خطب ومحاضرات
يا باغي الخير أقبل [1]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني! تكلمنا في الخطبتين الماضيتين عن منكراتٍ تهاون بها الناس، وعن الوعيد الذي توعد الله به من فعل تلك المنكرات، ومن باب المقابلة وإكمال الصورة؛ فإننا نذكر في هذه الخطبة طائفة من الأعمال الخيرة التي يثيب الله عليها فاعلها أجراً عظيماً؛ لنعلم سعة رحمة الله من جهة، ومعنى اسمه (الكريم) من جهة، ومعنى أنه ذو الفضل العظيم من جهة أخرى، ليزداد الذين آمنوا خيراً؛ لأن العمل الصالح داخل في الإيمان، ولكي تصعد همم الذين يُريدون وجه الله والدار الآخرة، فينشطون للأعمال الصالحة من جهة أخرى.
إن أبواب الخير رحمةٌ من الله يفتحها لعباده، فالعاقل من اغتنم الفرصة وولج هذه الأبواب، والمحروم الغافل المسكين من فاتت عليه أعمال الخير فلم يعملها.
ونحن نعلم -أيها الإخوة- أن كثيراً من المسلمين في قلوبهم خير، وأنه مهما طغى على هذا الخير من الذنوب فإنه يوماً من الأيام قد تستيقظ حاسة الخير النائمة في نفسه؛ فيلجأ إلى الله عز وجل بهذه الأعمال.
حضور حلق الذكر
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قومٌ يذكرون الله تعالى؛ فيقومون حتى يُقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم، وبُدِّلت سيئاتكم حسنات)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس؛ أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعةً) حديث حسن.
والأحاديث في فضل حلق الذكر: من الملائكة الموكلين بالبحث عنها وحضورها، ومن نزول السكينة على أهلها، وغشيان الرحمة لهم، وإحاطتهم بالملائكة ما يدفع المسلم للبحث عنها والتماسها، فاحرصوا عليها في المساجد والبيوت وفي جميع الأماكن التي يمكنكم فيها عقد حلق الذكر وغشيانها، حولوا ولائمكم ومناسباتكم إلى حلق للذكر، ولتكن هذه الاجتماعات معمورةً بطاعة الله، وبالمتكلمين في أمره ونهيه، الذين ينصحون الناس ويعظونهم.
والعجيب بعد سياق هذه الأحاديث، أن نجد بعض الإخوان يُهملون حلق الذكر، فيعرف أنه يُوجد في المساجد -مثلاً- حلقٌ فيتكاسل عنها، أو تكون له حلقةٌ هو فيعتذر عنها بشتى الأعذار الواهية، وهو يعلم أن جلوسه فيها خيرٌ له بكثير من كثير من الأعمال التي يتعذر بعدم حضور حِلق الذكر من أجلها.
ولذلك كان لابد للمسلم أن يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه غيره، ويعلم بأن غشيانه لحلق الذكر مما يقوي الإيمان ويستفيد ويتعلم العلم النافع، ويسبب مغفرة الذنوب.
إن هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن تدفعه للحضور وعدم التخلف، خصوصاً وأن الكسل يدب إلى الكثيرين من طيلة الجلوس فيها، ويفضلون أنواعاً من اللهو عليها، أو أن الشيطان يشغلهم بالمفضول عن الفاضل في حضور حلق الذكر، وهذا أمر نسمع الشكوى منه من بعض القائمين عليها في بعض الأحيان، سماعاً يجعلنا نُذكِّر وننصح إخواننا في الله ألا يتكاسلوا عن ذلك.
الذكر بعد الوضوء
كم هي سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، بعد الوضوء؟ وهذا الحديث هو نفسه دعاء كفارة المجلس.
وفي الوضوء أذكار أخرى معلومة منها: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) .. (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) وتقول معه هذا الدعاء فإنه يكون محفوظاً لك عند الله مطبوعاً عليه مختوماً لا يكسر الختم إلى يوم القيامة.
مطلق الذكر
واعلموا بأن هذا الذكر في هذا الطريق يُصحح النية، ويردع الإنسان عن جر قدميه إلى أماكن المحرمات وغشيانها.
إذ كيف تقول: "سبحان الله"، أو "لا إله إلا الله" أو "أستغفر الله" وأنت تمشي إلى عملٍ محرم، زد على ذلك أن وصل القلب بالله في الجلوس في المسجد وخارج المسجد وفي السفرات يدل على حياة ذلك القلب وقرب صاحبه من ربه.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) وهذا حديث في فضل حفظ القرآن وجمعه في الصدر: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] فمن فضائل حفظ القرآن هذا الحديث: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) فقد شبَّه جسد الحافظ بهذا الجلد لا تمسه النار ولا تقربه، وفي الحديث الآخر: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقولك يا رب! حَلَّه -لصاحب القرآن- فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق ويُزاد له بكل آية حسنة) فكم هي عدد الآيات التي حفظها أو قرأها ليزداد بها يوم القيامة بكل ذلك حسنات. (لا أقول (ألم) حرف ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف) فإذا تأملت -مثلاً- أن عدد حروف القرآن ما يقارب ثلاثمائة ألف حرف، فكم يكون لك من الأجر لو ختمته مرةً واحدة؟ وكم يكون لك من الأجر لو ختمته في كل شهر مرة مثلاً؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بقراءة القرآن في أحاديث جاء في كل منها فترة مختلفة، فمرةً يقول: (اقرأ القرآن في سبع)، ومرةً يقول: ( في عشر )، ومرةً يقول: (في عشرين) ومرةً يقول: (في شهرٍ)، ومرةً يقول: (في أربعين يوماً) وذلك لأن الناس طاقات، وليست أوضاعهم متشابهة أو متساوية، فمنهم من عنده من التفرغ ما يستطيع به أن يختمه في أسبوع، ومنهم من لا يستطيع أن يختمه إلا في كل أربعين يوماً.
التبكير للجمعة
فإذا علمت بأن الله واسع المغفرة .. واسع العطاء .. واسع الأجر فما الذي يجعلك تتخلف عن الدخول في هذه الأبواب العظيمة من أبواب الأجر؟
إن الناس يتفاوتون في أجرهم في حضور الجمعة بحسب تبكيرهم وتنظفهم، ودنوهم من الإمام، وإنصاتهم ومشيهم، فليس الماشي كالراكب ولكل منهما أجر، وليس المبكر في الساعة الأولى كمن جاء في الساعة الخامسة، ولكلٍ أجر.
إدراك تكبيرة الإحرام
الجهاد في سبيل الله
فتأمل الآن في أحوال هؤلاء الأصناف، فالله -عز وجل- يُعطي الناس بحسب أعمالهم وما في قلوبهم من الإيمان، إذ أن الرجلين يتساويان في صورة العمل، ولكن يكون أحدهما أعظم أجراً من الآخر وذلك بسبب ما قام في قلبه من الإيمان.
هذا رجل يمشي مع إخوانه في السفر، فلما طال السفر وتعبوا نزلوا، وبدلاً من أن ينام من التعب آثر الله فجاهد نفسه، فقام يُصلي حتى أيقظهم، عملٌ عظيم في الليل وأصحابه نيام وهو لا يراه أحد إلا الله عز وجل.
وأيضاً جار صبر على أذى جاره، وما أكثر أذية الجيران لجيرانهم في هذه الأيام! برفع الأصوات، وطرق الأبواب، والفوضى والإزعاج، ورمي القاذورات، وفتح النوافذ من بعضهم للإشراف على عورات الجار الآخر .. أمورٌ كثيرة، فمن صبر حتى فرَّق الله بينه وبين جاره المؤذي بموت أو ظعن فإنه ممن يحبهم الله.
وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضل المجاهد: (لقيام رجلٍ في الصف في سبيل الله -عز وجل- ساعةً أفضل من عبادة ستين سنة) رواه البيهقي وغيره ،وهو حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (موقف ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود)رواه ابن حبان وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (حُرِّم على عينين أن تنالهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) حديث حسن.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم قيام هذه الساعة في ذلك الموقف في جهادٍ تحت راية الإسلام لإعلاء كلمة الله.
اللهم لا تحرمنا هذا الأجر برحمتك يا أرحم الراحمين، وإنني لأظن أن من باتت عينه تحرس الإسلام من الدس، والافتراءات، والبدع، والشبهات التي يذيعها ويسطرها أهل الكفر والنفاق، فيقوم فيصدع ويرد عليها، ويحذِّر الناس منها، أن ذلك ليدخل في هذا الحديث: (وعينٌ باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر).
الصدقة بالطيب
يكرم الله هذا المتصدق ولو بتمرة؛ لأنه أنفق مخلصاً من مالٍ طيب، وتأمل في هذا الحديث: (سبق درهم مائة ألف درهم) عجباً كيف يسبق درهم واحد مائة ألف درهم؟!! يقول صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك: (رجل له درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به -أي: تصدق بنصف ماله- ورجل له مال كثير فأخذ من عُرْضِه مائة ألف فتصدق بها) فالأعظم هو الأول الذي أنفق أقل؟! لأنه أنفق نصف ماله، وهذا الغني الذي له الآلاف المؤلفة أخذ من عرضها مائة ألف فتصدق، وما ضرته شيئاً، لكنَّ الأول تصدق بنصف ماله: فإذا تأمل العبد هذه الأعمال، وكم فيها من الأجر فلا يحتقر منها شيئاً: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
نسأل الله أن يعظم أجورنا وأجوركم، وأن يرشدنا وإياكم لولوج أبواب الخيرات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
إماطة الأذى عن الطريق
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه : (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس) بم تقلب في الجنة؟! بأذىً أماطه عن الطريق، وله -أيضاً- في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (مر رجلٌ بغصن شجرةٍ على ظهر الطريق فقال في نفسه: والله لأنحيَّن هذا عن المسلمين حتى لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم: (من رفع حجراً عن الطريق كتبت له حسنة، ومن كانت له حسنة دخل الجنة) حسنة متقبلة عند الله يدخل بها الجنة، فرفع حجرٍ من الطريق أو إزالة غصن من الشارع لا يأخذ منك شيئاً، لكنَّ الباعث على هذا العمل من صدق الإيمان؛ لا رياء ولا سمعة يجعل الله فيه أجراً عظيماً، أعمال بسيطة لكن أجرها عند الله كبير.
إن المشكلة -أيها الاخوة- أن كثيراً من المسلمين يعلمون أبواب الأجر والحسنات وهي كثيرة جداً، ومع ذلك يقفلونها ويدخلون أبواب السيئات.
فضيلة قتل الوزغ
السبب الأول:
أن الدواب كلها كانت تنفخ النار عن إبراهيم لتطفئها إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم، فلذلك وبعد موته بآلاف السنين نحن نقتل الوزغ مشاركةً شعورية منا لأبينا إبراهيم في محنته تلك، فإن قلت: ما بال هذا الوزغ من ذلك الوزغ؟ فأقول:
السبب الثاني: أنه قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما رواه النسائي : (الوزغ فويسق، والفويسقات يُقتلن في الحِل والحرم) والفويسقات مثل: الحدأ، والكلب العقور، والحية، والعقرب، والفأر، وكل ضار مؤذٍ يقتل، ومن بينها الوزغ، فإذا قتلت الوزغ بضربة فلك مائة حسنة.
عدم تحريز الزرع لئلا تأكل منه الطيور
ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ -أي: ما ينقص منه أحد بأخذ- إلا كان له صدقة، كثير من الناس يزرعون ويُشجِّرون؛ لكن من ذا الذي ينوي بزرعه الأجر إذا أكل منه إنسان أو طائر أو بهيمة.
فضيلة الإقراض وإنظار المعسر
فإذا أقرضت مسلماً قرضاً فلك وقت حلول الدين أجر نصف الصدقة بهذا المال، فإذا جاء الدين وأنظرته فكأنك تأخذ أجر هذا المال كله صدقة، فإذا جاء موعد الإنظار ولم يفِ وأعسر فأنظرته فلك في كل يوم مثلاه صدقة.
وقد كان بعض الصالحين يُخصص مبلغاً من ماله فقط ليسلفه، استثمار بمجرد الإقراض ليحصل له نصف أجر الصدقة، وإذا أنظرته للمرة الأولى صدقة كاملة وللمرة الثانية يكون الأجر مثليه.
لعل هذه الأحاديث تُحرِّك في نفوس الناس احتساب الأجر في المعسرين، وإذا استطردنا الكلام على أبواب الخير لو جدناها كثيرة لكن من المشمر! والله المستعان.
اللهم إنَّا نسألك حب الخيرات، وإطعام المساكين، ورفع الدرجات.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم واجعل فيما أعطيتنا عوناً لنا على طاعتك، اللهم اجعل فيما أنزلت علينا من المطر رحمة من عندك، اللهم اجعله غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحَّاً عاماً، غدقاً طبقاً، نافعاً غير ضار.
اللهم سقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم واجعلنا لنعمائك من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
يا مسلمون...قوا أنفسكم وأهليكم نارا | 2491 استماع |
يا خارجا من رمضان | 2032 استماع |
يا باغي الخير! أقبل [2] | 1980 استماع |
يا أبتي إني أخاف أن يمسك عذاب | 1941 استماع |
يا عباد الله اثبتوا | 1928 استماع |
يا يهود المسلمون قادمون | 1847 استماع |