عزة المسلم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله: أشكر الله عز وجل ثم أشكركم على اجتماعكم في هذا المكان المبارك، ونسأل الله أن يجمعنا بكم في دار كرامته، وأسأله سبحانه ألا يحرمنا وإياكم أجر ما سألنا وقصدنا وطلبنا في هذا اللقاء، وهو أن يذكرنا الله فيمن عنده، وأن تحفنا ملائكته، وأن تتنزل علينا سكينته، وأن تغشانا رحمته، وأن نكون من عباده الصالحين المتواصين بالحق والصبر والثابتين عليه.

أحبتنا في الله: إنه لمن دواعي السرور والغبطة والمحبة أن يتشرف الواحد بالحديث بين أحبةٍ في الله، فيهم من هو خيرٌ منه، وفيهم من هم أعلم بالكلام منه، وفيهم من هم أحبابٌ يستفيد منهم ويفيدهم، ولا بد من هذا اللقاء، ولا بد من هذا الاجتماع، إذ فيه بإذن الله عز وجل شحنةٌ إيمانية تحرك الهمم، وتدفع العزائم إلى القمم، وتدفع بالنفوس إلى مرضات الله عز وجل، وحسبنا أنه اجتماع على طاعة، وسلامة من الجلوس على معصية.

أحبتنا في الله: موضوعنا عن عزة المسلم يجعل سائلاً يتساءل الآن ليقول: أي عزةٍ تتحدث عنها في زمن الذل مقابل السلام؟ وأي عزة تتحدث عنها في زمن تسلط اليهود على أمة الإسلام؟

وأي عزة تتحدث عنها وكل يومٍ نسمع فيه أنباء المقابر الجماعية في البوسنة وكوسوفا وفي غيرها لأبناء المسلمين؟

وأي عزة تتحدث عنها وحرب الصوت والصورة والكلمة عبر القنوات الفضائية، لا تدع جداراً للحياء إلا هدمته، ولا تبقي سوراً للعفاف إلا صدعته وكسرته، فأي عزةٍ تتحدث عنها وشعوب المسلمين تحكمهم القوانين الوضعية، ويعرض بهم عن هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا من رحم الله وقليلٌ ماهم.

أيها الأحبة في الله: ما أكثر الذين تحدثوا عن العزة؛ إن الآباء والأجداد الذين تحدثوا وتغنوا بالعزة القعساء والمجد الأشم كثيرون، ولكن في هذا الزمن الذي أصبح الحديث فيه عن العزة نادر، بل إن أعداء الإسلام لا يرضون من المسلمين إلا أن يكونوا أتباعاً وأذناباً وقردة وببغاوات، يقلدون ويرددون، ومن أراد أن ينفرد بمنهجه أو يتميز بسبيله، أو يتعلق بما أكرمه الله به، قابلوه بكل عبارات الأصولية والتطرف والإرهاب والتزمت والتعنت والتشدد والبلاء والتخريب والتدمير والفساد وغير ذلك.

نعم، كثير هم الذين يتحدثون عن العزة عازمين أو حالمين، صادقين أو واهمين، ولكننا -أيها الأحبة- نتحدث عن عزةٍ ليست آلة تتقلد، ونتحدث عن عزةٍ ليست لباساً يلبس، ونتحدث عن عزةٍ ليست قصوراً ودوراً تسكن، وليست أنهاراً تجري وتشق، وليست مناصب ومراتب وأحساب وأنساب، إنما نتحدث عن عزةٍ هي مرتبطةٌ بمن له العزة وحده لا شريك له، من استمده منه وحده العزيز الجبار جل وعلا، فهو العزيز، ومن طلبها من غيره ذل وانكسر (كأنما تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

أحبتنا في الله: كان العرب قديماً يظنون أن العزة كائنةٌ في الهيئات والأشكال والأنساب والقوى والعدد يظنونها على الماديات قائمة، وعلى سلالات الأنساب متكئة؛ فأنت العزيز الكريم بشرط أن تكون قوياً غنياً عرق النسب، وقديماً قيل: إنما العزة للكافر، لكن كان من العرب عقلاء أذكياء يرون العزة خلاف ذلك، إذ يقول قائلهم:

تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا     فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا     عزيز وجار الأكثرين ذليل

العزة: خلةٌ نادى بها الإسلام وغرسها في نفوس الناس ونشرها في أنحاء الأمة؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [أحب من الرجل إذا سيم خطت خسف أن يقول بملء فيه: لا].

ولقد هدى الإسلام إلى أسباب العزة، ولقد بين الإسلام أسبابها وبين موانعها، التي تحول دونها وبلوغها، فالمؤمن عزيزٌ وغيره ذليل، وهكذا أهل الإسلام: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس:26] بعكس الكفرة الفجرة: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:43].. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112].

إن ارتكاب الآثام سبيل السقوط والإهانة، ومزلقةٌ إلى خزي الفرد والجماعة، وقد بيَّن سبحانه أن الهزيمة في غزوة أحد سببها ما ارتكبه البعض من مخالفات: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] ولذا بيَّن أن مصاب المؤمنين من أنفسهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

رأيت الذنوب تميت القلوب     وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب     وخيرٌ لنفسك عصيانها

إن الذلة والهوان هي ضد العزة، وسببها الإعراض عن الله وشرعه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

العزة: صفةٌ من أوصاف الله تعالى واسمٌ من أسمائه؛ فهو العزيز، أي: الغالب القوي، وهو المعز الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده، وقد تكرر وصف الله بالعزيز في القرآن بما يقارب تسعين مرة، وذكر الخطابي رحمه الله في كتابه" شأن الدعاء " أن العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه:

الأول: معنى الغلبة والقهر؛ أي: يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال: عز الشيء يعز بكسر العين من يعز، فيتأول معنى العزيز على هذا، أنه لا يعادله شيء، وأنه لا مثل له ولا مثيل والله أعلم.

وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن عزة الله عز وجل متضمنةٌ للأنواع السابقة كلها، وهي: عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهو وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت.

الثاني: عزة الامتناع؛ فإنه عز وجل الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، بل هو الضار النافع المعطي المانع سبحانه.

الثالث: عزة القهر والغلبة لكل الكائنات؛ فالله عز وجل غالبٌ على كل شيء، والكائنات مقهورة لله خاضعةٌ لعظمته منقادةٌ لإرادته، فجميع نواصي العباد بيده، لا يتحرك منها متحرك، ولا يتصرف فيها متصرفٌ إلا بحوله وقوته وعزته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: قال بعض المفسرين: العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأول: العظمة، ومنه قول الله تعالى: وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44].. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82].

الثاني: المنعة؛ ومنه قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النساء:139].

الثالث: الحمية؛ ومنه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ [البقرة:206] وقول الله عز وجل: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:2].

وقد أشار سبحانه في كتابه المجيد أن العزة خلقٌ من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها ويحرصوا عليها، فقال سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال عن عباده الأخيار: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وقال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [الفتح:29] والشدة على الكافرين وعلى أعداء الله تستلزم العزة، قال تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] وهذا يقتضي أن يكونوا أعزاء.

وهذه الآية: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا [آل عمران:139] تخبرنا وتعلمنا وتبين لنا أن الله عز وجل يعلمنا إباء الضيم، وهو خلقٌ يفيد معنى الاستمساك بالعزة والقوة وعدم الرضا بالمذلة والهوان، وإن كنا ذكرنا أن القرآن كرر لفظة (العزيز) عشرات المرات، وأنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأنه القوي القاهر المتين الجبار، كأنه أراد بذلك وهو أعلم أن يملأ أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة، فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزة ربهم، استشعروا القوة في أنفسهم واعتزوا بمن له الكبرياء وحده في السماوات والأرض، وأبوا الهوان حين يأتيهم من أي مخلوق، وفزعوا إلى واهب القوى والقدر، يرجونه أن يعزهم بعزته، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يؤكد هذا المعنى في نفوس عباده حين جعل كلمة "الله أكبر" تتردد كل يومٍ في أذان الصلاة مراتٍ ومرات، وتترد أثناء الصلاة وفي التكبيرات والانتقالات، ونرددها في الصلوات كل يوم نشعر بذلك أن الكبرياء لله وحده، وأن عباده يلزمهم أن يلتمسوا العزة والقوة من لدنه، وأن يستوهبوا العزة من حماه مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].. قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].

ربنا خالقنا يريد أن يهدينا إلى الطريق الذي يصون لنا عزتنا وكرامتنا، ربنا يريد لنا أن نبقى محصنين دون الرضا بالهوان، أو السكوت على الضيم، فأمرنا بالاستعداد والإعداد والتقوى بحفظ الكرامة والذود عن العزة، فقال لنا مولانا عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].

نعم! القوة هي التي تجعل صاحبها في موضع الهيبة والاقتدار فلا تطأه الأقدام.

كن قوياً يحترم     بين عربٍ وعجم

أيها الأحبة: ديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم نلبس إلا رديء الثياب، وديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم يكن لنا في الأرصدة ريال ولا دينار ولا درهم، يعلمنا أننا الأعزاء وإن لم ننل شيئاً من المناصب والرتب ويعلمنا أننا الأعزاء وإن لم نرتبط بأنسابٍ وأحسابٍٍ يفاخر بها أهل الجاهلية، ديننا يعلمنا أن العزة فيمن تعلق بالعزيز وحده لا شريك له؛ فربنا يعلمنا الإقدام والثبات في مواطن اليأس، موقنين أن الله العزيز القوي معنا، قال تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104] ويقول سبحانه: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد:35].

لا تكن ذليلاً خواراً جباناً ضعيفاً، بل كن علياً شامخاً بإيمانك قوياً باعتقادك، مم يخاف المسلمون وهم يملكون أعظم شيء وهو الإيمان؟ القوة التي تتحطم عليها قوى الفساد والشرك والإلحاد، مم نخاف والله معنا ناصرنا ومؤيدنا؟ هذا موسى لما قاس أمر مجابهة فرعون بمقاييس البشر، قال: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] فجاءه الأمان من الله، إن الله معك، إن الله ناصرك، إن الله مؤيدك وحافظك، قال: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ولما رأى موسى قوة وجبروت وعزة وملأ وجند فرعون، وهيله وهيلمانه، أصابه شيءٌ من الخوف أو التردد، نعم هو رأى اجتماع القوم وعدتهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [طه:64] قومٌ علوا وعزّوا بالباطل، وهكذا هم أهل الباطل يتعززون بأنفسهم وقواهم، فجاء لموسى من ربه: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه:68] يا رب! هم ملايين وأنا واحدٌ، فيقول الله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه: 68] يقول: يا رب! هم أقوياء وأنا ضعيف، فيقول الله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه:68] أنت الأعلى بإيمانك، وأنت الأعلى لأن الله معك، هكذا الإسلام يدعونا للعزة ولرفع الذل والمهانة والدون.

ليست هذه دعوةٌ -يا عباد الله- إلى بغيٍ وطغيان، وإنما الإسلام يريد أن نكون معتزين بأنفسنا وبإيماننا، ولن يكتفي ديننا بتحريضنا على إباء الضيم وإيثار العزة تحريضاً يقوم على الأمر الصريح أو التوجيه المباشر، بل عمد إلى ضرب القصص من الأمم الماضية التي رفضت التنازل عن المبادئ والعقيدة، لم تهن ولم تضعف ولم تستكن، بل صبرت وصابرت وكافحت وناضلت حتى ظفرت وانتصرت وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148] ها هو الإسلام يريد من المسلم أن يتنازل ويتخلى ولو عن الوطن ومكان الأهل وملاعب الصبا ومراتع الطفولة، إذا كان البقاء في ذلك يورث الذل والمهانة والقهر:

حبك الأوطان عجز ظاهرٌ     فاغترب تلق عن الأهل بدل

ليهاجر وليرحل إلى مكانٍ يجد فيه العز والحرية، حتى ولو كانت أحب الديار إليه، وأقرب مثالٍ على تحقيق ذلك: هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهجرة أتباعه معه، من أحب البقاع إلى أنفسهم، هجروا الأموال والأوطان، بل والأولاد، كل ذلك كي لا يصيبهم في دينهم ذلٌ أو مهانة:

لا تسقني ماء الحياة بذلة     بل فاسقني بالعز كأس العلقم

ولذلك عاب الله عز وجل على قومٍ عاشوا بين ظهراني الكفار وديارهم، فقال سبحانه لأولئك الذين عاشوا في ديار الكفار أذلاء ولم يهاجروا طلباً لعزة الإسلام وعزة العبادة، قال تعالى في شأنهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء:97] بم ظلموا أنفسهم؟ بالبقاء بين ظهراني المشركين، قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:97] إلا أن الله برحمته الواسعة عذر العاجزين الذين يفقدون القدرة على الانتقال، ولا يجدون وسيلة أو يهتدون حيلة، فقال سبحانه: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:98-99] وهذا التعبير يشعر بكراهية الإسلام للمسلم أن يحتمل الهوان والذل، وذلك استنهاض للهمم حتى تبذل الجهد كله في التخلص من الهوان بأصنافه، هكذا الإسلام يريد المؤمن أن يعيش في عزةٍ وإباء وكرامة، لا ينزل مع الظالمين أو الضالين، ولا يسقط في التفاهات، بل يترفع عن المغريات، ويحفظ نفسه من المستنقعات الشركية والدنيوية.

إن عزة المسلم تصدر من إيمانه وتنبع من ذاته، لا من الأشياء التي يمتلكها، فمن يكون مؤمناً فهو عزيز، ولذلك قال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] متى يحصل هذا العلو؟ متى تتحقق هذه العزة؟ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ المنافقون:8] فهي لأهل الإيمان والإسلام دون غيرهم، بغض النظر عن أي شيءٍ أو وصف آخر، هذا ما فهمه المسلمون.

وإليك هذا الحديث الذي رواه الحاكم وغيره في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه، حينما ذهب حكيم بن حزام إلى السوق فوجد حلةً تباع، فقال حكيم : لمن هذه؟ فقالوا: هذه حلة ذي يزن ، ملك من ملوك اليمن ، فاشتراها بخمسين ديناراً ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهداها إليه، فلبسها صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها فما رؤي من ذي حلة أجمل منه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، ثم خلعها لأنه معرضٌ عن الدنيا، وألبسها أسامة بن زيد ، ألبسها حبه وابن حبه ومشى بها في السوق، فرآه حكيم بن حزام وكان قبل إسلامه، فتعجب حكيم من أسامة الرجل الأسمر الصغير أبوه مولىً لرسول الله ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن ، فقال أسامة بن زيد : نعم والله لأنا خيرٌ من ذي يزن وأمي خيرٌ من أمه، وأبي خيرٌ من أبيه.

إذاً: أسامة الشاب الصغير الذي استصغره الناس سناً ونسباً وشكلاً، يشعر أنه أعظم منزلةً من ذي يزن ملك اليمن ، لا لشيء إلا لأنه مسلمٌ وهذا كافر، وهذا هو مصدر العزة،إذا أيقن به المؤمن عانقه شعورٌ بالرفعة والقوة والفخر وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]وإذا أيقن المسلم بهذا أنف أن يخضع لغير الله، واستنكف أن يذل أمام سواه، فلا يتضعضع أمام قهر،ٍ ولا يهون أمام فقرٍ، وكأنه يردد قول القائل:

أيدركني ضيمٌ وأنت ذخيرتي     وأظلم في الدنيا وأنت نصيري

فعارٌ على راعي الحمى وهو قادرٌ     إذا ضاع في البيداء عقال بعير

الإيمان يجعلك في موقف العزة التي لا تقبل شكاً ولا تردداً، لأن المؤمن يأوي إلى ركنٍ شديد، وإلى منهجٍ صادقٍ واضحٍ جليٍ سديد، وإلى فعلٍ حميد.

الإيمان هو الذي جعل إبراهيم عليه السلام في موقف القوي، ليقول للكثرة الكافرة التي أججت النار لتحرقه بها، يقول لهم وهو الذي قيد وربط ليرمى في النار، يقول لهم في كل عزةٍ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ [الأنبياء:67] ليجعل الله الخسار والذلة لمن عاداه: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70] كذلك يكون المؤمن معتزاً، يرى أنه القوي وأعداؤه الضعفاء، لا يتردد ولا يداخله الشك، ولا تهزه ألوان الأذى ولا التهديد، كل ذلك إذا تغلغل الإيمان فيه.

ها هو فرعون يهدد السحرة الذين انقلبوا عليه بين عشيةٍ وضحاها، فقال يهددهم: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:124] فماذا كان جواب أهل العزة الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فانقلبوا منذ أن كانوا من قبل سحرة، انقلبوا إلى أعزاء بالإيمان، فماذا قالوا؟ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] لماذا؟ ما الذي جعلهم ينقلبون بهذا التحول الخطير؟ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [طه:73] السبب أننا عرفنا الحقيقة، والسبب هو الإيمان وحده ولا شيء غير الإيمان.

إن قوة الإيمان تتضاءل أمام عزتها وقوتها قوة الشرق والغرب وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [فاطر:44] إن أي عزة تقوم على غير الإيمان بالله فهي عزةٌ واهية باطلة منقضية فانية متصدعة، وإن أي رفعة ومنعةٍ وقمةٍ وعلو تكون بغير الله، فهي زائلة عما قليل، تحول وتزول وتنتهي، حتى وإن استمرت في بغيٍ وطغيان، ولذا أبشركم بسرعة تصدع العزة الباطلة، وعزة الغرب بالباطل التي يتغطرسون بها على أمة الإسلام، يجوعون شعوباً ويدمرون آخرين، ويضربون دولاً ويحبسون المياه ويثيرون الفتن، ويحاربونهم بالاقتصاد ويسلطون الأفلام ويفسدون الإعلام ويخربون العقول، هم الآن يعيشون حالةً من عزة السيطرة في زمن العولمة، ولكن اسمعوا قول الله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197] مهما علا وتكبر فإن مصيره الهلاك ومصيره العقاب والبوار والدمار، لماذا يكون مصيرها هكذا؟ لأنها أممٌ قامت وعلت على الظلم والشرك والإفساد، والله لا يصلح عمل المفسدين.

أيها الأحبة في الله: حينما نجول في القرآن الكريم، نجده يتحدث عن أصناف من الناس ظالمٍ غاشمٍ أخذوا العزة الغاشمة الزائفة، ويظنون أنهم في عزةٍ ثابتةٍ مستقرة، كما أخبر الله عن شأن بعض الطغاة: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] أي: حملته عزته الكاذبة الجائرة والتي هي شبيهةٌ بحمية الجاهلية، حملته على الإثم المنهي عنه، وأغرته بارتكابه، فماذا كان جزاؤه؟ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] المؤمن إذا قيل له: اتق الله، ذل وخضع لله فازداد بذلك عزة، والكافر إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، إن الله قال لنبيه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] وكان عمر بن الخطاب إذا قيل له: اتق الله، ارتعدت فرائصه وخاف وارتجف، والظالم والفاجر والفاسق إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فشتان بين عزة هذا وهذا، وشتان بين استقبال هذا وهذا للأمر.

هذا صنفٌ آخر من الناس اعتزوا وافتخروا بالمال وبالحدائق وبالذرية وبالأنساب، فأنساهم ما هم فيه من رفعة المال والقوة أن يعرفوا خالقهم، لما ملكوا ما ملكوا وجرت الأنهار من تحتهم وأينعت الثمار في نخيلهم ورأوا الفواكه تتدلى أغصانها في بساتينهم، اعتزوا عزة حمية الجاهلية، واستغناء عن الله وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف:34] وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً [الكهف:35] انظروا إلى أي درجةٍ بلغت به عزة الطغيان والظلم والاستغناء! ماذا كان نتيجته بعد حوارٍ من صاحب يحاوره؟ يقول له: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37] أي عزةٍ تتعلق فيها؟ أي استغناءٍ أنت فيه من ربك الذي خلقك من تراب؟ (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:37-38] ولو أنك يا هذا الذي غرتك دنياك وثمارك وأنهارك وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً [الكهف:39] يطول الحوار ويطول الجدال ويتردد السؤال، ومع ذلك هذا الذي استغنى بأنهاره وثماره وأشجاره، ما كان خبره؟ وما هي نتيجته؟ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42] أين من اغتر به؟ أين أنهاره؟ أين أنصاره؟ أين أعوانه؟ أين جنده؟ أين خدمه؟ أين حشمه؟ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً [الكهف:43] هذا شخصٌ نسب النعمة لنفسه واعتز بما عنده، حتى ابتلي وفتن بالأموال، إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] يذكره الذاكرون، يذكره الذين يخوفونه، لا تفرح ولا تطغى ولا تبطر ولا تمش في الأرض مرحاً، ولا تتكبر على الناس فما كان جوابه ؟ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] فما كانت نتيجته؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص:81] وأبشروا عما قريب سيخسف الغرب بدورهم ولن يكون لهم من دون الله نصيراً، وأبشروا عما قريب هذه الأمم وهذه النظم التي تسلطت على المسلمين طولاً وعرضاً، شرقاً وغرباً، والله لن يكون لهم نصيرٌ من الله إذا حق عليهم عذاب الله ووعيده.

نعم. ذهبت الأشياء والعدد والأعوان التي اعتز بها الظالمون والمعتدون على الخلق، هؤلاء الذين اعتضدوا على غير الله وجعلوا عزتهم بالناس، وجعلوا عزتهم بالآلات أو بالذرة، أو بالإلكترون أو بالإعلام أو بالقناة الفضائية، أو بالعولمة أو بأي شيءٍ أرادوه، ستنقلب عليهم ضداً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [مريم:82] لقد جاء السحرة معتزين مغترين بعزة العبد الذليل فرعون، نعم فرعون لديه عزةٌ وقوةٌ ومنعةٌ لكنها جاهليةٌ زائلة باطلة؛ جاء أتباعه فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44] ظنوا أنهم قد تحصنوا بأمنع الحصون، فماذا كانت النتيجة؟ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [الشعراء:45-46].

إذا جاء موسى وألقى العصا     فقد بطل السحر والساحر

هذا هو الكاذب الجاحد المخرف، لماذا يعبد الأصنام؟ لماذا يشرك بالله؟ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً [مريم:81] اتخذوها تعززاً وتقوياً، فماذا كانت النتيجة؟ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [مريم:82] والمراد بالضد هنا: ضد العز وهو الذل، أي: يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه، كأنه قال: وتكون الآلهة عليهم ذلاً ووبالاً، لماذا يجادل أهل الباطل عن باطلهم؟ والكفار عن كفرهم؟ وهذه الحرب الفكرية الإعلامية لماذا يتسلطون بها؟ السبب في ذلك عزةٌ زائفةٌ يشعرون بها ويجادلون لأجلها، وصدق الله العظيم: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:2] هذا أحد المنافقين يقول: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8] فيدعي لنفسه أنه هو الأعز، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، يزعم المنافق أنه الذليل، وكذب وأيم والله!

فما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها     أعز وأوفى ذمة من محمد

فهذا المنافق ينسب الذلة إلى رسول الله، عبد الله بن سلول رأس النفاق، فماذا كانت النتيجة؟ يقف له ابنه المؤمن على باب المدينة قائلاً: لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك ولو كنت أبي، فقال ابن سلول : ويحك أفاعلٌ أنت؟! قال: نعم. فلما رأى منه الجد، قال: أشهد أن العزة لله ورسوله، نعم. الآن آمن وقال ونطق كما قال فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90].

أيها الأحبة: كل عزةٍ قامت على باطلٍ سوف تزول، وكل اعتزازٍ غير موصولٍ بالله فهو بوارٌ وخسار، ومهما ابتغى بعض الناس العزة بغير هذا الطريق فلهم الذلة، وأناس انتهجوا طرقاً وأحوالاً للوصول إلى عزةٍ أو منعة أو رفعة لكن بغير طريقٍ تمت للدين بصلة، فماذا كانت النتيجة؟ كان البلاء فيما طلبوه، وكانت الذلة فيما تبعوه، وكان البوار والخسار فيما سألوه، انظروا إلى المنافقين، لماذا يوالي المنافقون أعداء الله؟ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النساء:139] ولذلك وبعد هذا بآيات حذر الله عباده المؤمنين من طريق هؤلاء وصنيعهم، فقال سبحانه بعد ذكر النفاق وأحوال المنافقين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً [النساء:144] ثم ذكر سبحانه مصير المعتزين بالكافرين الموالين لهم، فقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا [النساء:145]. الذين يطلبون العزة من الكفار والمنافقين لن يجدوا عزةً عند أقوامٍ مساكنهم الدرك الأسفل من النار، هذه طريقٌ لا يريدها الله، وأي عزةٍ تأتي على منوالٍ لا يريده الله فهي ذلةٌ في الدنيا وهوانٌ في الآخرة، هذا فرعون الذي اعتز بالتراب والماء ونسي خالق السماء، يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] ما سبب العزة عنده؟ ما صلته بالعزة؟ ما مؤهلات العزة لديه؟ مارصيد العزة عنده؟ أرضٌ ومالٌ وجاهٌ وسلطة أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] انظروني في كثرة مالي وفي قوتي وفصاحتي، وفي المقابل يقول: انظروا إلى موسى في ضعفه وقلة ما في يده وشيءٍ من عيه، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] وخدع الناس بهذه العزة الزائفة، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54] فما كانت نتيجة هذه العزة التي أساسها الشرك والظلم والتدجيل، ما هي نتيجتها؟ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ [الزخرف:55-56] إن أناساً طلبوا العزة والشهرة والرفعة عن طريق الإعراض والمحاجة لله ورسوله، هذا أبو جهل يمشي متبختراً مدعياً أنه أفضل وأعز أهل مكة وأكرمهم، فماذا كانت نتيجة عزته الواهمة والموهومة القائمة على الباطل؟ انظروا واسمعوا خبر عزته بكلام الله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] والأثيم هو: أبو جهل، وكل من لف لفه وسلك مسلكه إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:43-49] أي عزةٍ تتعلق بها، أي عزةٍ تدعيها؟ يقال له هذا تهكماً وهو في حالٍ من الذل والهوان في الدنيا والآخرة.

أيها الأحبة: عزتنا ورفعتنا وعلونا وشموخنا هو إيماننا وتوحيدنا وإسلامنا، من أسلم وآمن فقد علا وارتفع علواً يرفعه عن حياة أذلاء الأصنام والأوثان، الذين يخضعون لها، إن أي مسلمٍ هو في قمةٍ وعزة، وأي كافرٍ فهو في منتهى الذلة، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] إذا أشرك تنازل عن عزته وعليائه، وتأمل كيف قال تعالى: خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ [الحج:31] لأن الإسلام نقله من حضيض الغبراء إلى شامخ العلياء، ولأن الإيمان يرفع المؤمن من مزبلة الوثنية إلى مقامات الإيمان والدين، نعم. المؤمن في السماء علواً ورفعة وعزة، ولكن حينما يتنازل المؤمن عن إيمانه، وحينما يخدش إيمانه ويجرحه ويرتكب ما يقدح في إيمانه فهو يتنازل عن عليائه وعزته بقدر ما يرتكب من خدوشٍ أو تكسيرٍ في جدار إيمانه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] إن هو ضل عن الإيمان ضلالاً كاملاً، إنسانٌ لا قيمة له، ذليلٌ أمام الخميلة والخميصة والمرأة والشهوة والخرافة، ليست العزة صراخ، وليست العزة كلمات وليست العزة صيحات وشعارات.

إن العزة أن تتزخرف لك امرأة ذات منصبٍ وجمال، فتقول: إني أخاف الله رب العالمين، إن العزة أن تكون الأنهار من الأموال تجري من تحتك وأنت عطشان جائع، فتقول: لا آكل إلا ما أحله الله.

إن العزة أن تلبس الخلق من الثياب وأنت مسئول عن خزائن اللباس الجديد فلا تسرق من اللباس متراً.

إن العزة أن تتصرف ولا حسيب ولا رقيب عليك فتجعل ربك رقيباً حسيباً، وتقول: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] من أراد الرفعة فليطرق باب الله العزيز القوي المتعال.

ومما زادني شرفاً وتيهاً     وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيرت أحمد لي نبيا

إن مقام العبودية يحمل معنى العزة والرفعة، وإن الهروب من العبودية يعني الذلة والهوان للأعتاب والأحجار والأوثان، وكلما بعدت عن طاعة الله فأنت ذليلٌ بخلق الله، وكلما بعدت عن مرضات الله فأنت ذليلٌ لشهواتك وملذاتك.

أيها الأحبة في الله: لقد صدق ابن القيم رحمه الله حيث قال:

هربوا من الرق الذي خلقوا له     فبلوا برق النفس والشيطان

إن الإيمان هو الذي أعز ورفع وأعلى أمةً كانت شراذم مشتتة فجمعها، ضعيفة فقواها، جاهلة فعلمها، ذليلةً فأعزها، لقد نقلها من الذلة إلى العز، ونقلها من عتبات اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ومن يغوث ويعوق وسواع ونسر وغيرهم إلى منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] إن الإيمان وعزته هو الذي جعل بلالاً العبد الأسود سيداً يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم خشخشت نعليه في الجنة، ليكون مؤذن الإسلام الأول الذي تحفظ الملايين اسمه وتحب لونه، ما الذي رفعه؟

إن بلالاً لا يملك شجرةً طويلةً ولا لوناً ولا جمالاً، لكنه يملك شجرة الإيمان وجمال التقوى، يملك لا إله إلا الله، العلم سبيل العزة والرفعة والكرامة يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] التقوى: هي العزة والكرامة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] إن هذا القرآن الذي بأيدينا، وهذه السنة التي هي مدونةٌ محفوظةٌ بحمد الله، وهي ذكرٌ لنا، وسمعةٌ طيبةٌ لنا، وهي عزٌ لنا وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخري).

أيها الأحبة: كم من أقوامٍ عاشوا في عزةٍ واهمين، فلما سطعت بروق عزة الإسلام والمسلمين جعلتهم في حضيضٍ من الذلة والهوان، عن جبير بن نفيرٍ قال: [لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! تبكي في يومٍ أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: يا هذا، ما أهون الخلق على الله، بينما هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى].

نعم. إنه يدرك ما أصاب هؤلاء، إنما هو بسبب تركهم أمر الله، يقول تعالى: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ [غافر:29] هذا الرجل الصالح والعبد الصالح يبين لقومه أن الذلة والسقوط من العلياء إلى الهوان، وأن الانتقال من العز والتسلط والملك في الأرض إنما هو بسبب الإعراض عن هدي الله وشرعة يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29].

إن الإسلام حينما دعانا إلى العزة هدانا إلى أسبابها وبين أسبابها وذكر موانعها، ومن أسباب العزة للمسلمين: الجهاد، وإن ما نراه من ذلة المسلمين اليوم هو أن الجهاد لم يقم على الوجه الذي شرعه الله (ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا أو ذُلوا) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).

أيها الأحبة: إن هذا الدين يعلمنا العزة في كل أحوالنا حتى في الدفاع عن أدنى حقوقنا، إن المدافع عن نفسه وعرضه وأهله شهيد، كل ذلك ليقوى جانب العزة وليضعف جانب الذلة وليزول جانب الهوان، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة:29].. فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194].. قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14].. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] كل ذلك حماية للوطن وللأنفس وللدين قبل ذلك وللمجتمع، جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم ، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

ليس من المستساغ أن يفرط المسلم في عزته وإبائه، أو يرضى بالذل أو القهر والهوان، إن المسلم لا يخشى فقراً، إن المسلم لا يمكن أن ينال ذلة أو أن تقع به الذلة، إذا كان مؤمناً حقاً لا يخشى ذلةً، وإن كان فقيراً لا يملك شيئاً، ولا يخشى ذلة وإن كان يواجه تسلطاً، ولا يخشى ذلة وإن كان ليس له حسبٌ أو نسبٌ أو مرتبة أو جاه، لأن العزة في هذه القلوب:

فالنور في قلبي وقلبي في يدي     ربي وربي حافظي ومعيني

تالله ما الدعوات تهزم بالأذى     أبداً وفي التاريخ بر يميني

أيها الأحبة في الله: إن المؤمنين يتزينون دائماً ويعتزون بزينة التعفف والقناعة، والرضا بقدر الله، أولئك لا يذلون لأحد لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [البقرة:273] إن الوصول إلى مرحلة التعفف أمرٌ يحتاج إلى رصيدٍ كبيرٍ من الصبر والتجمل والتحمل لكل الظروف القاسية دون ضراعةٍ لأحدٍ إلا الله، وهكذا كان خيار خلق الله بعد أنبيائه كانوا على هذه الشاكلة؛ كانوا يعلمون أن عزة النفس لا يمكن أن تكون إلا بالتعفف عما في أيدي الناس، والتعفف عن الحاجة لهم قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغنائه عن الناس) أما الذين يظنون أن عزة النفوس لا تأتي إلا بعد شبع البطون وامتلاء الجيوب، فالغني عندهم هو الذي يملك أن يكون عزيزاً، وأما الفقير فهم يرونه ذليلاً خاضعاً ولا ينبغي له إلا أن يذل ويخضع في نظرهم، وفشت هذه المفاهيم في كثيرٍ من المجتمعات المعاصرة إلا من رحم الله، وفشا معها عند بعض الأغنياء الطغيان والتكبر، كما فشا معها عند بعض الفقراء الخلوع والمداهنة والتملق والنفاق، هؤلاء والله لا يعرفون إلى العزة سبيلاً.

إن اعتزازك بالله يجعلك أن تقدم حكمه وقرآنه وشرعه ودينه وأمر نبيه على كل القوانين، وعلى كل الشهوات وعلى كل الأهواء وعلى كل شيء، فلا ترضى بذلك بديلاً، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

أيها الأحبة في الله: إن أي إنسان يتنازل عن دينه ومنهج ربه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم في مجالات الحياة، فإنه ينال الذلة في المجالات كلها، وأي مجالٍ فقدت فيه الاتباع والخضوع والانقياد لله ولرسوله فإنك تنال ذلةً في هذا المجال، فهو مكيال إن وفيت بالأداء والاتباع وفيت لك العزة، وإن طففت في الاتباع والانقياد حرمت من العزة ووقعت في الذلة بقدر ما غيرت وبدلت.

هذا ما تيسر جمعه في عجالةٍ قصيرةٍ حول هذا الموضوع، وإني لأعلم أن في القوم من هم بالمقال أعلم من القائل، وبالكلام أعرف من المتكلم، وفي الزوايا خبايا، وإن بني عمك فيهم رماح

وأيم الله ما نسب المعلى     إلى كرمٍ وفي الدنيا كريم

ولكن البلاد إذا اضمحلت     وصوَّح نبتها رعي الهشيم

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وارحم اللهم موتانا وموتى المسلمين، وأصلح اللهم ولاة أمورنا أجمعين، اللهم اهد ولاة أمورنا واجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تفرّح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً يا حي يا قيوم، اللهم صل على محمدٍ وآله وصحبه.

ضابط العزة في الإسلام

السؤال: ما هو ضابط العزة في الإسلام وخاصةً في هذا العصر؟

الجواب: ضابط العزة لدين الإسلام الانقياد لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس بعزيزٍ لو ادعى العزة وهو ذليل في حضيض الشهوات والمخالفات، هذا أولاً.

الثاني: أن هذه العزة بما تحمل صاحبها عليه من ترفع النفس عن سفاسف الأمور وذميم الأفعال والأقوال لا تدعو المسلم إلى احتقار الآخرين، أو التكبر عليهم، أو غمطهم أقدارهم، أو النظر إليهم بعين النقص والازدراء، بل من تمام العزة أن تكون إيجابيةً في الالتفاف لكل هؤلاء ممن يراهم من المخالفين والمتساهلين أو العصاة، ليقوم بما أوجب الله عليه تجاههم من واجب الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والرفق واللين والموعظة الحسنة، فإن ذلك لا يسقط من قدر عزته شيئاً.

لا تظن أن عزتك تتضعضع لو أنك مهما بلغت من الشهادات العليا، أومن ذوي المراتب والمناصب، لا تظن أن عزتك تتضعضع إذا ذهبت إلى قومٍ تنصحهم وتدعوهم إلى الله عز وجل، ولو في أركس المواقع أو أشدها ضلالاً أو أكثرها فساداً، ما دمت واثقاً بأنك تحافظ على نفسك وتسلم على إيمانك ودينك، لا تظن أن العزة تدعوك لتقول للعصاة: تعالوا تعالوا إلي هنا، وأما أنا فلا يليق بي أن أنزل إلى مستواكم أو مواقعكم أو أنديتكم أو استراحاتكم أو مجالسكم أو ديوانياتكم أو غير ذلك، لا. إن بلوغك في أماكنهم وغشيانك لهم في مجالسهم لا يغض من قدر عزتك شيئاً أبداً.

العزة درجات

السؤال: هل للعزة درجات؟ أم هي عزةٌ واحدة؟

الجواب: لا شك أنها درجات، فبقدر عناية العبد لتحقيق أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو ينال منها أعلاها، وبقدر ما يقصر في ذلك تفوته من العزة بمقدار ما قصر.

العزة الحقيقية لدى المرأة

السؤال: لا شك أن للمرأة -أيضاً- عزة، فلو بينت أو ألقيت شيئاً من الضوء على ذلك، وأحياناً تفهم المرأة فهماً مغالطاً وهي أنها تغتر بنفسها وبلبسها فتسمي ذلك عزةً؟

الجواب: ليست العزة للرجال والنساء في لباسهم كما مر معنا، إنما العزة في طاعة الله عز وجل، والذلة في معصية الله، وكما قال الحسن البصري رحمه الله: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه] فليست العزة في مرتبةٍ ولا منصبٍ ولا جاهٍ ولا حسبٍ ولا جمالٍ ولا غير ذلك، إنما هي في طاعة الله عز وجل، وليس من العزة نشوز المرأة على زوجها، أو استنكافها عن طاعته، أو تكبرها عن الانقياد لأمره، أو نفورها عن كرامته التي جعلها الله له الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] فانقياد المرأة لزوجها خضوعها، تبعلها، حسن عنايتها بخاطر زوجها، ذلك من صميم عزتها ولا يقدح في عزتها شيئاً، بل إن استنكافها ونشوزها وإعراضها عنه وعن حسن الأدب معه أو عن فراشه أو حاجته، لدليل ذلتها وطاعتها للشيطان واستنكافها أن تطيع الله عز وجل لما أمر من طاعة زوجها.

كذلك من العزة التي نريدها للمسلمة اليوم أن تعتز بحجابها في مجتمعٍ أو في وسطٍ إعلاميٍ غارقٍ بالصور والأصوات والكلمات الداعية إلى التبرج، بل إلى التفسخ والإباحية والانحلال، وأي عزةٍ تراها وأي شموخٍ تراه في فتاةٍ أعظم من فتاةٍ تراها محتشمةً محجبةً صيّنةً دينّةً قاصرة الطرف عن كل ما حرم الله عز وجل، وإنا والله في خارج البلاد أو في داخلها حينما يمر الواحد في طريقٍ فيرى امرأة متحشمة متحجبةً صيّنةً عليها سماة الخلق والحياء والدين، لا يملك إلا أن يطأطأ داعياً لها بالعز والستر والتوفيق والسعادة وصلاح الذرية والزوج، وأيما امرأة يراها الواحد حاسرة متعطرةٌ متبرجةً لا يملك إلا أن يحوقل أو يحسبن فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فهم العزة فهماً مقلوباً

السؤال: فضيلة الشيخ! كثيرٌ من الأسئلة تتحدث عن التشبه بالكفار في مثل: القصات ومثل التفحيط بالسيارات أو تقليدهم في لبسهم أو غيره، فيعتبره البعض أنه من التمكن والتقدم ومن العزة؛ لأن الغرب الآن في تقدم وتطور، فما هو توجيهكم حفظكم الله؟

الجواب: هذا من الفهم المقلوب في قضايا العزة، لو أن رجلاً قتل أباك أو جدك وكان لهذا القاتل سمةٌ في لبسٍ أو لهجةٍ أو صفةٍ معينة، أفيسرك أن تقلد هذا القاتل في لهجته ولبسه وعاداته وانحرافاته؟

الجواب: لا. إنك تمقت كل ما يذكرك بهذا المجرم المعتدي، فمن ذا الذي يسره أن يقلد القتلة الذين أوسعوا المسلمين تجويعاًً وسفكاً وقتلاً وتشريداً وتدميراً، اليهود الذين امتلأت سجونهم بإخواننا الفلسطينيين، اليهود الذين هدّموا البيوت والدور على الأبرياء والفقراء والمساكين؛ تخيل أنك جالس في البيت وإذا بالجرافة تأخذ الجدار الذي أنت مستندٌ إليه ثم تحمل بقية أثاثك وعفشك وكل شيء في بيتك ويُرمى بها في الشارع، هذا هو الذي يدور الآن في فلسطين ، ويؤيدهم النصارى ويؤازرونهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الأنفال:73] فهل يسرنا أن نقلد سفلتهم أو أن نقلد المجرمين منهم والقتلة والسفاحين الذين هم في مجتمعاتهم.

للأسف أن بعض شبابنا أصبحوا يقلدون سفلة شباب الغرب، لم يقلدوا أناساً يتفقون مع عامة الناس، ليست القضية لبس بنطلون وكوت، لأن هذا أصبح منتشراً في العالم الإسلامي، لكن القضية أنهم يقلدونهم في أشياء أخرى، فتجد شاباً يضع السلسلة في يده أو على رقبته ويجعل قرطاً في أذنه اليمنى أو اليسرى ويجمع شعره ويجعله ظفيرةً كما تجعله النساء تقليداً، ليس كما كانت العرب تفعل من قبل إكراماً وترجلاً وغير ذلك، لا. فهذه من المصائب، فالآن بدأت تظهر -ولا أقول: انتشرت حتى أكون دقيقاً في العبارة- بدأت تظهر علامات جماعات الهيبز، تجد أحياناً في الإشارة المرورية أربع دبابات سود من الدبابات الضخمة، وأصوات مزعجة وعليها شباب ظلماتٌ بعضها فوق بعض، شيء غريب جداً، وآخرين يرفعون صوت الموسيقى الغربية ويترنحون ويتراقصون طرباً ولهواً وغفلةً وكل ذلك تقليداً، وفي زمن العولمة ما يرى البارحة في أمستردام ربما يفعل صباحاً في قرية أو في بيتٍ أو في حارة، ما يفعل البارحة في جوتن بيرج أو في السويد أو في أي مكان، يفعل الصباح في قريةٍ أو في مدينةٍ صغيرة، فهذه مشكلة التبعية والهوان، وإن من مقاصد ديننا مخالفة أعداء الإسلام، بل صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً عظيم القدر سماه: إقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فينبغي علينا أن نتميز ونخالف اليهود والنصارى، بل ديننا لو تأملت كثيراً من الأمور لعلمت أننا نخالفهم في أشياء كثيرة جداً، وفي رسالة حجاب المرأة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، في فصل ذكر فيه بالأدلة -أي: جمعها بالاستقراء جمعاً مفيداً جميلاً لطالب علمٍ باحثٍ أو مستفيد- المواضيع التي فيها بالأدلة أن من ديننا ومن هدي نبينا صلى الله عليه وسلم مخالفة الكفار:

إليك تعدو قلقاً وضينها

معترضاً في بطنها جنينها

مخالفاً دين النصارى دينها

فلا بد أن نعتني بهذه القضية، وأن نتجنب التشبه لا من رجالنا ولا من نسائنا، والحال عند بعض الرجال والنساء هو الفخر بالمسابقة إلى التقليد والتشبه.

الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين لا يمنع من التعامل التجاري مع الكفار

السؤال: هل من العزة أن يترك الإنسان البضائع التي تأتينا من الغرب؟ وهل توجد بعض الكتب أو المراجع التي تدلنا عليها في هذا الموضوع؟

الجواب: كون المسلم يشتري من الغرب أو يبيع أو يتاجر معهم؛ المعاملات المالية شيء، والولاء والبراء شيءٌ آخر، لا تظن أن الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين يمنع من التعامل التجاري والتعامل المالي مع الكافرين، النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي، وعامل المشركين وأضافوه، ودخل بيوتهم، وتوضأ من مزادة مشركة، ودعاه يهودي إلى خبز شعير و...... وكانت تأتيهم ثياب وربما لبسوها وسألوه صلى الله عليه وسلم عن ملابسهم وعن أحوالهم فما حفظ في الهدي النبوي أننا نهينا، إلا ما ورد النهي عنه لذاته؛ كالثياب التي فيها الحرير -مثلاً- لغير حاجة، أو لبس الذهب أو ما كان فيه تشبهاً بالنساء، فهذا الأمر لا شك أنه من تمام الولاء، أنك إذا كنت بحاجة إلى عمالة أو بضاعة أو غير ذلك ووجدت حاجتك من بلادٍ مسلمةٍ فمن الأولى أن تكون حاجتك ومشترياتك وتوريداتك من بلاد المسلمين، من أي شيءٍ كان؛ عمال أو بضائع أو آلات أو أجهزة بدلاً من أن تقوي اقتصاد الكافرين، المقاطعة سلاح لو يجمع المسلمون على مقاطعة سلعة تجارية من سلع الكفار لأشعرناهم أن المقاطعة والبراء سلاح من أخطر الأسلحة، لكن المسلمين اليوم لا يستخدمون مثل هذا السلاح الفتاك ولا أدري ما السبب؟

الحث على التبرع للجنة تيسير الزواج

السؤال: لجنة تيسير الزواج معلمٌ على طريق الأسرة السعيدة الحقيقية، هذا اليوم سيكون بإذن الله عز وجل الجمع لهذه اللجنة المباركة الفتية فنأمل من فضيلتكم حفظكم الله أن تحثوا الناس على هذا الواجب؟

الجواب: حقيقة إعانة الشباب على الزواج فيه من المصالح ما لا يخفى وما يضيق المقام عن حصره، وإن القليل مع القليل كثير، ينبغي أن نحرص على هذا وأن نشعر بأهمية هذا الأمر بتكثير نسل أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفي إعداد الشباب وإعانتهم على غض أبصارهم وإحصان فروجهم، وكذلك الفتيات ،والله يعلم مدى ما يعانيه الشباب والشابات من المعاناة من تأخر الزواج أو عدم القدرة عليه، لذا فإني أدعو كل إخواننا أن يجتهدوا ويقدموا ما يستطيعون، وأن يتعاونوا مع هذه اللجنة، وأعتبر هذه المحاضرة فرصةً بإذن الله مباركةً من جميع الأخوة جزاهم الله خيراً أن يساهموا في هذا المشروع، وستجدون على الأبواب من يجمع التبرعات وكذلك حتى في مكان النساء، فالله الله أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا خيراً تجدونه عند الله، وتصدقوا فإنها صدقةٌ نافعة قد تطفئ الخطيئة وتدفع غضب الرب، وترد أبواباً كثيرة من البلاء، وتنفعون بها أمتكم وإخوانكم أجمعين، فاجتهدوا جزاكم الله خيراً، فما نقص مال من صدقة، فاجتهدوا وأكثروا من الإنفاق والصدقة في هذا الباب.

الاعتراف بالتقصير

السؤال: هناك مجموعة من الأسئلة تكلمت عن كثير من الشباب أنهم أخيار وطيبون ويعملون الخير ولكن للأسف؛ يجدون في نفوسهم تقصيراً كثيراً من جوانب ضرورية وخاصةً من جهة الواجبات؛ فيفرطون -مثلاً- في صلاة الفجر، عندهم مشاكل مع أنفسهم في الخلوة، ذكر شخصٌ آخر أنه ينظر أحياناً إلى بعض المحرمات التي تعيق، فيقول: إنني حاولت مراراً وتكراراً أن أرجع إلى الله وألا أعود لمثل هذه القضايا، ولكن تتغلب النفس علي، فأرجو من فضيلتكم تبيين مثل هذا الطريق المناسب في هذه الأمور؟

الجواب: وجود مثل هذا النوع من الشعور دليل خيرٍ لأنه يندم على كل معصيةٍ اقترفها سراً، وليعلم العبد أن الله عز وجل جمل العباد بستره فأظهر الجميل وستر القبيح، ولا نظن -أيها الأحبة- أن الصلاح أو الاستقامة هو توفير لحيةٍ أو تقصير ثوب، إنما هو صلاح السيرة والسريرة والظاهر والباطن والسر والعلانية، ولكن إن زلت القدم، أو حصلت الهفوة، فهل هذا يعني أن الواحد أصبح السبيل بينه وبين الصلاح والالتزام مقطوعاً، والهوة سحيقة والفجوة بعيدة، ولا يمكن أن يعود إلى ركب الخيار والأبرار؟

الجواب: لا. وإني أحذر من وسوسةٍ شيطانيةٍ تأتي إلى بعض الشباب بعد أن يقع منه ما يقع من معصيةٍ أو زلةٍ أو هفوةٍ في ليلٍ أو ظلمةٍ أو غفلةٍ أو خلوةٍ أو غير ذلك، فيأتيه الشيطان ويقول: أنت بين أمرين: إما أن تستمر على التزامك الظاهر بعد الذي فعلت فتكون منافقاً، لأنك في الظاهر متدين وفي الباطن فعلت ذلك، وإما أن تسلم من النفاق فتكون كسائر الناس، احلق لحيتك، واسبل ثوبك، واسمع مثلما يسمعون، وانظر إلى ما ينظرون واسكت، ولا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر حتى تسلم من النفاق، فيأتيه الشيطان من هذا الباب، فنقول: هذا باب ٌخطر، بل الواجب من زلت به قدمٌ أن يبادر إلى التوبة والاستغفار، فأنت مأجورٌ على اتباع السنة في ثوبك وفي إعفاء لحيتك، وأنت مخطئٌ فيما أذنبت من ذنب فبادره وعالجه بالتوبة والاستغفار وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن) ابحث عن الصحبة الصالحة، لا تطل خلوتك بنفسك، لا تجعل أغلب أيامك وأوقاتك بعيداً عن الطيبين وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] لا تكن قاصياً مبتعداً، إنما الذئب يأكل من الغنم القاصية، بهذه الأسباب مجتمعة بإذن الله فأنت تطفئ بالأعمال الصالحة نار السيئة، واجعل هذا ديدنك، إذا أذنبت فأتبع الذنب فوراً بأعمال صالحة: بقراءة قرآن.. بصدقة.. باستغفار.. بأفعالٍ خيرة، وقع الذنب مرةً أخرى في الأسبوع الثاني الحمد لله على ما ستر، فأتبعه بالعمل الصالح وبالتوبة وبالاستغفار غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:3] ارجع إلى الله غافر الذنب قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ليست الرحمة للمسرفين، وأنت وقعت في ذنب أو ذنبين وأنت متدين تقنط من الرحمة؟ الرحمة لعباد الله أجمعين (ورحمتي سبقت غضبي) رحمة الله واسعة سبقت كل شيء، فتعلق برحمة الله ولا تكن ممن مردوا على المعصية سراً وإظهار الصلاح ظاهراً، لأن ذلك من دلائل النفاق والعياذ بالله، لكن إذا حصلت منك زلة أتبعها بالاستغفار من غير أن تكون عادة منك وتندم عليها وتقلع، حتى لو وقعت في مثله في المرة الثانية والثالثة، أقلع وبادر وتب إلى الله عز وجل لكن لا تستمرئها وتجعلها شيئاً عادياً لا تبالي به ولا تأبه به، ما دمت تستغفر فأنت بخير، وبإذن الله إذا صدقت التوبة فلن تعود، أما من أدمنها وأصبحت ديدنه وعادةً له ولا يبالي، بل هو في الظاهر صالحٌ وفي الباطن فاجر، فيوشك أن يقع منه الحديث: (يأتي أقوامٌ يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وأعمالٍ كالجبال، يجعلها الله هباءً منثوراً) فعظم الأمر على الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ومن كان هذا دأبه وديدنه وطبعه، في السر ألوان من المناكر والمعاصي والفجور، وفي الظاهر يدعي الصلاح، فلا شك أن هذا نفاقٌ وعلى خطرٍ أن يحبط عمله في الآخرة، أما من كان مجتهداً في الصلاح ظاهراً وباطناً سراً وعلانية، ثم وقعت منه الزلة فإن ذلك يدعى إلى التوبة والإنابة والاستغفار، ولا يعد نفسه من المنافقين فيقنط من رحمة الله، أو يقول: ما عاد ينفعني العمل أبداً، إن الصحابي الذي شرب الخمر فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم فيه أحد الصحابة قال: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به من خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فإني ما علمته إلا يحب الله ورسوله).

بالمناسبة ينبغي للطيبين أن يرحموا إخوانهم، أنا ألاحظ بعض الطيبين لو أن أحد إخوانهم من الشباب الطيب وقع في زلة أو في معصية أو مرت به ظروف، أو تغير أو أصابته حالة من الحالات -مثلاً- كان حديث المجالس، فيقال: فلان حلق لحيته، فلان أسبل ثوبه، فلان أصبح يتفرج فلان، ثم نشروا خزيه وعاره وأفعاله بين كل الطيبين وعادوه عداوةً لا يفتحون له باب العودة أبداً، سبحان الله العلي العظيم! الرسول صلى الله عليه وسلم لما جيء له بهذا الصحابي الذي شرب الخمر هل قال له: نعم، أمامنا صحابي ووراءنا شارب خمر؟ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما قال: (لا تعينوا عليه الشيطان، فإني ما علمته إلا يحب الله ورسوله) فينبغي ألا نقسم مجتمعنا إلى أقسام وأحزاب، هؤلاء طيبون، وهؤلاء ملتزمون، هؤلاء علمانيون، وهؤلاء فجار، وهؤلاء...، نحن أمةٌ واحدة ولا نريد أن نتقسم، فينا السابق بالخيرات وفينا الظالم لنفسه وفينا المقتصد؛ فمن وجدناه منا كان سابقاً بالخيرات فانقلب ظالماً لنفسه نقابله بالنصيحة، نتقرب إليه ونتودد إليه ونتألفه ونستضيفه من جديد ونهديه ونناصحه، ونصيحة السر: نصيحة الرسالة والمودة والمحبة، نعيد له مكانته من جديد، لا نتفرج عليه ونتشمت به ونذله ونخزيه، حتى إن بعض الشباب تراه لو أقبل عليه بعض إخوانه وقد حصلت منه زلة ما رد عليه السلام، ولو دعي في مجلس اصفهر في وجهه وقطب جبينه ونظره شزراً وأخذ يغمز ويلمز يمنةً ويسرة كأنه يريد طرده من المجلس، أو إذا قيل له: تعال واجلس معنا. قال: فلان معكم، أنا لا أريد أن أحضر، لا يا فضيل بن عياض ويا إبراهيم النخعي، ما حصلت منك زلة أبداً، وما أخطأت أبداً، اتق الله عز وجل ولا تعامل إخوانك بهذه الصيغة؛ مسلم زل، رب العالمين أرحم به منك ومنه، افتح له باب الأمل، وباب الرجاء وباب العودة حتى توظف طاقته من جديد، لو أن السيارة إذا خربت رميناها في المزابل وأحرقناها لما وجدنا سيارة توجد في الشارع، كل سيارة تخرب نعيد إصلاحها ونستخدمها مرة ثانية، كل شاب عندما يقع منه زلة نعيد تربيته ونستمر من جديد، وإصلاح خلل الصاحب والصديق أهون من البحث عن صديقٍ جديد، إصلاح الخلل الذي تراه في صديقك أو جليسك أو أخيك هذا أهون بكثير وأقل بكثير من مراحل البداية الجديدة، وإن كان هذا لا يمنع من أن ندعو الناس جميعاً لكن عندنا خلل في بعض المفاهيم الدعوية لعلنا أن نفردها في محاضرةٍ إن شاء الله.

الشيخ ابن باز قبل وفاته رحمه الله

السؤال: فضيلة الشيخ! كثيرٌ من يسأل عن أحوال وأخبار سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز؟

الجواب: والله لا أحد يسأل عن الشمس إذا طلعت، سماحة الشيخ شمسٌ مشرقة أسأل الله عز وجل أن يمد في عمره وهو الآن في عمر التسعين، ماذا أقول وكلنا يكل وينقطع حينما يريد أن يباري جانباً من جوانب سيرة الشيخ:

فمن يباري أبا حفص وسيرته     أمّن يحاول للفاروق تشبيها

الشيخ من يباريه في كرمه يكل، ومن يباريه في حلمه يكل، ومن يباريه في علمه يكل، ومن يباريه في صبره على الناس يكل، ومن يباريه في قضاء حوائج الناس يكل، ومن يباريه في تواضعه يكل، وأحمد الله عز وجل أن أرانا في هذا الزمن أو في دبر هذا الزمن من آياته في عباده الصالحين المؤمنين ما يشهد ويؤكد أن هذا الدين يمكن أن تتحقق سماته وصفاته وأحكامه وأركانه وآدابه في مثل هؤلاء العلماء، سماحة الإمام لا يقوم العشرات من الشباب الأقوياء بالدور الذي يقوم به الآن، وإن كان ذلك من شيءٍ فإنما هو ببركة الله عز وجل له وعليه وفيه بإذن الله عز وجل.

سأله رجلٌ موريتانيٌ قدم من المنطقة الشرقية وسأل الشيخ قال: يا شيخ! أنت رجل كبير في السن، وبرنامجك مشغول من قبل الفجر إلى ما بعد العشاء؛ تهجده قبل الفجر، ثم صلاة الفجر، وبعد الصلاة درس، وقد تعمدت مراراً أن أصلي الفجر خلفه في المسجد مراراً فإني أعجب ونحن شباب ما بلغنا الأربعين الواحد يراوح بين قدميه من تعبٍ في الوقوف، والشيخ كأنما هو سارية لا يتحرك، صلاة الفجر والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حريصٌ على السنة بالإطالة في صلاة الفجر والشباب يراوحون بالكعب، يعني: من طول القراءة والشيخ كأنه سارية لا يتحرك بل والله لو كان في المسجد طيرٌ لوقع على رأسه يظنه ليس بمتحرك، ثم بعد الصلاة درس إلى أن ترتفع الشمس أو إلى أول الضحى، ثم يعود إلى الإفطار في بيته والضيوف ينتظرونه من فقراء المسلمين وذوي الحاجات، وفرقٌ بين أن يكون ضيوفك من ذوي الجاه والمناصب والأثرياء والتجار فأنت تسبقهم وترحب وتفخر أنك تضيفهم، لكن إذا كان ضيوفك كل يوم وكل صباح ومساء الفقراء والمساكين وذوي الحاجات لا يمكن أن تصبر وتطيب، قل من يطيق ذلك، ثم يفطر معهم ويكرمهم ويدخل في البيت قليلاً ثم يذهب إلى الإفتاء -رئاسة الإفتاء- وبعد الصلاة جلسات الهيئة الدائمة، ويعود الظهر إلى البيت ليجد أن الضيوف من الفقراء وذوي الحاجات الغالب منهم ينتظرونه في الغداء فيتغدى معهم، ويلاطفهم ويسمع من حاجاتهم ويعرض عليه من معاريض الناس وحوائجهم، ثم يؤذن للصلاة فيقوم يصلي، ويلقي درساً بعد صلاة العصر، ثم يعود ليرتاح شيئاً من الوقت، ثم يستيقظ قبل أذان المغرب لصلاة المغرب ودرس بعد الصلاة أو درس عام في الدروس الرسمية العامة، ثم بعد العشاء تأتي الإذاعة والمقابلات واللجان والأوراق والمعاملات فلا يأوي إلى فراشه إلا وقد أنهكه العمل، وهذا كل يوم لا يعرف إجازة، فيقول هذا الموريتاني: يا شيخ! كيف تصبر على هذا؟ قال: فأعرض عني الشيخ، قال: فسألته ثانيةً وثالثةً وألححت عليه، قال: يا ولدي إذا كانت الروح تعمل فالجوارح لا تشعر.

هذا واضح الآن.. لو أن شخصاً لا تريده أو لا تحبه يوقفك يتكلم معك، انظر كم تحرك رجليك مرة وكل قليل تنظر الساعة وتتلفت وتمل وتتململ ولو أنك خلوت بحبيبك

إن يكن ليلي يوماً فلكم     بت أشكو قصر الليل معه

الليل الطويل قصير دقائق كيف يمر بسرعة؟ لأنك خلوت بشيءٍ تحبه روحك فمضى الليل وأنت لا تشعر به، فكذلك الشيخ يعمل بروحه فجوارحه لا تشعر بذلك، كذلك من صلى صلاة الروح لا تمل جوارحه من الصلاة، أما الذي يصلي صلاة الجوارح وروحه غافلة سرعان ما يتململ في صلاته.

الدعاء بالمغفرة والنصرة

السؤال: نختم الأسئلة أن توجه كلمة بأن يرزقنا الله تعالى المطر وأن ينصر إخواننا المسلمين؛ لأن هناك من الأسئلة التي جاءت بالسؤال عن أحوالهم لكن الوقت لا يكفي في ذلك، وكذلك الدعاء على من وقف ضد المسلمين في كوسوفا وفي البوسنة وغيرها من الصرب وغيرهم؟

الجواب: الدعاء مطلوبٌ من الجميع، كلٌ يدعو في مواطن الإجابة وفي مواضع دعائه المختلفة، وإن كنا نسأل الله عز وجل في كل أحوالنا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، ألا يدع لنا وللحاضرين والحاضرات ذنباً إلا غفره، ولا هماً إلا فرجه، ولا ديناً إلا قضاه، ولا مريضاً إلا شفاه وعافاه، ولا حاجةً إلا يسرها، نستغفر الله ونتوب إليه ونسأله وهو الولي الحميد أن يسقينا الغيث وألا يجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم أغث العباد والبهائم والبلاد يا رب العالمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.