إمام الهدى


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في مستهل هذا اللقاء أسأل الله عز وجل أن يكون اجتماعنا وإياكم مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، وألا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.

والحديث عن إمام الهدى، وما أدراك ما إمام الهدى! ذاك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي بصر الله به عيوناً عمياً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، إمام الهدى صلى الله عليه وسلم الذي هدانا إلى الصراط المستقيم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

ذاك إمام الهدى، ولا غنى لمسلم أياً كان عن سيرته، لا غنى للملوك عن سيرته، ولا غنى للزعماء عن سيرته، ولا غنى للأغنياء والفقراء عن سيرته، ولا غنى للمتعلمين والعلماء عن سيرته، ولا غنى للرجال والنساء عن سيرته. لماذا؟

لأنه أسوة وقدوة لنا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله فعليه بالتأسي بإمام الهدى، ومن كان يرجو اليوم الآخر فليتأس بإمام الهدى، ومن كان من الذاكرين أو يطمح أن يكون من الذاكرين فعليه أن يتأسى بإمام الهدى، وما ذاك إلا لأن كلامه صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، ولأن سيرته ترجمة لهذا الوحي.

نحن بأمس الحاجة أن نعرف عنه صلى الله عليه وسلم كل شيء من أحواله، كل دقيق وجليل في حياته، كيف كان صلى الله عليه وسلم يأكل، وكيف كان يشرب، وكيف كان ينام، وما حاله في الرضا، وما حاله في الغضب، وما لباسه، بل كيف كان مشيه، وما علاقته بالصغير والكبير، وما تعامله مع الناس على اختلاف أجناسهم وأحوالهم.

حاجتنا أن نعرف سيرته صلى الله عليه وسلم: أليس هو قدوتنا؟

بلى. إذاً فلا بد أن نعرف عبادته، وأن نعرف أخلاقه، وأن نعرف حاله مع أزواجه، ولن يحيط القلم واللسان بحال إمام الهدى صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، ولكن كما قال علي بن أبي طالب في ما رواه ابن ماجة والدارمي : [إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا برسول الله أهيأه وأهداه وأتقاه].

خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس

ولنبدأ بخُلقه صلى الله عليه وسلم:

يقول الله سبحانه في شأن نبيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: [كان خلقه القرآن].

قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال رضي الله عنه: (والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، وهذا وصفه في التوراة: يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفض ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً) رواه البخاري.

وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) هذا من سمو خلقه، هذا من كريم شمائله، هذا من علو منزلته صلى الله عليه وسلم يقال له: ادع على المشركين، فيقول: (ما بعثت لعاناً وإنما بعثت رحمة).

وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، وكان يقول عند المعاتبة: ما له تربت يمينه) يعني: أصاب يمينه التراب، هذا من كريم شمائله صلى الله عليه وسلم.

ولنقف عند هذه وقفة -أيها الأحبة في الله- إن بعض إخواننا من المسلمين تجده سليط اللسان في السباب والشتائم حتى على المشركين والكفار، وأنا لا أنافح عن كافر، ولا أدافع عن ظالم، ولا أقول ذلك خشية على عرض فاجر، ولكن نقول: فلنعود ألسنتنا ما تعودناه وما عرفناه من شمائل نبينا صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان سباب الكافرين وشتمهم سيفضي إلى منكر أكبر: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] بل وفي المقابل لو قيل لأحدنا: ادع لهؤلاء الظلمة، أو ادع لهؤلاء الكفرة، أو ادع لهؤلاء الفجرة أن يهديهم الله أو أن يسخرهم للإسلام والمسلمين، التفت ضاحكاً، وسخر ملتفتاً وقال: ما شأنك وشأن الدعاء لهم؟ ألا تلعن؟ ألا تشتم؟ ألا تسب؟ ألا تقول كذا .. وكذا .. وكأنه حرام أن يدعو للضال بالهداية، وللفاجر بالاستقامة! وهذا جهل يا عباد الله.

نعم، إن الله لعن الظالمين وأعد لهم سعيراً، نعم. إن الله لعن الكافرين، نعم. إن الله لعن طوائف في كتابه: وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء:52] ولكن -أيها الأحبة- ينبغي أن نعود أنفسنا ما تعوده نبينا، ففعله وحيٌ، وقوله وحي، وسيرته وحي، فما كان سبّاباً ولا لعاناً ولا شتاماً صلى الله عليه وسلم، لقد جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ادع على دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) وكانت دوس آنذاك مقيمة على الكفر والشرك، مقيمة على حال الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) يعني: أبا جهل أو عمر بن الخطاب، فدعا لهما وهما آنذاك من الكفار.

فنحن حينما نتعلم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث لعاناً، ولم يبعث سباباً، ولم يبعث شتاماً، وإنما بعث رحمة أي: يدعو بالهدى ويدعو إلى الهداية، ويدعو بالرحمة، ويدعو إلى العفو والصفح والمغفرة، فإن ذلك يعلمنا ألا نعود ألسنتنا على السب أو الشتم أو التسلط على أعدائنا؛ فليس ذلك من الرحمة بهم، ولا اللطف بجنابهم، ولا العطف في شأنهم، ولكن حتى لا تتعود ألسنتنا السباب والشتيمة، ونظن أنه غاية خدمتنا لهذا الدين، وغاية رعايتنا لهذه الدعوة، أو نظن أن منتهى قيامنا على هذا الإسلام أن نسب الأعداء وأن نلعنهم، فإن من تعود ذلك سيكون أستاذاً في السباب، ولكن لن يكون أستاذاً في الميدان، لن يكون أستاذاً في العمل، لن يكون أستاذاً في الواقع، لن يكون أستاذاً في التطبيق، وما أحوجنا إلى ألسنة بكْم على أيد فصاح:

إنا نتوق لألسن     بكم على أيد فصاح

خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته

وعن يزيد قال: أخبرنا زكريا عن أبي إسحاق قال: حدثني أبو عبد الله قال: قلت لـعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في آله؟ قالت: [كان أحسن الناس خلقاً، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح].

أين الناس من هذا الخلق وهذه الشمائل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله؟ فلم يكن سباباً، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا يجزي بالسيئة مثلها، إن من الناس من يتعوذ أهله من سوء لسانه وسلاطته، ومن شر لسانه وخبثه، فمن الناس من لو انكسر كأس لسب، ولو انكفأ قدر لشتم، ولو انشق ثوب للطم، ولو تغير حال لضرب، أين هو من إمامه وحبيبه وقدوته ونبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان فاحشاً؟ يعني: لا يقول فحشاً من القول، ولا يلفظ بالفاحش أو البذيء أو الرديء من الكلام.

إن من الناس من تعود هذا الفحش وهذه البذاءة والغلظة، وإن من شرار الناس من تركه الناس اتقاء فحشه.

ومن الناس من هم على طائفتين في هذا:

فبعضهم تجد لساناً أحلى من العسل، وأبيض من القطن، وألين من الماء، فإذا كان عند أهله وجدت سباً وشتماً، كريم بكل خلق، وبكل قول وكلام لين، وبكل منطق عذب مع الناس أجمعين إلا مع زوجته، إلا مع أبنائه، إلا مع أولاده، إلا مع بناته فإنه لا يطيق أن يسمعهم كلمة طيبة. ما هذا الانفصام؟! وما هذا التناقض؟!

ولماذا يعامل الناس معاملة وتعامل الزوجة والأهل معاملة أخرى؟!

والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان فاحشاً ولا متفحشاً ولا بذيء اللسان.

وطائفةٌ منهم من يفتخر أنه بذيء اللسان، فاحش في القول مع الناس ومع أهله، مع القريب والبعيد، ويعدها من الفصاحة ومن البيان، ويعدها من اللجاجة والقدرة على إسكات الخصوم، وليس هذا والله بحق، وليس هذا والله من الدين في شيء، بل الدين كل الدين فيما ورد عن رب العالمين وسنة إمام المرسلين في وصفه وشمائله: ما كان فاحشاً وما كان متفحشاً، وما كان بذيء اللسان صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة: [ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادماً، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله] قالت: [وما نيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فانتقم إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله] قالت: [وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار الذي هو أيسر إلا أن يكون إثماً، فإنه كان إثماً كان أبعد الناس منه].

فانظروا في شأنه صلى الله عليه وسلم: ما ضرب بيده امرأة قط، ومن بيننا ونحن المسلمين من يجلد امرأته جلد البعير، ويؤذيها ضرباً وسحباً على وجهها، ويذيقها ألوان البلاء والأذى، أهذا من الدين في شيء؟ أعلمك الإسلام هذا أم وجدت هذا في سنة نبيك؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده امرأة قط مع أن ضرب النساء جائز بعد الموعظة والهجر: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34] وهذا الضرب غير مبرح.

ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عن ضرب النساء، جاء رجال من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! زئرن النساء على أزواجهن. أي: كأن بعضهن تطاولن على أزواجهن، فأذن لهم بضربهن ضرباً غير مبرح، ثم قال عن الذين يضربون: (وما أولئك بخياركم) يعني: أن العاقل وأن خيار الناس وكرامهم من يستطيعون أن يصلحوا الأحوال وأن يصلحوا أمورهم دون أن يلجئوا إلى ذلك، وإن لجئوا إليه فبقدر ما يحتاج البدن إلى الدواء دون تطاول.

ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتقم لنفسه

ومن شأنه وسمته صلى الله عليه وسلم أنه ما كان ينتقم لنفسه.

أما نحن في هذا الزمان فإذا ابتلينا وإذا ظلمنا في أنفسنا أو في أموالنا أو في حاجاتنا أو في مصالحنا ترى البعض يلبس هذه القضية بلباس الدين، ويظن أنه ينتقم لدين الله وهو ينتقم لنفسه، ويظن أنه يذب عن دين الله وهو يذب عن نفسه، ويظن أنه ينافح عن دين الله وهو ينافح عن نفسه، وإن تجريد المقاصد وإخلاص النيات لأمر عظيم، فالناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.

فلنتعود -أيها الأحبة- أن تكون غيرتنا وأن يكون غضبنا وأمرنا وسعينا وإقبالنا وغدونا ورواحنا خالصاً لوجه الله عز وجل، وما أعظم شأن الإخلاص في هذا الزمان! والله إن الواحد -أيها الأحبة- ليخشى أن يلقى الله عز وجل ما قبل من خطبه ولا من محاضراته ولا من أعماله ولا من سعيه ولا من كتابته ولا من كل ما يفعل شيئاً، والخطر على الجميع من متصدق أو مجاهد أو أو... إلى آخره، إذا سمع وتلا قول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39].

نعم -أيها الأحبة- إن العاقل يخشى أن ينقلب عمله فيكون هباءً منثوراً، إن العاقل إذا قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) أشرك شهرته، أشرك شخصيته، أشرك هواه، أشرك مصلحته، أشرك جانبه الشخصي، أشرك أموره، أشرك منفعته فإن الله غني عن هذا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فلنمحض الإخلاص -أيها الأحبة- قبل أن نفد على الله عز وجل فيقال لأحدنا: يا عبدي ما قبلنا صيامك! ما قبلنا صلاتك! ما قبلنا خطبك! ما قبلنا كلامك .. تأليفك .. عملك .. سعيك .. صدقتك! لأن العاقل والله يخشى -أيها الأحبة- أن يكون عمله هباءً منثوراً، وعلينا أن نجاهد وأن ندقق في هذا الأمر، وألا نخدع ذواتنا فنظن أننا نخدم الدين ونحن ربما استخدمناه، قالها رجل كبير قابلته في زغرب القريبة من البوسنة في مؤتمر لحقوق الإنسان فقال ذلك الرجل الطاعن في السن الكبير وقد التفت إلي: يا بني! ما أسهل أن نستخدم الإسلام! وما أشق وما أعظم أن نخدم الإسلام!

إن استخدام الإسلام سهل، واستخدام الإسلام يكسب أرباحاً وتجارة ومنافع وصولة وجولة وبروزاً وشهرةً وتقدماً، ما أسهل أن نستخدم الإسلام! ولكن ما أعظم وأشق أن نخدم الإسلام خدمة نتجرد فيها من كل مصالحنا!

أيها الأحبة: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ونحن اليوم لا نشكو أزمةً أخلاقية في الأخلاق التجارية، وفي أخلاق المجاملات، وفي أخلاق المداهنات، وفي أخلاق المصالح، وفي أخلاق المعاملات، تلك لا نشكو من أزمة فيها وإنما نشكو تكدساً وكساداً وزخماً وتضخماً فيها، أما الأخلاق الخالصة، أما الأخلاق النقية، أما المعاملة التي باعثها ومقصدها وجه الله عز وجل، وأولها وآخرها وجه الله عز وجل فما أندرها في هذا الزمان!!

إن من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في عظيم تواضعه، ولين لطفه، وكريم شمائله، ما ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قام خطيباً فقال: [إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، كان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط] وكأن عثمان رضي الله عنه يشير إلى الذين ألبوا الجموع حوله، وأشعلوا الفتنة في عهده، وجمعوا الناس ينتقدونه ويقولون في عثمان ما يقولون؛ فقام عثمان في خطبة ويقسم بالله فيقول: (صحبنا نبينا في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به) أي: أناس لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون عثمان بالنبي صلى الله عليه وسلم! يعلمون عثمان المبشر بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن التطاول من قديم وليس في هذا الزمن الذي رأينا وسمعنا من يتطاول فيه على إمام أهل العلم في هذا الزمان، على وجه الأرض قاطبة فيما نعلم وهو سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، لقد أوذينا في إمامنا، وأوذينا في علامة أمتنا، وأوذينا في علامة ملتنا، وأوذينا في مفتي هذه الملة وهذه الطائفة المنصورة المباركة، لقد أوذينا في عرض شيخنا وعرض إمامنا، يتكلم فيه الأقزام، يقولون فيه ما يقولون:

إذا عير الطائي بالبخل مادر     وعير قساً بالفهاهة باقل

وطاولت السحب السماء سفاهة     وفاخرت الأرض الحصى والجنادل

وقال السهى للشمس أنت خفية     وقال الدجى يا صبح لونك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمـة     ويا نفس جدي إن دهرك هازل

أصبح الصغار يتطاولون على الكبار! أصبح الجهلة يتطاولون على العلماء! أصبح البخلاء يتطاولون على الكرماء!

يا سبحان الله! متى عرفنا هذا التطاول إلا في منشور يتسلل لواذاً ويدس دسيسة، من أجل تفريقكم يا شباب الصحوة، من أجل الفجوة العظيمة التي يراد لها أن تزداد بين العلماء والعامة، وبين الولاة والعلماء، وبين العامة والولاة، نحن لا نقول: قولوا للأسود إنه أبيض، ولا نقول: سموا المنكر معروفاً، ولا قولوا للباطل حقاً، فإن الباطل باطل، والظلم ظلم، والشر شر، ولكن إن سبيل الإصلاح إذا بلغ بطريق أصبح الأمر فيه يتطاول أصحابه أو شأنه إلى الكبار وإلى العلماء، وإلى الذين شابت لحاهم في الإسلام، وبلغوا منـزلة فيما ندين لله عز وجل، بلغوا منـزلة ما أصبح يضرهم ذم ذام ولا مدح مادح؛ لما علم من صلاحهم، ونسأل الله أن يثبتهم، ولا ندعي العصمة لهم، إذا بلغ الأمر هذا فمن يعذرنا -أيها الأحبة- من أناس تطاولوا على علمائنا وأئمتنا؟ وأنتم المستهدفون، وأنتم المقصودون فافهموا ما تسمعون، وأدركوا ما تقرءون فإن وراء الأكمة ما وراءها:

أرى خلل الرماد وميض نار     ويوشك أن يكون لها ضرام

نبينا صلى الله عليه وسلم خير الخليقة:

وما حملت من ناقة فوق ظهرها     أبر وأوفى ذمةً من محمد

ورضي الله عن حسان حيث قال:

إذا ما الأشربات ذكرن يومـاً     فهن لطيب الراحل فداء

فأحسن منك لم تر قط عينـي     وأجمل منك لم تلد النساء

ولنبدأ بخُلقه صلى الله عليه وسلم:

يقول الله سبحانه في شأن نبيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: [كان خلقه القرآن].

قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال رضي الله عنه: (والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، وهذا وصفه في التوراة: يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفض ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً) رواه البخاري.

وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) هذا من سمو خلقه، هذا من كريم شمائله، هذا من علو منزلته صلى الله عليه وسلم يقال له: ادع على المشركين، فيقول: (ما بعثت لعاناً وإنما بعثت رحمة).

وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، وكان يقول عند المعاتبة: ما له تربت يمينه) يعني: أصاب يمينه التراب، هذا من كريم شمائله صلى الله عليه وسلم.

ولنقف عند هذه وقفة -أيها الأحبة في الله- إن بعض إخواننا من المسلمين تجده سليط اللسان في السباب والشتائم حتى على المشركين والكفار، وأنا لا أنافح عن كافر، ولا أدافع عن ظالم، ولا أقول ذلك خشية على عرض فاجر، ولكن نقول: فلنعود ألسنتنا ما تعودناه وما عرفناه من شمائل نبينا صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان سباب الكافرين وشتمهم سيفضي إلى منكر أكبر: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] بل وفي المقابل لو قيل لأحدنا: ادع لهؤلاء الظلمة، أو ادع لهؤلاء الكفرة، أو ادع لهؤلاء الفجرة أن يهديهم الله أو أن يسخرهم للإسلام والمسلمين، التفت ضاحكاً، وسخر ملتفتاً وقال: ما شأنك وشأن الدعاء لهم؟ ألا تلعن؟ ألا تشتم؟ ألا تسب؟ ألا تقول كذا .. وكذا .. وكأنه حرام أن يدعو للضال بالهداية، وللفاجر بالاستقامة! وهذا جهل يا عباد الله.

نعم، إن الله لعن الظالمين وأعد لهم سعيراً، نعم. إن الله لعن الكافرين، نعم. إن الله لعن طوائف في كتابه: وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء:52] ولكن -أيها الأحبة- ينبغي أن نعود أنفسنا ما تعوده نبينا، ففعله وحيٌ، وقوله وحي، وسيرته وحي، فما كان سبّاباً ولا لعاناً ولا شتاماً صلى الله عليه وسلم، لقد جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ادع على دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) وكانت دوس آنذاك مقيمة على الكفر والشرك، مقيمة على حال الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) يعني: أبا جهل أو عمر بن الخطاب، فدعا لهما وهما آنذاك من الكفار.

فنحن حينما نتعلم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث لعاناً، ولم يبعث سباباً، ولم يبعث شتاماً، وإنما بعث رحمة أي: يدعو بالهدى ويدعو إلى الهداية، ويدعو بالرحمة، ويدعو إلى العفو والصفح والمغفرة، فإن ذلك يعلمنا ألا نعود ألسنتنا على السب أو الشتم أو التسلط على أعدائنا؛ فليس ذلك من الرحمة بهم، ولا اللطف بجنابهم، ولا العطف في شأنهم، ولكن حتى لا تتعود ألسنتنا السباب والشتيمة، ونظن أنه غاية خدمتنا لهذا الدين، وغاية رعايتنا لهذه الدعوة، أو نظن أن منتهى قيامنا على هذا الإسلام أن نسب الأعداء وأن نلعنهم، فإن من تعود ذلك سيكون أستاذاً في السباب، ولكن لن يكون أستاذاً في الميدان، لن يكون أستاذاً في العمل، لن يكون أستاذاً في الواقع، لن يكون أستاذاً في التطبيق، وما أحوجنا إلى ألسنة بكْم على أيد فصاح:

إنا نتوق لألسن     بكم على أيد فصاح

وعن يزيد قال: أخبرنا زكريا عن أبي إسحاق قال: حدثني أبو عبد الله قال: قلت لـعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في آله؟ قالت: [كان أحسن الناس خلقاً، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح].

أين الناس من هذا الخلق وهذه الشمائل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله؟ فلم يكن سباباً، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا يجزي بالسيئة مثلها، إن من الناس من يتعوذ أهله من سوء لسانه وسلاطته، ومن شر لسانه وخبثه، فمن الناس من لو انكسر كأس لسب، ولو انكفأ قدر لشتم، ولو انشق ثوب للطم، ولو تغير حال لضرب، أين هو من إمامه وحبيبه وقدوته ونبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان فاحشاً؟ يعني: لا يقول فحشاً من القول، ولا يلفظ بالفاحش أو البذيء أو الرديء من الكلام.

إن من الناس من تعود هذا الفحش وهذه البذاءة والغلظة، وإن من شرار الناس من تركه الناس اتقاء فحشه.

ومن الناس من هم على طائفتين في هذا:

فبعضهم تجد لساناً أحلى من العسل، وأبيض من القطن، وألين من الماء، فإذا كان عند أهله وجدت سباً وشتماً، كريم بكل خلق، وبكل قول وكلام لين، وبكل منطق عذب مع الناس أجمعين إلا مع زوجته، إلا مع أبنائه، إلا مع أولاده، إلا مع بناته فإنه لا يطيق أن يسمعهم كلمة طيبة. ما هذا الانفصام؟! وما هذا التناقض؟!

ولماذا يعامل الناس معاملة وتعامل الزوجة والأهل معاملة أخرى؟!

والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان فاحشاً ولا متفحشاً ولا بذيء اللسان.

وطائفةٌ منهم من يفتخر أنه بذيء اللسان، فاحش في القول مع الناس ومع أهله، مع القريب والبعيد، ويعدها من الفصاحة ومن البيان، ويعدها من اللجاجة والقدرة على إسكات الخصوم، وليس هذا والله بحق، وليس هذا والله من الدين في شيء، بل الدين كل الدين فيما ورد عن رب العالمين وسنة إمام المرسلين في وصفه وشمائله: ما كان فاحشاً وما كان متفحشاً، وما كان بذيء اللسان صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة: [ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادماً، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله] قالت: [وما نيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فانتقم إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله] قالت: [وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار الذي هو أيسر إلا أن يكون إثماً، فإنه كان إثماً كان أبعد الناس منه].

فانظروا في شأنه صلى الله عليه وسلم: ما ضرب بيده امرأة قط، ومن بيننا ونحن المسلمين من يجلد امرأته جلد البعير، ويؤذيها ضرباً وسحباً على وجهها، ويذيقها ألوان البلاء والأذى، أهذا من الدين في شيء؟ أعلمك الإسلام هذا أم وجدت هذا في سنة نبيك؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده امرأة قط مع أن ضرب النساء جائز بعد الموعظة والهجر: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34] وهذا الضرب غير مبرح.

ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عن ضرب النساء، جاء رجال من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! زئرن النساء على أزواجهن. أي: كأن بعضهن تطاولن على أزواجهن، فأذن لهم بضربهن ضرباً غير مبرح، ثم قال عن الذين يضربون: (وما أولئك بخياركم) يعني: أن العاقل وأن خيار الناس وكرامهم من يستطيعون أن يصلحوا الأحوال وأن يصلحوا أمورهم دون أن يلجئوا إلى ذلك، وإن لجئوا إليه فبقدر ما يحتاج البدن إلى الدواء دون تطاول.

ومن شأنه وسمته صلى الله عليه وسلم أنه ما كان ينتقم لنفسه.

أما نحن في هذا الزمان فإذا ابتلينا وإذا ظلمنا في أنفسنا أو في أموالنا أو في حاجاتنا أو في مصالحنا ترى البعض يلبس هذه القضية بلباس الدين، ويظن أنه ينتقم لدين الله وهو ينتقم لنفسه، ويظن أنه يذب عن دين الله وهو يذب عن نفسه، ويظن أنه ينافح عن دين الله وهو ينافح عن نفسه، وإن تجريد المقاصد وإخلاص النيات لأمر عظيم، فالناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.

فلنتعود -أيها الأحبة- أن تكون غيرتنا وأن يكون غضبنا وأمرنا وسعينا وإقبالنا وغدونا ورواحنا خالصاً لوجه الله عز وجل، وما أعظم شأن الإخلاص في هذا الزمان! والله إن الواحد -أيها الأحبة- ليخشى أن يلقى الله عز وجل ما قبل من خطبه ولا من محاضراته ولا من أعماله ولا من سعيه ولا من كتابته ولا من كل ما يفعل شيئاً، والخطر على الجميع من متصدق أو مجاهد أو أو... إلى آخره، إذا سمع وتلا قول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39].

نعم -أيها الأحبة- إن العاقل يخشى أن ينقلب عمله فيكون هباءً منثوراً، إن العاقل إذا قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) أشرك شهرته، أشرك شخصيته، أشرك هواه، أشرك مصلحته، أشرك جانبه الشخصي، أشرك أموره، أشرك منفعته فإن الله غني عن هذا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فلنمحض الإخلاص -أيها الأحبة- قبل أن نفد على الله عز وجل فيقال لأحدنا: يا عبدي ما قبلنا صيامك! ما قبلنا صلاتك! ما قبلنا خطبك! ما قبلنا كلامك .. تأليفك .. عملك .. سعيك .. صدقتك! لأن العاقل والله يخشى -أيها الأحبة- أن يكون عمله هباءً منثوراً، وعلينا أن نجاهد وأن ندقق في هذا الأمر، وألا نخدع ذواتنا فنظن أننا نخدم الدين ونحن ربما استخدمناه، قالها رجل كبير قابلته في زغرب القريبة من البوسنة في مؤتمر لحقوق الإنسان فقال ذلك الرجل الطاعن في السن الكبير وقد التفت إلي: يا بني! ما أسهل أن نستخدم الإسلام! وما أشق وما أعظم أن نخدم الإسلام!

إن استخدام الإسلام سهل، واستخدام الإسلام يكسب أرباحاً وتجارة ومنافع وصولة وجولة وبروزاً وشهرةً وتقدماً، ما أسهل أن نستخدم الإسلام! ولكن ما أعظم وأشق أن نخدم الإسلام خدمة نتجرد فيها من كل مصالحنا!

أيها الأحبة: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ونحن اليوم لا نشكو أزمةً أخلاقية في الأخلاق التجارية، وفي أخلاق المجاملات، وفي أخلاق المداهنات، وفي أخلاق المصالح، وفي أخلاق المعاملات، تلك لا نشكو من أزمة فيها وإنما نشكو تكدساً وكساداً وزخماً وتضخماً فيها، أما الأخلاق الخالصة، أما الأخلاق النقية، أما المعاملة التي باعثها ومقصدها وجه الله عز وجل، وأولها وآخرها وجه الله عز وجل فما أندرها في هذا الزمان!!

إن من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في عظيم تواضعه، ولين لطفه، وكريم شمائله، ما ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قام خطيباً فقال: [إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، كان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط] وكأن عثمان رضي الله عنه يشير إلى الذين ألبوا الجموع حوله، وأشعلوا الفتنة في عهده، وجمعوا الناس ينتقدونه ويقولون في عثمان ما يقولون؛ فقام عثمان في خطبة ويقسم بالله فيقول: (صحبنا نبينا في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به) أي: أناس لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون عثمان بالنبي صلى الله عليه وسلم! يعلمون عثمان المبشر بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن التطاول من قديم وليس في هذا الزمن الذي رأينا وسمعنا من يتطاول فيه على إمام أهل العلم في هذا الزمان، على وجه الأرض قاطبة فيما نعلم وهو سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، لقد أوذينا في إمامنا، وأوذينا في علامة أمتنا، وأوذينا في علامة ملتنا، وأوذينا في مفتي هذه الملة وهذه الطائفة المنصورة المباركة، لقد أوذينا في عرض شيخنا وعرض إمامنا، يتكلم فيه الأقزام، يقولون فيه ما يقولون:

إذا عير الطائي بالبخل مادر     وعير قساً بالفهاهة باقل

وطاولت السحب السماء سفاهة     وفاخرت الأرض الحصى والجنادل

وقال السهى للشمس أنت خفية     وقال الدجى يا صبح لونك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمـة     ويا نفس جدي إن دهرك هازل

أصبح الصغار يتطاولون على الكبار! أصبح الجهلة يتطاولون على العلماء! أصبح البخلاء يتطاولون على الكرماء!

يا سبحان الله! متى عرفنا هذا التطاول إلا في منشور يتسلل لواذاً ويدس دسيسة، من أجل تفريقكم يا شباب الصحوة، من أجل الفجوة العظيمة التي يراد لها أن تزداد بين العلماء والعامة، وبين الولاة والعلماء، وبين العامة والولاة، نحن لا نقول: قولوا للأسود إنه أبيض، ولا نقول: سموا المنكر معروفاً، ولا قولوا للباطل حقاً، فإن الباطل باطل، والظلم ظلم، والشر شر، ولكن إن سبيل الإصلاح إذا بلغ بطريق أصبح الأمر فيه يتطاول أصحابه أو شأنه إلى الكبار وإلى العلماء، وإلى الذين شابت لحاهم في الإسلام، وبلغوا منـزلة فيما ندين لله عز وجل، بلغوا منـزلة ما أصبح يضرهم ذم ذام ولا مدح مادح؛ لما علم من صلاحهم، ونسأل الله أن يثبتهم، ولا ندعي العصمة لهم، إذا بلغ الأمر هذا فمن يعذرنا -أيها الأحبة- من أناس تطاولوا على علمائنا وأئمتنا؟ وأنتم المستهدفون، وأنتم المقصودون فافهموا ما تسمعون، وأدركوا ما تقرءون فإن وراء الأكمة ما وراءها:

أرى خلل الرماد وميض نار     ويوشك أن يكون لها ضرام

نبينا صلى الله عليه وسلم خير الخليقة:

وما حملت من ناقة فوق ظهرها     أبر وأوفى ذمةً من محمد

ورضي الله عن حسان حيث قال:

إذا ما الأشربات ذكرن يومـاً     فهن لطيب الراحل فداء

فأحسن منك لم تر قط عينـي     وأجمل منك لم تلد النساء

أما حلم نبينا إمام الهدى صلى الله عليه وسلم فهو لا يعدو ولا يتجاوز قول الله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وما كان صلى الله عليه وسلم يختار الشاق من الأمور، بل كان حليماً يختار الأيسر كما قالت عائشة رضي الله عنها، وقد مر بنا آنفا.

حلمه صلى الله عليه وسلم على الأعرابي الذي جبذه بردائه

من الصور المشرقة الجميلة، وكل حياة إمام الهدى إشراق وجمال، من الصور المشرقة الجميلة في حلمه صلى الله عليه وسلم ما ورد في الصحيحين عن أنس قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذة الأعرابي، فقال الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك؛ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وما تظنونه فعل؟ وما تظنونه قال؟ وما تظنون الذي ارتسم على قسمات وجهه وملامح محياه صلى الله عليه وسلم من الأمور؟- التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ثم أمر له بعطاء وقال: أعطوه).

ما ظنك لو أن واحداً من أبنائك الذين أوجب الله عليك نفقتهم جبذك بطرف ثوبك لا بحاشية عاتقك، لا بحاشية قميصك، ثم قال: يا أبت! أعطني. والله لتصفعنه أو لتضربنه أو لتؤدبنه أو لتفعلن به فعلاً عظيماً، ناهيك أن لو فعل هذا واحد من الأباعد دون الأقارب، فهذا أعرابي فض غليظ يجر النبي صلى الله عليه وسلم بحاشية البرد حتى أثرت حاشية البرد من الجانب الآخر في صفحة رقبته صلى الله عليه وسلم، ثم يقول الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مالك أبيك، فالتفت صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، التفت متبسماً، التفت حليماً، التفت صافحاً غافراً لهذا الأعرابي.

إن عفو النبي له شأن عجيب وله صور عجيبة، يقول أبو عبد الله الجدلي : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: [لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح] رواه الترمذي والطيالسي وأحمد ، وإسناده صحيح.

هكذا شأنه، هكذا أمره، كان صلى الله عليه وسلم يعفو، كان صلى الله عليه وسلم يصفح، والعفو دليل القوة،، والكرم، والعفو دليل العزة، والمنعة، لا نظن أن العفو دليل ضعف، ولا نظن أن العفو دليل جهل، ولا نظن أن العفو دليل غفلة، بل العفو دليل وعي ورحمة وحكمة، وخير الناس من تحلى واقتدى بسيرة إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعفو ويصفح.

حلمه صلى الله عليه وسلم على من أراد قتله

عن أنس رضي الله عنه (أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح يريدون اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا أخذاً -أي: أمكن الله المسلمين من رقاب هؤلاء الذين انحدروا من جبل التنعيم فجأة- فلما جمعوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله قوله: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الفتح:24]) رواه مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد.

ومن دلائل عفوه القصة المشهورة المعلومة في شأن اليهودية التي قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها فسألها إمام الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟ فقالت: أريد قتلك. فقال الصحابة: ألا نقتلها يا رسول الله؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث رواه مسلم .

لقد كان صلى الله عليه وسلم يعفو، ليس يعفو عمن تكلم في عرضه أو يعفو عن من تكلم في خاصة أمره فحسب، بل يعفو صلى الله عليه وسلم عمن حاول اغتياله، عمن حاول الاعتداء عليه، وذلك من جميل شمائله، ومن كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة رضي الله عنها في لطف معاملة الحبيب صلى الله عليه وسلم:[ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله] فهذا شأنه، وهذا عطفه، وهذه مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

شبهة في الطعن في حلمه صلى الله عليه وسلم والرد عليها

قد يقول قائل: إن من الناس من يدعوه للعفو هوان شأنه أو ضعف أمره، أو قلة حيلته أو حدود مكانته -أي: لم يبلغ مكانة عظيمة- فنقول: إن مكانة النبي عظيمة، وإن منزلته كريمة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه -وهذا الحديث هو حديث الشفاعة الطويل الذي يدلنا على عظم منـزلة النبي ومكانته- قال: (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فصلى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب؛ كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله فقال الناس لـأبي بكر: ألا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط. قال: فسأله. فقال: نعم. عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، ففظع الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا: يا آدم! أنت أبو البشر، اصطفاك الله عز وجل، اشفع لنا إلى ربك. فقال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]قال: فينطلقون إلى نوح عليه السلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى إبراهيم عليه السلام، فإن الله عز وجل اتخذه خليلا.

فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السلام فإن الله عز وجل كلمه تكليماً، فيقول موسى عليه السلام: ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى. فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل.

قال: فينطلق، فيأتي جبريل عليه السلام ربه فيقول الله عز وجل: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فينطلق به جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة -بمقدار أسبوع- ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك يا محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع. قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل خر ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع. قال: فيذهب ليقع ساجداً فيأخذ جبريل عليه السلام بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قط، فيقول: أي ربي! خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، حتى إنه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وإيلة ، ثم يقول: ادع الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادع الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي وليس معه أحد. ثم يقال: ادع الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، وقال: فإذا فعلت الشهداء ذلك. قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً).

إن هذا الحديث الطويل الذي رواه الإمام أحمد في مسنده لدليل على ما للنبي من المنـزلة، وما له من العظمة، وما له من الكرامة، وما له من الرفعة العالية عند رب العالمين عز وجل، فما كان عفوه عن ضعف، هذه منزلته وذاك عفوه، هذه كرامته وذاك صفحه، هذا قدره وذاك إحسانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: "قد كنا نقرأ أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) هذا شأنه وتلك كرامته عند الله، ومع ذلك لا يرضى بالمديح ولا بالغلو فيه ولا بالإطراء وإنما يقول: إنما أنا عبد. ولقد شرفه الله بهذه العبودية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].. تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1].. وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجـن:19] فأشرف منزلة لإمام الهدى أن يكون عبداً لله، وقد أكرمه الله عز وجل بذلك.

من الصور المشرقة الجميلة، وكل حياة إمام الهدى إشراق وجمال، من الصور المشرقة الجميلة في حلمه صلى الله عليه وسلم ما ورد في الصحيحين عن أنس قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذة الأعرابي، فقال الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك؛ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وما تظنونه فعل؟ وما تظنونه قال؟ وما تظنون الذي ارتسم على قسمات وجهه وملامح محياه صلى الله عليه وسلم من الأمور؟- التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ثم أمر له بعطاء وقال: أعطوه).

ما ظنك لو أن واحداً من أبنائك الذين أوجب الله عليك نفقتهم جبذك بطرف ثوبك لا بحاشية عاتقك، لا بحاشية قميصك، ثم قال: يا أبت! أعطني. والله لتصفعنه أو لتضربنه أو لتؤدبنه أو لتفعلن به فعلاً عظيماً، ناهيك أن لو فعل هذا واحد من الأباعد دون الأقارب، فهذا أعرابي فض غليظ يجر النبي صلى الله عليه وسلم بحاشية البرد حتى أثرت حاشية البرد من الجانب الآخر في صفحة رقبته صلى الله عليه وسلم، ثم يقول الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مالك أبيك، فالتفت صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، التفت متبسماً، التفت حليماً، التفت صافحاً غافراً لهذا الأعرابي.

إن عفو النبي له شأن عجيب وله صور عجيبة، يقول أبو عبد الله الجدلي : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: [لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح] رواه الترمذي والطيالسي وأحمد ، وإسناده صحيح.

هكذا شأنه، هكذا أمره، كان صلى الله عليه وسلم يعفو، كان صلى الله عليه وسلم يصفح، والعفو دليل القوة،، والكرم، والعفو دليل العزة، والمنعة، لا نظن أن العفو دليل ضعف، ولا نظن أن العفو دليل جهل، ولا نظن أن العفو دليل غفلة، بل العفو دليل وعي ورحمة وحكمة، وخير الناس من تحلى واقتدى بسيرة إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعفو ويصفح.

عن أنس رضي الله عنه (أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح يريدون اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا أخذاً -أي: أمكن الله المسلمين من رقاب هؤلاء الذين انحدروا من جبل التنعيم فجأة- فلما جمعوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله قوله: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الفتح:24]) رواه مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد.

ومن دلائل عفوه القصة المشهورة المعلومة في شأن اليهودية التي قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها فسألها إمام الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟ فقالت: أريد قتلك. فقال الصحابة: ألا نقتلها يا رسول الله؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث رواه مسلم .

لقد كان صلى الله عليه وسلم يعفو، ليس يعفو عمن تكلم في عرضه أو يعفو عن من تكلم في خاصة أمره فحسب، بل يعفو صلى الله عليه وسلم عمن حاول اغتياله، عمن حاول الاعتداء عليه، وذلك من جميل شمائله، ومن كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة رضي الله عنها في لطف معاملة الحبيب صلى الله عليه وسلم:[ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله] فهذا شأنه، وهذا عطفه، وهذه مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.

قد يقول قائل: إن من الناس من يدعوه للعفو هوان شأنه أو ضعف أمره، أو قلة حيلته أو حدود مكانته -أي: لم يبلغ مكانة عظيمة- فنقول: إن مكانة النبي عظيمة، وإن منزلته كريمة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه -وهذا الحديث هو حديث الشفاعة الطويل الذي يدلنا على عظم منـزلة النبي ومكانته- قال: (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فصلى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب؛ كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله فقال الناس لـأبي بكر: ألا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط. قال: فسأله. فقال: نعم. عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، ففظع الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا: يا آدم! أنت أبو البشر، اصطفاك الله عز وجل، اشفع لنا إلى ربك. فقال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]قال: فينطلقون إلى نوح عليه السلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى إبراهيم عليه السلام، فإن الله عز وجل اتخذه خليلا.

فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السلام فإن الله عز وجل كلمه تكليماً، فيقول موسى عليه السلام: ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى. فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل.

قال: فينطلق، فيأتي جبريل عليه السلام ربه فيقول الله عز وجل: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فينطلق به جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة -بمقدار أسبوع- ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك يا محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع. قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل خر ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع. قال: فيذهب ليقع ساجداً فيأخذ جبريل عليه السلام بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قط، فيقول: أي ربي! خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، حتى إنه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وإيلة ، ثم يقول: ادع الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادع الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي وليس معه أحد. ثم يقال: ادع الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، وقال: فإذا فعلت الشهداء ذلك. قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً).

إن هذا الحديث الطويل الذي رواه الإمام أحمد في مسنده لدليل على ما للنبي من المنـزلة، وما له من العظمة، وما له من الكرامة، وما له من الرفعة العالية عند رب العالمين عز وجل، فما كان عفوه عن ضعف، هذه منزلته وذاك عفوه، هذه كرامته وذاك صفحه، هذا قدره وذاك إحسانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: "قد كنا نقرأ أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) هذا شأنه وتلك كرامته عند الله، ومع ذلك لا يرضى بالمديح ولا بالغلو فيه ولا بالإطراء وإنما يقول: إنما أنا عبد. ولقد شرفه الله بهذه العبودية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].. تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1].. وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجـن:19] فأشرف منزلة لإمام الهدى أن يكون عبداً لله، وقد أكرمه الله عز وجل بذلك.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2809 استماع
حقوق ولاة الأمر 2672 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2658 استماع
توديع العام المنصرم 2651 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2560 استماع
من هنا نبدأ 2498 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2466 استماع
أنواع الجلساء 2464 استماع
إلى الله المشتكى 2442 استماع
الغفلة في حياة الناس 2440 استماع