه من أجل خدمة السنة، والطَّريقة التي اتبعوها من أجل صيانتها والحفاظ عليها.
 
خامسًا: اجتهادهم فيما لا نصَّ فيه، وعرض هذه الاجتهادات على النبي صلى الله عليه وسلم لبيان حكم الشرع فيها، مع الوعي العميق، والفهم الدقيق
لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم حاطِبِي ليلٍ؛ وإنما كانوا أذكى الناس عقولًا، وأطهرهم قلوبًا، دخل الإيمان قلوبَهم، وأُشْرِبوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظهرت على ألفاظهم أنوارُ النبوة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعمل على إلغاء عقولهم، أو منع ملَكاتِهم من الظهور؛ وإنما كان يُشجِّعهم على الاجتهاد، ويُصوِّب لهم أخطاءهم، حتى صاروا بعده علماء كبارًا، وأئمة عظامًا، بفضل ما أعطاهم الله عز وجل من المواهب، ثم بفضل سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم الباهرة في تعليمهم وتدريبهم على التفكير والاجتهاد.
قال ابن القيم: وقد اجتهد الصحابة رضوان الله عليهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من الأحكام، ولم يُعنِّفهم[1].

وإليك هذه النماذجَ التي تُظهِر لك اجتهادَهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض هذه الاجتهادات على النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهم وجه الحق فيها:
1- عن أبي جُحَيفَة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمانَ رضي الله عنه وأبي الدرداء رضي الله عنه، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمَّ الدرداء رضي الله عنها مُتَبَذِّلَةً، فقال لها: ما شأنُكِ؟ قال: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له: كُلْ، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قُمِ الآن، فَصَلَّيا، فقال له سلمان: "إِنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه"، فأَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكَر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدَق سلمانُ))[2]، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ينقل للنبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد سلمانَ رضي الله عنه، فيُقِرُّه النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاده، بل ويمدحه عليه.
 
2- وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمتُ في ليلةٍ باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أَهْلِكَ، فتيمَّمتُ، ثم صلَّيتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا عمرو، صلَّيتَ بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟))، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعتُ الله يقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾، فضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا[3].

3- وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: ((لَا يُصَلِّيَنَ أَحَدٌ العصرَ إلا في بني قُرَيْظَةَ))، فأدرك بعضهم العصرَ في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلِّي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرِدْ منا ذلك، فَذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُعَنِّف واحدًا من الفريقين[4].

فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجتهدون، ويَعرِضون هذه الاجتهادات على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيُقرُّهم عليها، أو يُصوِّبها لهم، فلما تُوفِّي الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقضى العصر الذي تمَّ فيه التشريع الإلهي في الكتاب والسُّنة، وتمَّ الأصلانِ العظيمان اللذان يُرجَعُ إليهما، وبدأ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وبدأ الفقه بالنموِّ والاتِّساع، وواجه الصحابة رضوان الله عليهم وقائعَ وأحداثًا ما كان لهم بها عهدٌ في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد من معرفة حكم الله عز وجل فيها.
 
كما أن الفتوحات الإسلامية وما ترتَّب عليها من ظهورِ قضايا ومسائل جديدة، استلزمت معرفة حكم الشرع فيها؛ لهذا قام الصحابة رضوان الله عليهم بمهمة التعرُّف على أحكام هذه المسائل والوقائع الجديدة، فاجتهَدوا واستعملوا آراءَهم على ضوء قواعد الشريعة ومبادئها العامة، ومعرفتهم بمقاصد الشريعة، وهكذا استطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يواكبوا تلك الأحداث والوقائع، وأن يستنبطوا لها الأحكام، وذلك بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا فيهما الحُكمَ، تحوَّلوا إلى الاجتهاد وأعملوا ما أدَّاهم إليه اجتهادهم في ضوء قواعد الدين ونصوصه، فأخرَجوا لنا من ذلك علمًا كثيرًا.
 

[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين؛ لابن قيم الجوزية، 1/ 203.

[2] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب مَن أقسم على أخيه ليُفْطِر في التطوُّع، ولم يَرَ عليه قضاءً إذا كان أوفق له، 4/ 246، رقم: 1978.

[3] أخرجه أبو داود في سننه، بلفظه، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ 1/ 90، رقم: 334، وبنحوه أخرجه: أحمد في مسنده 13/ 507، رقم: 17739، والدارقطني في سُننه كتاب الطهارة، باب التيمم 1/ 178، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب التيمم في السفر إذا خاف الموت أو العلة من شدة البرد، 1/ 225، قلت: إسناده صحيح لغيره؛ فيه يحيى بن أيوب الغافقي، صدوق ربما أخطأ، وتابعه في الرواية بألفاظٍ متقاربة عن يزيد بن أبي حبيبٍ عمرُو بن الحارث بن يعقوب، عند أبي داود 1/ 90، رقم: 335، وهو ثقة؛ تقريب التهذيب، 1/ 437 رقم: 5166.

[4] أخرجه البخاري في صحيحه بلفظه، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، 7/ 471، رقم: 4119، ومسلم في صحيحه بألفاظٍ متقاربة، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، 3/ 1391، رقم: 1770.

شارك الخبر

المرئيات-١