تفسير سورة غافر [8-14]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [غافر:8].

يقص الله علينا ما تقوله الملائكة حملة العرش من الكروبيين سادات الملائكة، وأشراف الملائكة، وقد مضى تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7] أي: يقولون: ربنا وسع علمك ورحمتك كل شيء في خلقك.

فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] أي: يقولون ذلك، ولا يزال السياق فيما يقوله الملائكة، فيقولون: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ [غافر:8] أي: يقول الملائكة الكرام ذلك ويدعون للمستغفرين وللتائبين وللموحدين المؤمنين، ويستغفرون الله لهم من ذنوبهم، ويدعون الله لهم أن يدخلهم جنات عدن.

قوله: الَّتِي وَعَدْتَهُم [غافر:8] أي: الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين، كما قال تعالى: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ [آل عمران:194]، والوعد الذي أتت به الرسل هو دخول الموحدين للجنان، ودخول الكافرين للنيران، وملائكة الله الكرام حملة العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر:75] فيقولون: سبحانك ربنا، ويقولون: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ويستغفرون للمؤمنين وللذين تابوا، ويدعون ربهم: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ أي: أدخل الموحدين المؤمنين جَنَّاتِ عَدْنٍ ، والعدن هي الإقامة، أي: أدخلهم جناتك الخالدة، فيقيمون فيها أبداً سرمداً.

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم أي: وعدتهم بها وهم لا يزالون أحياء، وذاك مما زادهم إيماناً وتشجيعاً وإغراء، فالملائكة -سلام الله عليهم- يدعون للمؤمنين الموحدين بهذه الدعوات الصالحات.

قوله: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، من صلح أي: من وحد وآمن وأسلم، فهم يدعون للمؤمنين، وكذلك لآباء المؤمنين من المؤمنين، ولأزواجهم وذرياتهم.

ولذلك يقول سلفنا الصالح: أنصح الخلق للبشر هم ملائكة الله، وأغش الناس للبشر هم الشياطين.

فسادات الملائكة وأشرافهم الملائكة من حملة عرش ربنا وهم ثمانية، وممن يطوفون بالعرش وهم سبعون ألف صف، خلف كل صف سبعون ألف صف لا يحصي عدد ذلك إلا الله خالقهم، يطوفون بالعرش مسبحين معظمين مبجلين ذاكرين، وهم على هذه الحالة يدعون للمؤمنين بالمغفرة وبالتوبة وبدخول الجنان، مجتمعين مع آبائهم ومع أزواجهم، ومع ذرياتهم وأولادهم إلى آخر ذرية منهم.

ويوم القيامة كما يحدثنا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم شارحاً لكتاب الله، مبلغاً عن الله: بأن المؤمن يدخل الجنة فيقول: أين أبي؟ وأين زوجي؟ وأين ولدي؟ فيقال له: إنهم في درجات أدنى من درجاتك، إنهم عملوا أقل من عملك، فيقول: وهل عملنا إلا لنا ولهم، اجمعنا اللهم بهم، فيستجيب الله له، فيرفع من كانوا أقل درجة إلى أعلى درجة بمن فيها من والد وولد وزوج، ولا ينزل الأعلى درجة إلى الأقل درجة، بل يكرمهم بأن يرفع من هو دون درجة أولئك إلى درجاتهم العلى.

رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ ، وأدخل كذلك الصالحين المؤمنين من آباء المؤمنين، وأزواجهم المؤمنين، وذرياتهم المؤمنين.

وأما من مات على الشرك فلا يرجى له رحمة، ولا يفيد معه استغفار، وقد حرم الله الجنة على الكافرين.

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تقول ملائكة الله لله جل جلاله وهم يدعون للمؤمنين: إنك يا ربنا أنت العزيز الذي لا ينال مقامه؛ ولا ينال جنابه، وأنت الذي من اعتز بك عز، ومن اعتز بغيرك ذل، وأنت الحكيم في أقوالك وفي أعمالك وفي قدرك، فبفضل منك يا ربنا! اغفر للمؤمنين واجمعهم جميعاً: الآباء والأجداد والذريات والأزواج في مكان واحد، وفي درجات العلو من الجنان، فأنت العزيز وأنت الحكيم.

قال تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:9] هذا مما يقوله الملائكة كذلك، (قِ) فعل أمر، من الوقاية، أي: يا ربنا احفظهم وصنهم وادفع عنهم السيئات، فإما أن تدفعها عنهم بألا يفعلوها، وإذا فعلوها أن تحفظهم من وبالها ومن آثامها.

وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ أي: وبال الذنوب والمعاصي، إما أنهم لا يرتكبونها، وإذا ارتكبوها فصنهم واحفظهم، وادفع عنهم سوءها ووبالها وعذابها.

وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر:9] من تقه السيئات ومن تدافع عنه، ومن تحفظه من السيئات، وتجعل بينه وبينها وقاية من فعلها أو من وبال فعلها.

يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة.

فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي: من وقيته وحفظته من ارتكاب السيئات وآثامها ووبالها، فقد أكرمته وقد رحمته برحمتك، وقد غفرت ذنبه فضلاً وجوداً منك.

قال تعالى: وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9] أي: من وقي العذاب، ومن وقي ارتكاب السيئات، ومن حفظ من وبال السيئات وأعمالها فقد أكرمه الله، وقد غفر ذنوبه، وقد كفر سيئاته، وقد رفع درجاته.

وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: هو النجاح والنصر والفلاح، فلا فوز أعظم من ذلك، ولا رتبة أعلى من ذلك؛ وذلك هو الفوز الدائم، والفلاح السرمدي.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10].

يخبر ربنا جل جلاله بأن الكفار يوم القيامة ينادون من قبل ملائكة النار وملائكة العذاب عن أمر الله: يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، ومعنى الكلام: أنه عندما يصل الكفار إلى النار، ويتذكرون ما مضى من حياتهم في دار الدنيا، وأنهم كانوا يؤمرون فيخالفون، فكان الناس يوحدون ويؤمنون، وهم يشركون ويكفرون فهناك يمقتون أنفسهم، ويحقرونها، ويجرمونها، وتصبح أنفسهم لديهم من المقت ومن التحقير ومن الإذلال بالدرجة العليا، وهم في غاية ما يكونون من الحسرة والندم والألم النفسي والروحي مضافاً إلى الألم الجسدي، وهم يعذبون في نار جهنم، وهم في هذه الحال ينادون: يا ويلهم! يا بلاءهم! يا خسارة دينهم ودنياهم!

فتقول لهم الملائكة: إن مقت الله لكم في الدنيا وأنتم تدعون إلى كتاب الله، وإلى الإيمان بالله، والرسل ينادونكم صباحاً ومساء، سفراً وحضراً، وفي جميع الأوقات وأنتم في دار الدنيا، فأرسل لكم رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنزل عليكم كتباً معلمة موجهة، ومنذرة ومبشرة، وأنتم تأبون إلا الكفر والعقوق، وتأبون إلا الخروج عن أمر الله، لقد كان مقت الله لكم وأنتم في دنياكم أكبر من مقتكم لأنفسكم، وماذا عسى يفيدكم هذا بعد أن جئتم الآخرة وأنتم مشركون بربكم، كافرون بأنبيائكم، تكذبون بالكتب المنزلة على أنبيائكم! فلا خلاص ولا خروج ولا عودة لدار الدنيا، فقد فنيت وذهبت وانتهت ولم يبق لها وجود.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ أي: تناديهم الملائكة، يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أي: غضب الله وتحقيره لكم.

أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: مقت الله وغضبه وتحقيره لكم وأنتم في دار الدنيا أكبر من هذا المقت الذي مقتم به أنفسكم وحقرتموها بعد أن أصبحتم في النيران وبين جدران جهنم.

إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أي: إذ كنتم في دار الدنيا تدعون من قبل أنبيائكم وعلمائكم الذين هم ورثة الأنبياء يدعونكم إلى أن تقولوا: لا إله إلا الله، وكنتم تنكصون عن قولها، وتبتعدون عن الإيمان بها، إذ ذاك كنتم في غاية المقت، وفي غاية الغضب، وكان مقت الله لكم وبغضه لكم، وتحقيره إياكم أكبر بكثير من مقتكم الآن لأنفسكم.

قال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11].

أخذوا يتوددون ويتمنون أن تعاد لهم حياتهم في الدنيا؛ ليطيعوا ويعبدوا، ولكن هيهات هيهات، فقالوا: يا ربنا! أنت الحاكم العدل، والحجة البالغة لك، فنعترف بذلك، أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ أي: الموت الأول هو العدم قبل الخروج إلى دار الدنيا، حيث كنا في العدم، وحيث كان لا وجود لنا، حيث كنا ذراً في أصلاب آبائنا، وفي صلب أبينا الأول آدم عليه السلام، فكان ذلك عدماً وموتاً، فتلك الموتة الأولى.

وكانت الموتة الثانية عندما خرجوا للوجود ودعوا للإيمان بالله، وبرسله وبكتبه ثم ماتوا الموتة الثانية، فهم قد اعترفوا إن الله هو القادر على كل شيء، وأنه أخردهم من العدم للوجود، ثم أماتهم الموتة الثانية بعد الوجود.

قالوا: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا يا ربنا قد اعترفنا أنك القادر على كل شيء، فلا شريك لك ولا ند، وأنت وحدك الذي أحييتنا بعد عدم، ثم أحييتنا بعد وجود، فهي حياتان، ثم أنت -جل جلالك- أمتنا يوم لم نكن، ثم أمتنا بعد أن كنا، فنحن قد اعترفنا بوحدانيتك وبربوبيتك، واعترفنا بذنوبنا ومعاصينا.

فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ .

تلك كانت مقدمة يرجون بها ربهم؛ فهل يمكن بعد ذلك الإيمان والاعتراف وقد فات زمنه، هل يمكن أن يرجعوا مرة ثانية إلى دار الدنيا؛ ليعبدوا وليوحدوا وليطيعوا؟ هيهات هيهات، وإلى أين يرجعون؟ فالدنيا انتهت وفنيت، والأنبياء فد أدوا مهماتهم وقاموا بوظائفهم، فمن الذي سيدعوهم من جديد، فهم إذاً يتمنون الأماني الباطلة، ويتمنون ما لا يكون.

(فهل إلى خروج من سبيل) أي: فهل إلى مرد ورجوع وخروج من النار، والعودة إلى الدنيا سبيل؟ فهم يستفهمون، والجواب: لا عودة ولا رجعة أبداً إلى الدنيا.

قال تعالى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12] أي: سبب عدم العودة والخروج من النار، وسبب عدم الرجوع إلى دار الدنيا، ذَلِكُمْ (ذا) اسم إشارة، (كم) للمخاطبين الجماعة وهم سكان النار.

ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12].

ومعنى ذلك أنكم كنتم -وهذا ناتج من فساد قلوبكم- إذا دعي وعبد الله، وإذا ذكر الله وحده كفرتم بذلك، وكفرتم بالله الواحد الخالق الرازق المحيي المميت.

وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا وإن سمعتم من يقول: إن الله ثالث ثلاثة، وإذا سمعتم من يقول: عزير ابن الله، وإذا سمعتم من يقول: نحن أبناء الله أعجبكم ذلك وسركم، وآمنتم به، فأشركتم مع المشركين، وكفرتم مع الكافرين.

فإذا ذكر اسم الله، وإذا وحد الله نفرت قلوبهم واشمأزت، وكفرت وتعالت على الله.

وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: دعي الذين من دونه من المشركين إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وهذا يقال لهم يوم القيامة، وقد قيل في الدنيا.

ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ ، فهو الحاكم الأبدي، وهو الحاكم العادل، فلا حاكم معه، ولا شريك له، فهو العلي الكبير، العلي الذي لا أعلى منه، والكبير الذي لا أكبر منه، وشعار المؤمن في كل حال: الله أكبر، فالله أكبر من كل كبير، وهو يقولها سواء مصلياً قائماً أو ساجداً وجالساً، وهو على كل اعتبار ينادى في الأذان: الله أكبر، وفي الإقامة: الله أكبر، وفي الصلاة في جميع حركتها.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر:13].

فالله جل جلاله هو الذي يرينا آياته، وعلامات قدرته ووحدانيته، ومعجزات أنبيائه، وكتبه، فقد أراناها في زمن الحياة النبوية وبعدها؛ وقرأناها في السماء وفي الأرض، وفي كل عصر من العصور، ومن المعجزات التي نعيشها: القرآن الكريم الذي قال الله فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقد نزلت هذه والصحابة متوافرون، وبعد أكثر من 1400 عام إذا بكتاب الله كما يخبر الله عنه لم يبدل، ولم يؤول، ولم تبدل ولم تنقص منه كلمة، ولم تنقص منه حركة، وكأنه نزل ساعة نهاره غضاً طرياً كما أنزل، فنحن نتلوه ونقرؤه كما كان يتلوه المصطفى صلى الله عليه وسلم في محاريب البيت الحرام ومسجده النبوي.

وهذه أكبر المعجزات وأكبر الدلالات التي شاهدناها وعشناها، ولقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه معجزته الخالدة الثابتة السرمدية.

وقد يقول قائل: لم لم يحفظ الزبور وهو كلام الله والتوراة والإنجيل كذلك، فقد بدلت جميعها وغيرت وحرفت عن مواضعها؟ والجواب: أن من أنزل عليهم من بني إسرائيل استحفظوا على كتاب الله، فطولبوا بحفظه وبصيانته وبالقوام عليه فتعززوا عن ذلك، ولكن القرآن الكريم لم يكل الله حفظه إلى أحد من الخلق، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

والذكر يشمل القرآن والسنة والفقه، ولغة العرب؛ لأن في ذلك كله من القرآن، فالقرآن نزل بلغة العرب، والسنة مبينة شارحة، والفقه خلاصة ذلك، واللغة الأداة للفهم وللدرس والمدارسة، فحفظ الله كل ذلك، وسيبقى قائماً على دين الله، وعلى كتاب الله، وعلى سنة نبيه عليه الصلاة والسلام من يحفظها من التحريف إلى يوم القيامة، كما يخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم وهم على ذلك إلى يوم القيامة)، فمهما كفر الكافرون، ونافق المنافقون، فلابد وأن تبقى حجج الله في الأرض؛ لتخبر بصدق وببيان القرآن، وسلامته من النقصان.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا أي: يغذي عقولكم بالعلم والمعرفة، ويغذي أجسادكم بالطعام والشراب.

ونزول الرزق من السماء: هو نزول المطر والغيث، ونزول الرحمة من ربنا، فهو أنزل ذلك غذاء لقلوبنا وأجسامنا، وأرانا آياته في الأرض غذاء لعقولنا، وغذاء لأرواحنا جل جلاله، فهو الكريم الجواد المتعال.

قال تعالى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي: لا يتذكر هذه المعاني، ولا يدركها ويعيها ولا يعطيها فكره وعقله ووعيه إلا من ينيب إلى الله ويعود ويرجع إليه، ومن تطهر من الشرك ومن درنه وأوساخه ومن المعاصي وقاذوراتها، ومن نظف ظاهره ونظف باطنه لتلقي الحقائق والعلوم والمعارف، ولتلقي وحي الله في كتابه الكريم، ومن بيان نبيه في سنته، عليه أزكى الصلاة والسلام.

وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي: إلا من أناب وعاد إلى الله، واستغفر من شركه، وأما وهو مادام على شركه فنيته قذرة وسخة لا تقبل النور، وكما تقول الحكمة: التخلية قبل التحلية.

والعروس عندما نريد زفافها لعريسها ندخلها الحمام أولاً، فتطهر بدنها، وتنظف جسدها، وتلبس جديداً من الثياب، وتلبس الحلي والحلل، أما وهي على أوساخ المطبخ وأوساخ الدار وروائح البصل والثوم ونقوم نلبسها الحرير والديباج! فليس هذا عمل العقلاء.

فالمؤمن إذا أراد الفهم والوعي والإدراك وإنارة بصيرته فعليه أن يتخلى عن أوساخ ذنوبه، وقاذورات المعاصي، فيستغفر الله ويتوب إليه، ويندم على ما فات منه، ويقرع قلبه وصدره ووعيه وفهمه لتلقي فهم كتاب الله وفهم رسوله.

وأما إذا أراد أن يتذكر وهو على المعاصي، وهو على فساده وقاذوراته وأوساخه فهيهات هيهات، فلابد أولاً من التخلي عن القاذورات والأوساخ؛ ليتحلى بالطاعات، وليتحلى بالرضا والعلم ومدارسته.

قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14].

يدعونا ربنا إلى طاعته، وإلى الإنابة إليه، وإلى العودة إليه من ذنوبنا ومن معاصينا، وأن نستغفره ونتوب إليه؛ لنكون محل دعوات الملائكة عندما يستغفرون الله لنا، وعندما يدعون الله لنا، بأن نكون في اجتماع آبائنا أولادنا وأزواجنا، ليرفع الوضيع إلى حيث الرفيع في أعلى الدرجات، ولن يكون هذا إلا إذا دعونا الله مخلصين له الدين.

فَادْعُوا اللَّهَ أي: فاعبدوا واشكروا ووحدوا الله.

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مخلصين طاعتكم وعبادتكم له، بلا رياء ولا سمعة ولا شريك ولا ند ولا مثيل، فالله وحده هو القادر الخالق الرازق المحيي المميت، فيجب أن تنحصر عبادتنا له وحده، فلا نشوبها برياء ولا بتسميع فضلاً عن أنواع الشرك الأخرى.

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: تفرغوا لعبادة الله وحده، على أن يكون الدين الخالص لله لا لأحد معه لا لثناء ولا لجزاء من غيره، فالله وحده هو الذي يجزي، والله وحده هو المثيب.

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، يقول تعالى هذا للمؤمنين عندما يكفر الكفرة بدعوتهم، وعندما يبقون ثابتين ثبوت الجبال، وراسخين رسوخ الراسيات على دينهم، فلا يهتمون بكفر كافر، ولا بنفاق منافق.

ولذلك نجد الكثيرين في عصرنا ممن يخجل من إظهار صلاته، ويجامل الكافرين، فيخفي صلاته وعبادته، فهو لا يملك القوة القلبية ولا الجرأة النفسية ليعلن دينه حيث كان.

والمسلمون مطالبون إذا كانوا مارين في بلاد الكفر بإعلان الأذان جهاراً، ثم تقام الصلاة جهاراً، ثم يقوم المسلمون فيصلون ولا يلتفتون إلى غيرهم من الكافرين.

وذاك مما يحزن الكافرين والمنافقين، ونحن عندنا من الإخلاص لله أن نعلن عبادتنا.

ومن أشد ما يؤلمهم ويسيء نفوسهم أن تأتي في مجتمعاتهم وتعلن طاعتك وتعلن عبادته، وتعلن شعار إيمانك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهكذا يدعونا الله فيقول: (فادعوا الله مخلصين له الدين)، فتمحضون دينكم له بلا رياء ولا سمعة، ولا ند ولا شريك.

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ أي: لا عليكم في كراهيتهم إن كرهوكم، فالله يحب ذلك منكم، ويجازيكم عليه، ويدخلكم جناته، ويخلفكم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وعن عبد الله بن الزبير -كما في صحيح مسلم وبقية الصحاح والسنن- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة -أي: عقب كل فريضة ينتهي منها-: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، له المجد وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرين).

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ وإلى جهنم وبئس المصير.

ومن بركات الأذان للصلاة: أن المسلم عندما يعلن صلاته يكون ساعة إعلانه لها داعية إلى الله بعمله قبل قوله، ففي أرض سويسرا نزلت طائرة حجاج آتية من أرض السنغال، فنزل هناك الركاب وعليهم الثياب البيض وهم محرمون، فبادروا إلى الماء فتوضئوا وتقدمهم أحدهم فأذن أعلن الأذان، ثم تقدم إمام وأخذ يصلي، فكان النصارى ينظرون إلى ما لم تره أعينهم من قبل، إلى أن انتهوا من الصلاة، فجاء واحد منهم وكان طبيباً، وسأل هذا الإمام: ماذا تصنعون؟ وشعب سويسرا يتكلمون بالفرنسية، فقال: نصلي، قال: ما الصلاة؟ قال: ما رأيتم، قال: لم هذا الترتيب العسكري؟ فهناك واحد يصلون بصلاته، ويركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، قال: هكذا أمرنا الله، فصلاتنا وعبادتنا وديننا نظامي لا يقبل الفوضى في شيء من الأشياء، قال: ولم صليتم في هذه الجهة ولم تصلوا في الأخرى؟ قالوا: نستقبل الكعبة، فهي مكان اتجاه المسلمين في الأرض كلها.

فواصلت الطائرة رحلتها، وبعد ذلك أسلم هذا الطبيب وبحث عن كتب إسلامية وأسلم على يديه آلاف من أهل بلده، والآن في سويسرا مساجد ومعابد ومدارس ومؤمنون موحدون، وكان سبب إسلامهم وإيمانهم هذه الصلاة المعلنة من هؤلاء السود وقد جاءوا من السنغال، ولم يكن يخطر لهم ببال يوماً أن يكونوا دعاة إلى الله.