الرحيل


الحلقة مفرغة

للوضوء سنن وآداب، منها: التسمية، وغسل اليدين ثلاثاً، والمضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، وتخليل اللحية والغسل ثلاثاً، وتخليل أصابع اليدين والرجلين، وإطالة الغرة والتحجيل، والإتيان بالأذكار بعد الانتهاء من الوضوء، والابتعاد عن البدع والمحدثات في الوضوء؛ لأنها تنقص كماله، وكلها قد بينتها النصوص والآثار.

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيرا، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله الله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب أن يجعل للحاضرين والحاضرات في هذا المكان من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة.

اللهم لا تدع لي ولهم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها وأعنت على قضائها، اللهم لا تدع لهذه الوجوه ذنباً إلا غفرته، ولا تدع فيهم تائباً إلا قبلته، ولا لأحدٍ منهم ميتاً إلا رحمته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحةً وهبته وأسعدته يا رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه.

أحبتي في الله! نهاية هذا العام وأفول شمسه، ساقطة في مغيب بحر التاريخ، إشارة إلى الزوال والرحيل والفراق من هذه الدنيا، ورحيل هذا العام يذكر لا محالة برحيل الجميع، يذكر لا محالة برحيل العافية عن الأبدان، ورحيل النور عن الأبصار، ورحيل الكلمات عن الألسن، ورحيل السمع عن الآذان، ورحيل النبض عن الأفئدة، ورحيل الخفقات عن القلوب، ورحيل الحركات عن الأطراف والجوارح، رحيل هذا العام ورحيل كل عامٍ يذكر بأننا كما عشنا ورأينا وعلمنا وعرفنا الحياة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؛ فسوف نذوق الفراق حق اليقين، بعد أن عرفناه علم اليقين وعين اليقين، نحن الآن نعيش في هذه الحياة، والحياة بالنسبة لنا علم اليقين، فنحن نرى الأحياء ونرى أنفسنا، ونعيش الحياة حق اليقين؛ لأننا نرى الحياة في جوارحنا وأبداننا وحركاتنا وحواسنا وفي ذواتنا وما خلق الله فينا، فإن هذه الحياة نعيشها بعلم اليقين وحق اليقين، وكما عشنا الحياة علماً وعيناً وحقاً، فسوف نعيش الفراق علماً وعيناً وحقاً.

أما الفراق بعلم اليقين: فنحن نعلم أننا نفارق أقواماً.

وأما الفراق بعين اليقين: فإننا فقدنا وما عدنا نرى، بل دفنا ووارينا أحباباً وفارقناهم.

وبقي الفراق بحق اليقين: وهو أن نذوق الفراق، وأن نتجرع ذلك الفراق، ولا بد لنا من ذلك شئنا أم أبينا، طال بنا الدهر أم قصر..

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح

كل بطاحٍ له يوم على الدنيا بطوح

لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح

رحيل هذا العام يذكر برحيل الصالحين، ويذكر بالأسى على فراقهم، ورحيل هذا العام يذكر برحيل المجرمين، والعبرة بزوالهم، ورحيل هذا العام يذكرنا بحتمية فراقنا وزوالنا وانتقالنا من هذا الدار.

هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ     متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها     وعلَّ الردى مما نرجيه أقربُ

رحيل هذا العام أيها الأحبة في الله! يذكرنا بما قاله حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، وقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) رحيل هذا العام يقول للسادرين: لا تفرحوا بمرور الليالي والأيام:

يسر المرء ما ذهب الليالي     وإن ذهابهن له ذهابُ

أثر الأحداث في غفلة الشباب عن الرحيل

أيها الأحباب! لقد مرت بنا أحداث شغلت الكثير من الناس، بل شغلت الكثير من الشباب الطيبين الصالحين، شغلتهم في البحث والسؤال، والقيل والقال، فأورثت عند بعضهم الجدل، وأضعفت عند الكثير العمل، واستحكمت بنا الغفلة، وذهلنا عن أمورٍ لا بد منها ولا مناص عنها، وسنسأل عنها ومنها الرحيل، وهانحن نتذكرها بقرب رحيل هذا العام، ولما غفلنا عن هذا جاءت نهاية العام تذكرنا بها.

الرحيل أمرٌ محتومٌ لا مناص منه ولا محيد عنه، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] ويقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] ويقول تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ويقول تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] ويقول تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ويقول تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8] ويقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

كان عمر بن عبد العزيز ذات يومٍ وهو فوق كرسي الخلافة يقرأ كلام الله عز وجل، فلما بلغ هذه الآية: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207] نزل عن كرسي خلافته وقبض بيده على لحيته وأخذ يحرك ذقنه ويحرك لحيته ويقول: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:206-207]وأخذ يرددها وهو يبكي.

عبر من رحيل العام

أيها الأحبة! رحيل هذا العام شاهدٌ على الكادحين جميعاً يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم : المؤمن يكدح ثم إلى الجنة، والكافر يكدح ثم إلى النار.

رحيل هذا العام يمضي بسجلاته وصحائفه شاهدةٌ لنا أو علينا، شاهدةٌ لأقوامٍ بالحسنات وشاهدةٌ على آخرين بالسيئات، أقوامٌ مشغولون بالطاعة، وهم غداً في الجنة في شغلٍ فاكهون برحمة الله، وأقوامٌ مشغولون بلا مهمة مشغولون بالسهر ولكن في غير طاعة الله، ومشغولون بالجهد والمجاهدة، ولكن في معصية الله، في متابعة الأفلام والقنوات التي يرون فيها ما يضر ولا ينفع، ويخزي منظره، ولا يستطيع الناظر تغييره، مشغولون باللهو الباطل، مشغولون بالغفلة والسهر، ثم النوم عن الصلاة مع الجماعة، ومشغولات من النساء في الذهاب والإياب والتطواف، والتسيار والتجوال في الأسواق، مشغولات في الجولات في كل المناسبات، تجوالٌ لا يعرف الكلل ولا الملل، مشغولات عن بيوتهن أو عن تربية أبنائهن على طاعة الله عز وجل، مشغولون عن حقوق أوجبها الله عليهم في البر والصلة والقيام بحقوق من ولاهم الله شئونهم.

الرحيل الدوري

إن هذا الرحيل يذكرنا برحيلٍ نعيشه في كل يومٍ وليلة، أوليس الله عز وجل يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42] برحيل هذا العام لا بد أن نتذكر الرحيل الحق لأنفسنا ولأبداننا، ولقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتذكر الرحيل فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وإننا كما قرأنا الآية آنفا نعيش هذا الرحيل في كل يومٍ أو في كل ليلة، فإن الله عز وجل يتوفى هذه الأنفس حين موتها الموتة الصغرى في نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت، أي: يمسك التي قضى عليها الرحيل الحقيقي والميتة الحقيقية، فلا تعود الروح إلى مضجع صاحبها، ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى.

ويقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام:60]فقد أخبر سبحانه أن كلاً من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، ولكن من كتب لها الرحيل الحقيقي لا تعود إلى مضجع صاحبها، ولكن عند الرحيل، تمر النفس بسكرات، وتمر بآهاتٍ وأنات، وكما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] للرحيل سكرات، يلاقيها كل إنسان رجلٍ وامرأة وفتىً وفتاة حال الاحتضار، وهذه السكرات هي كربات وغمراتٌ حال الرحيل، وإنها لحقٌ، ولو نجى منها أحد أو سلم لنجى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم يدخل يده في ركوة أو علبة فيها ماء ويغطس أنامله في الماء، ثم يمسح بها وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) رواه البخاري ، ولكن قبل الرحيل يفاجأ أقوامٌ بغصص، ويفاجأ أقوامٌ بمفاجئاتٍ عجيبة، ومفاجئاتٍ مهولة، وأقوامٌ يرون سعادة وسروراً.

أيها الأحباب! لقد مرت بنا أحداث شغلت الكثير من الناس، بل شغلت الكثير من الشباب الطيبين الصالحين، شغلتهم في البحث والسؤال، والقيل والقال، فأورثت عند بعضهم الجدل، وأضعفت عند الكثير العمل، واستحكمت بنا الغفلة، وذهلنا عن أمورٍ لا بد منها ولا مناص عنها، وسنسأل عنها ومنها الرحيل، وهانحن نتذكرها بقرب رحيل هذا العام، ولما غفلنا عن هذا جاءت نهاية العام تذكرنا بها.

الرحيل أمرٌ محتومٌ لا مناص منه ولا محيد عنه، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] ويقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] ويقول تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ويقول تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] ويقول تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ويقول تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8] ويقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

كان عمر بن عبد العزيز ذات يومٍ وهو فوق كرسي الخلافة يقرأ كلام الله عز وجل، فلما بلغ هذه الآية: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207] نزل عن كرسي خلافته وقبض بيده على لحيته وأخذ يحرك ذقنه ويحرك لحيته ويقول: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:206-207]وأخذ يرددها وهو يبكي.

أيها الأحبة! رحيل هذا العام شاهدٌ على الكادحين جميعاً يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم : المؤمن يكدح ثم إلى الجنة، والكافر يكدح ثم إلى النار.

رحيل هذا العام يمضي بسجلاته وصحائفه شاهدةٌ لنا أو علينا، شاهدةٌ لأقوامٍ بالحسنات وشاهدةٌ على آخرين بالسيئات، أقوامٌ مشغولون بالطاعة، وهم غداً في الجنة في شغلٍ فاكهون برحمة الله، وأقوامٌ مشغولون بلا مهمة مشغولون بالسهر ولكن في غير طاعة الله، ومشغولون بالجهد والمجاهدة، ولكن في معصية الله، في متابعة الأفلام والقنوات التي يرون فيها ما يضر ولا ينفع، ويخزي منظره، ولا يستطيع الناظر تغييره، مشغولون باللهو الباطل، مشغولون بالغفلة والسهر، ثم النوم عن الصلاة مع الجماعة، ومشغولات من النساء في الذهاب والإياب والتطواف، والتسيار والتجوال في الأسواق، مشغولات في الجولات في كل المناسبات، تجوالٌ لا يعرف الكلل ولا الملل، مشغولات عن بيوتهن أو عن تربية أبنائهن على طاعة الله عز وجل، مشغولون عن حقوق أوجبها الله عليهم في البر والصلة والقيام بحقوق من ولاهم الله شئونهم.

إن هذا الرحيل يذكرنا برحيلٍ نعيشه في كل يومٍ وليلة، أوليس الله عز وجل يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42] برحيل هذا العام لا بد أن نتذكر الرحيل الحق لأنفسنا ولأبداننا، ولقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتذكر الرحيل فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وإننا كما قرأنا الآية آنفا نعيش هذا الرحيل في كل يومٍ أو في كل ليلة، فإن الله عز وجل يتوفى هذه الأنفس حين موتها الموتة الصغرى في نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت، أي: يمسك التي قضى عليها الرحيل الحقيقي والميتة الحقيقية، فلا تعود الروح إلى مضجع صاحبها، ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى.

ويقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام:60]فقد أخبر سبحانه أن كلاً من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، ولكن من كتب لها الرحيل الحقيقي لا تعود إلى مضجع صاحبها، ولكن عند الرحيل، تمر النفس بسكرات، وتمر بآهاتٍ وأنات، وكما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] للرحيل سكرات، يلاقيها كل إنسان رجلٍ وامرأة وفتىً وفتاة حال الاحتضار، وهذه السكرات هي كربات وغمراتٌ حال الرحيل، وإنها لحقٌ، ولو نجى منها أحد أو سلم لنجى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم يدخل يده في ركوة أو علبة فيها ماء ويغطس أنامله في الماء، ثم يمسح بها وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) رواه البخاري ، ولكن قبل الرحيل يفاجأ أقوامٌ بغصص، ويفاجأ أقوامٌ بمفاجئاتٍ عجيبة، ومفاجئاتٍ مهولة، وأقوامٌ يرون سعادة وسروراً.

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ ذات يومٍ سورة الفجر، فلما بلغ قول الله عز وجل: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] لما تلاها أبو بكر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله ما أطيب حظ من يقال له هذا! وما أحسن هذا! وما أجمل هذا! فقال صلى الله عليه وسلم: وإنك يا أبا بكر ممن يقال له هذا) وإنك يا أبا بكر ممن يُقال له: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] لمثل هذه الحال يطيب الرحيل، ويسعد الرحيل، ويجملُ الرحيل، ويفرح صاحب الرحيل برحيله، ومع أن هؤلاء قد لقوا البشرى من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك ما غرهم، بل زادهم من ربهم خوفاً ووجلاً وإشفاقا، فلقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه الأمر واشتدت به السكرات، قالت عائشة رضي الله عنها:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى     إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فكشف أبو بكر رضي الله عنه وجهه، وقال رضي الله عنه: [ليس كذلك يا ابنتي، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]] هكذا يرحل الصالحون، يلهجون بكلام الله وذكره، هكذا يرحلون لأن الملائكة تبشرهم برضوانٍ وروحٍ وريحان إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فصلت:30-31] هذه الولاية الحقيقية لهؤلاء في الدنيا ولهم في الآخرة، وماذا بعد لهم في الآخرة؟ ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

أيها الأحبة! رحيل الصالحين بحب ولذة، رحيل الصالحين عن الدنيا شوقٌ إلى لقاء الله عز وجل، واستعدادٌ ومسابقة ومبادرة، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده أن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اشتكت فاطمة رضي الله عنها شكواها التي قبضت فيها، تقول سلمى: فكنت أمرضها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وذهب علي رضي الله عنه لبعض حاجته، فقالت فاطمة رضي الله عنها لـسلمى : يا أمة اسكبي لي غسلاً، قالت سلمى: فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت فاطمة: يا أمة! أعطيني ثيابي، قالت: فأعطيتها جديد لباسها، فلبستها، ثم قالت: يا أمة! قدمي لي فراشي وسط البيت، قالت سلمى: ففعلت، فقامت فاطمة رضي الله عنها فاضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها، ثم قالت: يا أمة إني مقبوضة الآن، إني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحد، فقبضت مكانها، قالت: فجاء علي فأخبرته بذلك، انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذا الاطمئنان، انظروا إلى هذه اللذة التي يجدونها عند رحيلهم، فليت شعري على أي حال يكون رحيلنا.

وأما رحيل الكافرين الفاجرين فهو رحيلٌ في أسوأ حالٍ وأخبث خاتمة، قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93] وما ذكرته الآية يحدث أنه إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال، والسلاسل والجحيم وغضب الرحمن، من شدة الفزع والخوف والهلع تتفرق روح الفاجر في جسده وتتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، وإني لأذكر حادثةً هي مما يصنف للاستعداد للرحيل وحب الرحيل، وليست مما يذكر في الخوف، وليست مما يذكر في سوء الخاتمة.

أعرف صديقاً لنا وهو أحد الدعاة في مدينة الرياض من إخواننا الصالحين، وله أبٌ صالحٌ قد جاوز ثلاثة وثمانين عاماً، وكنت أراه وإذا سألته وقلت له: كيف أنت يا أبا عبد العزيز؟ قال: والله إني لفي أسعد حال وأطيب حال، وإني أعد نفسي من الأموات ولا أعد نفسي من الأحياء، يقول: إني أعد نفسي من الأموات وأنا أمشي على وجه الأرض، ووفاته كانت قبل أقل من سنة، يقول ولده: كان ضحىً في القرية، فاشتد به المرض فأتاه أحد أبنائه وأخذه وضمه إليه، وأراد أن يسنده إلى صدره ويتهيأ لكي يذهب به إلى المستشفى، فقال أبو عبد العزيز: لا تذهب بي إلى المستشفى هذا هو الموت، هذا هو الحق، هذا هو الحق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله إني ما كرهت هذه الساعة، والله إني ما كرهت هذه اللحظة، والله إني فرحٌ بلقاء الله، والله إني فرحٌ بلقاء الله، قال: فأخذ يردد أيماناً بكل طمأنينة وبكل يقظة وبكل لذة، يقول: والله ما كرهت هذه الساعة وأنا مستعدٌ لها، أشهد أن لا إله إلا الله، لا تذهب بي إلى المستشفى، قال: ومن الضحى وهو يذكر الله عز وجل حتى فاضت روحه حول الظهر.

الله أكبر! انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذه النفس التي تطمئن عند الوفاة، لو أن أحداً أصابه ما أصابه لقال: أين المستشفى؟ أين التنشيط الدماغي؟ أين وأين؟ ولا بأس بهذا وكلها من الأسباب؛ لكن من كان مستعداً للقاء الله، لا يضيقه أن تنـزل به ملائكة الموت في أي لحظة، يقول هذا الرجل الذي ذكرت لكم قصة وفاته: ما تركت قيام الليل ثلاثاً وخمسين عاماً، وأما من بداية تكليفه إلى أن بلغ الثلاثين قال: كنت أوتر قبل النوم حتى رآني رجلٌ من الصالحين قال: يا أبا فلان أنت ممن يشار إليه، وتوتر قبل النوم! إذاً أنت لا تتهجد آخر الليل، قال: فكانت نصيحة قذفها الله في قلبي وأحدثت في نفسي استجابة، فما تركت قيام الليل منذ ذلك اليوم، قال ولده: وما عهدته يؤذن أو ينادي المنادي إلا وهو في المسجد، على ما يكون الناس فيه من حديثٍ أو قيلٍ أو قال أو مقال، إذا دنا وقت الصلاة يقول: اشتعل في قلبه أمرٌ يزحزحه ويطرده عن المجالس حتى لا تهدأ له نفسٌ ولا يقر له بالٌ، ولا تقر له عينٌ إلا إذا دخل المسجد، فمثل هؤلاء يلذون بالرحيل، ويستعدون للرحيل ونحن لا بد أن نوقن بهذا الرحيل، لا بد من استقرار هذه الحقيقة في نفوسنا، حقيقة أن الحياة محدودة مؤقتة بأجلٍ ثم تأتي نهايتنا، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون، ويموت القاعدون، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بكل ثمن، الكل يموت: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] لكن الفارق بين نفسٍ وأخرى في المصير وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد : الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، ويقول أيضاً: الناس على هذه الدار على جناح سفرٍ كلهم، وكل مسافرٍ فهو ظاعنٌ إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة، إنما هو ظاعنٌ إلى الله تعالى في حال سفره، ونازلٌ عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة له: تفكروا يا عباد الله! فيمن قبلكم أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد نسوا ونسي ذكرهم، فهم اليوم كلا شيء، فتلك بيوتهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً.

وأين من تعرفون من أصحابكم وإخوانكم، وقد وردوا على ما قدموا فحلوا الشقاوة والسعادة؟ إن الله ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسبٌ يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه به سوءاً إلا بطاعته، واتباع أمره، وإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.

وقال عبد الله بن المفضل التميمي: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله فأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإنما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يومٍ وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدعٍ من الأرض، ثم في بطن الصدع غير ممهدٍ ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقيرٌ إلى ما قدم أمامه، غنيٌ عما ترك بعده، وعن مجاهد قال: مررت مع عبد الله بن عمر فقال: يا مجاهد ! يا خربة أين أهلك؟ قال: فناديت يا خربة! أين أهلك؟ ما فعل أهلك؟ فلم يجبني أحد قال: ثم تكلم ابن عمر وقال: ذهبوا وبقيت أعمالهم، وعن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا وقف على خربة أي: على الأطلال، قال: يا خربة! أين أهلك؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوات وبقيت الخطيئة، يا بن آدم ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.

إن الرحيل أيها الأحباب! حقيقةٌ مرةٌ قاسيةٌ رهيبة، تواجه كل حيٍ فلا يملك لها رداً، ولا يستطيع لها أحدٌ دفعاً، وهي تتكرر كل لحظة، يواجهها الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الملوك والوزراء، الأمراء والفقراء، يقف الجميع منها موقفاً واحداً، لا حيلة لا وسيلة لا قوة لا شفاعة، لا دفع ولا تأجيل، الكل مرجعهم إلى الله، فما لهم مرجعٌ سوى هذا المرجع، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إذاً يكون في العمل والنية، وفي الاتجاه والاهتمام، أما النهاية فواحدة، الموت في الموعد المحتوم والأجل المقسوم، قال الضحاك بن مزاحم : قال عبد الله بن مسعود : ما منكم إلا ضيف، وماله عارية، والضيف مرتحلٌ، والعارية مردودة إلى أهلها.

فما أهل الحياة لنا بأهلٍ     ولا دار الحياة لنا بدارِ

وما أموالنا والأهل فيها     ولا أولادنا إلا عواري

وأنفسنا إلى أجلٍ قريبٍ     سيأخذها المعير من المعار

أيها المنهمك في الدنيا! أيها المكب على غرورها، المحب لشهواتها، الغافل قلبه! لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإذا ذكر بالموت كرهه ونفر منه، أولئك الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].

أيها الأحباب! الذي يعطى منكم أرضاً، فيسورها ويغرس فيها شجراً، ويحفر فيها بئراً، ويبني فيها داراً، ويطيبها ويزينها ويعدها تجده يشتاق إلى البقاء فيها، ويكثر الذهاب إليها، ويدعو الناس إلى ضيافته فيها، ويكثر الحديث في المجالس عنها، لا شغل له ولا هم إلا الحديث عن استراحته أو عن أرضه التي اعتنى أو تعب فيها، وأما الذي أوتي أرضاً فلم يسور فيها ولم يحفر بها بئراً ولم يغرس بها شجرة فلا يبالي أن تكون موقعاً للغربان على الجيف، ولا يبالي أن تكون مرتعاً للكلاب، ولا يبالي أن تكون موضعاً لرمي الزبالات والقمامات والأوساخ فيها، فما الذي جعل الأول يشتغل بهذه الأرض، وجعل الثاني لا يبالي بما يوضع فيها؟ الأول زينها وعمرها فأشغلته فاهتم بها، والثاني ضيعها ولم يهتم بها فلم يبال بما يوضع فيها، فكذلك هي الآخرة بالنسبة لنا، الآخرة أرضنا، من زرع في آخرته شجراً، من غرس في آخرته غرساً، من حفر في آخرته الآبار، من بنى في آخرته داراً، أشغلته وأهمته وذهب كل يومٍ إليها واستعد لها، وحدث الناس بها، واهتم بها وجعلها همه، وأما الذي لا يهتم بآخرته، فلا يتمنى أن يسمع عنها كلاماً ولا يرغب أن يسمع عنها حديثاً، ولا يدعو أحداً إليها، ولا يهتم بها، فهل أيها الأحبة! نفطن لما نحن قادمون عليه، إن الرحيل مصيبة.

أثر تذكر الموت في ترك الدنيا ونعيمها

الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح رحمه الله رحمة واسعة كان يلقي درساً في الحديث على طلابه في بخارى فبلغه نبأ وفاة الإمام الدارمي رحمه الله، فأجهش وأطرق بالبكاء وسمع طلابه نشيجه وبكاءه، ورأوا دموعه تنحدر على وجنتيه ولحيته، فلما رفع رأسه قالوا: ما الخطب يا أبا عبد الله ، فقال بصوتٍ وهو أسيف، قال في صوتٍ فيه نشيج:

إن تبق تفجع بالأحبة كلهم     وفناءُ نفسك لا أبا لك أفجع

إن بقينا نفجع بموت أحبابنا، وإن فجعنا بموت أنفسنا، فتلك والله فاجعة عظيمة، فالرحيل مصيبة، وسماه الله مصيبة، ولكن أعظم من مصيبة الموت والرحيل، مصيبة الغفلة عن الموت والرحيل، ومصيبة الإعراض عن ذكره، ومصيبة عدم الرغبة في سماعه، وقلة التفكير فيه، وترك العمل لما بعده.

عمر بن عبد العزيز يكون في فراشه مع زوجته، ثم يتذكر الرحيل فيقوم عنها ويبكي، يتذكر رحيله في تلك اللحظات التي يغفل فيها الغافلون، وذكر الرحيل من أهم الأمور التي تلين بها القلوب القاسية، إن تذكر الرحيل يردع الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويجعله يترك الفرح بالدنيا ويهول المصائب فيها.

قال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فرحاً، وما ألزم عبدٌ قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا في عينه وهان عليه كل ما فيها، وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن هذا الموت قد أفسد على الناس نعيمهم فالتمسوا نعيماً لا موت فيه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكب عبد الله بن عمر فقال: (كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه الإمام البخاري.

زيارة القبور وفجائع الموت

إن تذكر الرحيل وما بعده من سؤال القبر وظلمته، وضمته ووحشته، والبعث والحشر مما يوقظ النفس من نومها، ويوقظها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، فتنشط وتتابع السير، وخير وسيلة لتذكر الرحيل زيارة منازل الراحلين، زيارة القبور والاعتبار بأحوالها.

أتيت القبور فناديتهـا     أين المعظم والمحتقر

انظر إلى قبر ملك من الملوك، وبجواره قبر فقير من الفقراء، ثم بعد ذلك قبر وزير من الوزراء، ثم قبر صعلوك من الصعاليك، ثم قبر مسكين من المساكين، ثم قبر فلان وعلان، هل ترى بينهم فرقاً؟

هل ترى لأحدهم مزية على أحد؟

قال صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقل هجراً) رواه الحاكم.

يقول ابن عمر : (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقال رجلٌ من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة) رواه ابن ماجة وغيره.

أيها الأحبة! كان محمد بن واسع إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: ما ظنك برجل يرحل إلى الآخرة مرحلة، وعند الرحيل لأقوامٍ صياحٌ ونواح، وعند الرحيل لأقوامٍ حسرات وأنات، وعند الرحيل لأقوامٍ فضائح ومخاز، وعند الرحيل لأقوام بشائر وجوائز، فرحماك رحماك يا رب العالمين بنا عند هذا الرحيل وقبله وبعده.

ذكر الرحيل في القرآن والسنة

حسراتٌ عند الرحيل لأقوامٍ ضيعوا وفرطوا وأسرفوا، لأقوامٍ منعوا حقوق الله قال الله: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11] قال ابن كثير : كل مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئاً يسيراً ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه.

وعند رحيل الفاجر يدعو على نفسه بالويل، ويدعو على نفسه حين تحمل جنازته، ويدعو على نفسه حين يتحرك به، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق) رواه البخاري، ويؤيد ذلك أن الفاجر يندب حظه ويدعو بالويل والثبور على نفسه، فعن أبي هريرة فيما رواه النسائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وضع الرجل الصالح على سريره، قال: قدموني قدموني، وإذا وضع الرجل السيئ على سريره، قال: يا ويلي أين يذهبون بي؟ أين يذهبون بي؟) كأن الفاجر والكافر عند رحيله يقول: لم تستعجلون بي؟ وأين تذهبون؟ وأين ستضعونني؟ كأن الفاجر يقول لمغسله: وما أعجلك في الغسل؟ وما أسرع ما انتهيت من هذا التغسيل؟ وما أسرع ما وصلتم وبلغتم المقبرة؟ وما أسرع ما دفنتموني؟ وأما المؤمن فكأنه يقول: لم تتأخرون بالصلاة علي؟ لم تتأخرون في تغسيلي؟ لم تتأخرون في تجهيزي؟ قدموني.. قدموني، أيها الغاسل! أسرع، أيها الدافن! أسرع، يا من يجهز هذه الجنازة! لا تتأخر؛ لأنه يرى من نعيم الله ما ينتظره المزيد بعد ذلك.

ألا وإن الخوف من الرحيل المخزي، ألا وإن الخوف من سوء الرحيل قد أقض مضاجع الصالحين، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت ما يشهد أن المؤمن إذا حضره الموت، بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضره الموت، بشر بعذاب الله وعقوبته، رواه البخاري ومسلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2805 استماع
حقوق ولاة الأمر 2669 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2654 استماع
توديع العام المنصرم 2649 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2557 استماع
من هنا نبدأ 2497 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2463 استماع
أنواع الجلساء 2462 استماع
إلى الله المشتكى 2438 استماع
الغفلة في حياة الناس 2437 استماع