دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثر ذلك على المجتمع


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد..

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزي القائمين على هذه السلسلة العلمية المباركة خير الجزاء، في اختيار الحديث، والتذكير بركنٍ عظيم، ومهمٍ جليلٍ من أعظم المهمات الدينية والشرعية، ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كان الخطاب بهذا الأمر موجهاً إلى كل فردٍ بعينه، أو كان موجهاً إلى الأسرة أو إلى من تولى أمراً من الأمور، إذ أن ذلك من صفات المؤمنين، وذلكم هو باب الخير، وسبب الخيرية والكرامة والرفعة التي استحقت بها أمتنا هذه أن تكون خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولن أفيض في مقدمةٍ ربما سبق الأجلاء من أصحاب الفضيلة في بداية هذه السلسلة حتى البارحة إلى الحديث عن كثيرٍ من جوانبها، ومباحثها ومسائلها، ولكني سأختصر الحديث على موضوع محاضرة هذه الليلة وهو " دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".

أحبتنا في الله: تعلمون جميعاً أن كثيراً من الآباء وليس بدعة يشقون في النهار ويسهرون الليل؛ خوفاً وشفقة وحباً ورعاية وعناية واهتماماً بالأولاد من البنين والنبات، وهل جُل مهمات سعي الوالد إلا لأجل إكرام أهله وأسرته، زوجةً وأولاداً؟

بل ولا تسل عن بالغ الرعاية وعظيم الرعاية بهم في الطعام والشراب، واللباس والدواء، والتعليم والترفيه، ولك أن تعجب غاية العجب مما تراه من جرِّ بعض الآباء ذريته وأسرته إلى سخط الله ومقته وعذابه، وتلك والله مسألة غريبة داعية إلى الدهشة والعجب، أن ترى أباً يسهر الليل ويشقى النهار، وينفق كل ماله، من أجل ترفيه وإسعاد هذه الأسرة، في لباسها وطعامها، وشرابها ودوائها، والترفيه عنها وكل احتياجاتها، ثم بعد ذلك تراه في ذات الوقت نفسه يعمد إلى هذه الأسرة ليسمح للصوص لتتخطفهم ذات اليمين وذات الشمال، يتخرمونهم من كل جانب، يقفزون عليهم في الأسواق، يدخلون عليهم الباب بلا استئذان، إنهم ليس بالضرورة أن يكونوا لصوصاً ممن تلاحقهم الشرطة، أو ممن يمنعهم القانون، ولكنهم لصوصٌ ربما دخلوا عبر الشاشات والقنوات والإذاعات، وترى هذا الأب الذي يزعم أنه ما ترك شاذة ولا فاذة، ولم يدخر نقيراً ولا قطميراً على هذه الأسرة إلا وصرفه وأنفقه وبذله لها، تراه في ذات الوقت يرى أسرته تخطف، ويرى أولاده وبناته وزوجاته يهاجمون، ويرى الخطر محدقاً بهم من كل جانبٍ، ثم لا تراه يتحرك ولا تراه يدفع عنهم، ولو أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، لالتفت إلى حجم القنابل الموقوتة التي زرعت في بيته عبر هذه القنوات، أو عبر كثيرٍ من الوسائل التي لم يلتفت لها ولم ينتبه إليها.

أيها الأحبة في الله: الحديث عن دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلفت النظر على وجه الخصوص إلى دور المرأة في هذا الركن العظيم، وذلك لأمورٍ أهمها:

أن النساء يبقى الأولاد معهن فترة أطول من مكث الرجال معهم، ثم إن الأولاد أكثر التصاقاً بالأمهات من الآباء خاصة في فترة التوجيه والتقبل والاستجابة، وتلكم فترة الطفولة، فلا يستطيع أحدٌ أن يدعي أن أولاده من البنين والبنات في حال التوجيه والاستجابة والانقياد والإذعان يبقون معه أكثر مما يبقون مع أمهاتهم، إذ الواقع والطبيعة، بل والفطرة والغريزة والجبلة، كل ذلك شاهدٌ على أن الأطفال يبقون مع النساء أوقاتاً أضعاف أضعاف ما يبقى الآباء أو الرجال معهم، ثم لا تنسى أن للمرأة دوراً في إكمال دور الرجل في الأمر والنهي، إذ لابد من موافقة ومتابعة من قبل المرأة للرجل في الاحتساب والأمر والنهي وإلا لأصبح المنزل طرفين، طرفٌ يبني، وطرفٌ يهدم، أمٌ تبني، وأبٌ يهدم، أو العكس أبٌ يبني وأمٌ تهدم.

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه     إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

إن من المشكلات التي تعاني منها كثيرٌ من الأسر والمجتمعات: أن ترى أماً صالحةً طيبةً مباركة، تعتني بالرعاية والعناية والاهتمام بهؤلاء النشء، ثم تجد في المقابل أباً يهدم ما بنته المرأة، أو العكس ترى أباً حريصاً على تعليم أولاده، يدخلهم حلقات تحفيظ القرآن، يمنع عنهم المجلات الخليعة، يذود ويبعد عنهم تلك القنوات الضارة السامة، وفي المقابل ربما ابتلي النشء وهؤلاء الأطفال بأمٍ لا تبالي في أي وادٍ هلكت الذرية وتلكم مصيبة وأي مصيبة، ثم إن للنساء أثراً كبيراً على أزواجهن، وهذا ملاحظ ومشاهد، بل ولك أن تعلم بكل قطعٍ ويقين أن كثيراً من الرجال سبب هدايتهم إلى الاستقامة والثبات على طاعة الله، هو فعل زوجاتهم ودأب الزوجات على دعوة الأزواج إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وطاعته.

ثم إن الأمر مهمٌ للغاية إذ أن الذي لا يلتفت إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مأمورٌ به، فربما تراه عاجزاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مكان، من عجز عن الاحتساب والنهي في بيته، فإنه أعجز وأضعف من أن يأمر وينهى خارج بيته، فالذي التفت إلى ذلك ينبغي أن يدرك أن الذي عجز عن الأمر والتوجيه في بيته، لهو أعجز وأضعف عنه خارج بيته، وذلك أن مظنة الجرأة والقدرة وعدم الخوف في حق من لك عليهم سلطة وولاية أو بينك وبينهم ارتباطٌ في ظل أسرة واحدة يهون عليك، ولا تجد حرجاً في أمرهم ونهيهم، فهؤلاء الذين لك عليهم سلطة، تنفق عليهم، تعطيهم المال، أنت الذي تكسوهم، وأنت الذي تطعمهم، وأنت الذي تسقيهم، وأنت الذي ترعاهم، إذا كنت بواقع القوامة والسلطة والمحبة والإشفاق والرعاية، مع هذا كله عاجزٌ عن أمرهم ونهيهم والاحتساب عليهم، فلا شك أن من عجز عن الأمر والنهي على هؤلاء سيكون أعجز إذا أراد أن يأمر غيرهم، وهذا أمرٌ جليٌ وواضح.

والأسرة -أيها الأحبة- من عموم المؤمنين الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] ولا حاجة إلى سرد الأدلة، في أن الأمر والنهي شاملٌ متناولٌ جميع أفراد الأمة ولا يختص بذلك طائفة، وإن كان على ولاة أمور المسلمين أن يخصصوا طائفة معنية بالسلطة ولها القوة في ارتباطها بالسلطان والأمر والنهي، لتباشر شيئاً لا يستطيعه من يحتسب بنفسه أو يحتسب على عامة الناس بقلبه أو بلسانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما تعلمون أيها الأحبة- شاملٌ عامٌ في حق الذكر والأنثى، والأب والابن، والأم والأخ والأخت، ومن تحته جملة من الذرية أو من الأسرة، ومن له ولاية ومسئولية، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وإن قول النبي صلى الله عليه وسلم صدر خطابه (من رأى) كلمة (من) كما قرر أهل الأصول من صيغ العموم: فتعم كل مسلم ومسلمة؛ فرداً ولياً، أو حاكماً على الأسرة، أو ولياً على الصغير واليتيم، أو غير ذلك، ولا أخال إلا أنه قد سبق في هذه المحاضرات التي طرحت في أول هذه السلسلة المباركة بيان كثيرٍ من الأحكام المتعلقة بهذا المهم العظيم مما يغني عن إعادتها، وحسبكم قول الله عز وجل في الآيات التي سمعنا طرفاً منها آنفا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أيها الأحبة: إننا ينبغي أن نتذكر دائماً أن مجتمعنا على خطرٍ عظيم ما لم يكن ثمة إصلاحٌ وائتمارٌ بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، وإلا فإن الأمة متوعدة بعذابٍ عظيم خطير، قال صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقابٍ، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم) وقول الله عز وجل في سورة هود: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فإذا كانت الأمة فيها إصلاحٌ، وفيها أمرٌ بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، وفيها دعوةٌ إلى الخير وفيها عنايةٌ إلى حفظ مستوى الأخلاق، وفيها رعايةٌ وحراسةٌ لمهمات الدين وأمور الشريعة، فإن الأمة بإذن الله عز وجل ستنجو من الهلاك، أما إذا فرطت وكلٌ أخذ ينحي باللائمة على غيره ويلقي بالمسئولية على عاتق من سواه، وكلٌ يدعي ويقول: هذا ليس مني! وليس بي! ولا إلي! ولا علي.. هذا مسئولية فلان.. هذا مسئولية علان؛ فلا تسل عن هلكة الأمة في يومٍ من الأيام.

متى يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على بعض أفراد الأسرة

أيها الأحبة في الله: معلومٌ أن الآمر إذا كان أقدر على التغيير، وأحرى بالقبول والاستجابة، وكان مظنة أن يؤتمر بأمره وينتهى عن نهيه، فإن ذلك يعني تعين الأمر والنهي وتعلقه به أعظم من غيره، فمن يعلم أنه إذا أمر استجيب لأمره، فإنه يكون الأمر والنهي في حقه واجباً متعيناً متعلقاً على رقبته، يحاسبه الله عليه ويسأله عنه، لأنه قد ملك السلطة والإرادة، فكذلك الأب والأم ولهم السلطة والمسئولية على أفراد الأسرة جميعاً يتعين عليهم تعيناً ليس بالقدر الذي يتعين ربما على الأخ أو الأخت أو القريب؛ لأن أولئك مظنة إن أمروا ائتمر لأمرهم، أو نهوا انتهي عما نهوا عنه، أو دعوا استجيب، أو نصحوا استمع لنصيحتهم، فأولئك يتعين عليهم من الأمر والنهي والحساب والمعاتبة عليه ما لا يتعين على غيرهم، ومعلومٌ أن في الأسرة من الاعتبارات الداعية إلى الاستجابة والانقياد ما لا يكون في غيرها، وهي في الغالب القوامة، القوامة من الاعتبارات التي تدعو إلى أن يكون الآمر يؤتمر لأمره، والناهي ينتهى عما نهى عنه، والسلطة والمحبة والاحترام كقوامة الرجل على زوجته مدعاة لقبول الزوجة أمر الزوج ونهيه في مرضاة الله، وحب الزوجة لزوجها مدعاة لذلك، وسلطة الأب وهيبته في نفوس أفراد أسرته مظنة، بل داعية إلى القبول والاستجابة، ومحبة الأولاد إلى الأبوين مدعاة إلى استجابة أفراد الأسرة للأبوين، وإذا علم هذا تبين أنه يتعين على أفراد الأسرة تجاه بعضهم من الأمر والنهي ما لا يتعين على غيرهم بنفس القدر والدرجة، فالذي يتعين عليك في أمر أختك أو في أمر أخيك بالمعروف ونهيه عن منكر واجبٌ عظيمٌ، وليس بالقدر الذي يتعين عليك في أمر جارك أو في أمر أبناء جيرانك أو في أمر بقية الأقارب ولو كانوا على درجة قريبة أو بعيدة في أمر القرابة، إذ الواجب في حقهم آكد منه في حق غيرهم، والإثم الذي ينال أفراد الأسرة بترك العمل والنهي ربما كان أعظم من الإثم الذي ينال غيرهم حال ترك الأمر والنهي.

تخصص رب الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولقد ورد الأمر لعموم المؤمنين بالأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، بل وزيادة على ذلك، مع الأدلة العامة الشاملة التي وردت في المحاضرات التي سبقت بهذه السلسلة، إلا أن ثمة أدلة ونصوص جاءت في الأمر والنهي، والتواصي في حقوق الأسرة المؤمنة، جاءت في نصوص عدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فهذا مع ورود النصوص العامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه أمرٌ خاصٌ في أمر الولي؛ من تحت ولايته من الزوجة والأبناء والبنات والأخوات والقريبات، أن يقي نفسه أولاً، وأن يقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة، وذكر الله من شأن عظم عذابه فيها ما ذكر.

أيها الأحبة: إننا ينبغي أن نتذكر دائماً أن مجتمعنا على خطرٍ عظيم ما لم يكن ثمة إصلاحٌ وائتمارٌ بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، وإلا فإن الأمة متوعدة بعذابٍ عظيم خطير، قال صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقابٍ، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم) وقول الله عز وجل في سورة هود: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فإذا كانت الأمة فيها إصلاحٌ، وفيها أمرٌ بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، وفيها دعوةٌ إلى الخير وفيها عنايةٌ إلى حفظ مستوى الأخلاق، وفيها رعايةٌ وحراسةٌ لمهمات الدين وأمور الشريعة، فإن الأمة بإذن الله عز وجل ستنجو من الهلاك، أما إذا فرطت وكلٌ أخذ ينحي باللائمة على غيره ويلقي بالمسئولية على عاتق من سواه، وكلٌ يدعي ويقول: هذا ليس مني! وليس بي! ولا إلي! ولا علي.. هذا مسئولية فلان.. هذا مسئولية علان؛ فلا تسل عن هلكة الأمة في يومٍ من الأيام.

أيها الأحبة في الله: معلومٌ أن الآمر إذا كان أقدر على التغيير، وأحرى بالقبول والاستجابة، وكان مظنة أن يؤتمر بأمره وينتهى عن نهيه، فإن ذلك يعني تعين الأمر والنهي وتعلقه به أعظم من غيره، فمن يعلم أنه إذا أمر استجيب لأمره، فإنه يكون الأمر والنهي في حقه واجباً متعيناً متعلقاً على رقبته، يحاسبه الله عليه ويسأله عنه، لأنه قد ملك السلطة والإرادة، فكذلك الأب والأم ولهم السلطة والمسئولية على أفراد الأسرة جميعاً يتعين عليهم تعيناً ليس بالقدر الذي يتعين ربما على الأخ أو الأخت أو القريب؛ لأن أولئك مظنة إن أمروا ائتمر لأمرهم، أو نهوا انتهي عما نهوا عنه، أو دعوا استجيب، أو نصحوا استمع لنصيحتهم، فأولئك يتعين عليهم من الأمر والنهي والحساب والمعاتبة عليه ما لا يتعين على غيرهم، ومعلومٌ أن في الأسرة من الاعتبارات الداعية إلى الاستجابة والانقياد ما لا يكون في غيرها، وهي في الغالب القوامة، القوامة من الاعتبارات التي تدعو إلى أن يكون الآمر يؤتمر لأمره، والناهي ينتهى عما نهى عنه، والسلطة والمحبة والاحترام كقوامة الرجل على زوجته مدعاة لقبول الزوجة أمر الزوج ونهيه في مرضاة الله، وحب الزوجة لزوجها مدعاة لذلك، وسلطة الأب وهيبته في نفوس أفراد أسرته مظنة، بل داعية إلى القبول والاستجابة، ومحبة الأولاد إلى الأبوين مدعاة إلى استجابة أفراد الأسرة للأبوين، وإذا علم هذا تبين أنه يتعين على أفراد الأسرة تجاه بعضهم من الأمر والنهي ما لا يتعين على غيرهم بنفس القدر والدرجة، فالذي يتعين عليك في أمر أختك أو في أمر أخيك بالمعروف ونهيه عن منكر واجبٌ عظيمٌ، وليس بالقدر الذي يتعين عليك في أمر جارك أو في أمر أبناء جيرانك أو في أمر بقية الأقارب ولو كانوا على درجة قريبة أو بعيدة في أمر القرابة، إذ الواجب في حقهم آكد منه في حق غيرهم، والإثم الذي ينال أفراد الأسرة بترك العمل والنهي ربما كان أعظم من الإثم الذي ينال غيرهم حال ترك الأمر والنهي.

ولقد ورد الأمر لعموم المؤمنين بالأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، بل وزيادة على ذلك، مع الأدلة العامة الشاملة التي وردت في المحاضرات التي سبقت بهذه السلسلة، إلا أن ثمة أدلة ونصوص جاءت في الأمر والنهي، والتواصي في حقوق الأسرة المؤمنة، جاءت في نصوص عدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فهذا مع ورود النصوص العامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه أمرٌ خاصٌ في أمر الولي؛ من تحت ولايته من الزوجة والأبناء والبنات والأخوات والقريبات، أن يقي نفسه أولاً، وأن يقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة، وذكر الله من شأن عظم عذابه فيها ما ذكر.

قصة لقمان وما فيها من العبر للأسرة المسلمة

ومن تأمل سورة لقمان وما فيها من الوصايا التي أوصى لقمان بها ولده ووعظه بها، وجده نموذجاً رائعاً وصورةً مشرقة، وصورة موعظة الأب لولده، واحتسابه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واسمع إلى قول الله عز وجل في سورة لقمان: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ثم قال بعد آياتٍ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:16-19] أمرٌ ونهيٌ واحتسابٌ، وموعظةٌ بليغة، وإرشادٌ جميل في باب العقيدة، في الأمر بالتوحيد، في النهي عن الشرك، ثم تذكيرٌ بمراقبة الله عز وجل، وعلم الله سبحانه وتعالى على أن هذا الولد عليه من الله رقيبٌ شهيدٌ مطلعٌ حسيب عليه في كل حركاته وفي كل سكناته وفي كل أحواله: إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16] والمعنى: يا بني! لا تظن أن الصغيرة يغفل الله عنها، وإن كانت خردلة في صخرة أو في السماء أو في الأرض، فإن الله يأتي بها ناهيك عن فعلٍ تفعله، والله عز وجل مطلعٌ على ما تفعل.

ثم أمرٌ بالوصية العظيمة التي أمرنا بها، بل وذكرنا فيها في حال موت نبينا صلى الله عليه وسلم يذكرنا بها: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17].

ثم وهو يأمر ولده أن يأمر بالمعروف: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] إذ الآمر لا بد أن يصيبه ما يصيبه من حال الناس، إما من يستطيل في عرضه، وإما من أحدٍ يرده أو يكذبه، وإما من شامتٍ أو حاسدٍ أو حاقدٍ أو عدوٍ، وربما تسلط على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر باليد، ومع ذلك فإن من احتسب بهذا الأمر المهم العظيم الذي كرامة فاعله عند الله بالجنة عالية، فإنه لا بد أن يوطن نفسه للصبر على ما يفعل.

ثم توجيهٌ في مسألة السلوك: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان:18] لا تنظر إلى الناس باحتقار، لا تنظر إلى الناس بتصغير، لا تتكبر عليهم: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:18-19] إياك والرعونة! لا ترفع من صوتك من غير حاجة، كل ذلك من الآداب الجميلة والرائعة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في محيط الأسرة الذي يتمثل من وصايا لقمان لابنه.

تأملات في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه

وتأمل قول الله عز وجل -أيضاً- في سورة مريم، وفيها احتسابٌ وأمرٌ ونهيٌ من ابنٍ لأبيه، من نبيٍ مؤمنٍ موحدٍ بل هو إمام الموحدين لأبيه الذي لا يزال على الشرك، إنه إبراهيم عليه السلام يأمر أباه بالتوحيد وهو أعرف المعروف، وينهى والده عن الشرك وهو أنكر المنكر، فيقول سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:41-45].

نعم، أيها الأحبة: من تأمل هذه الوقفة الجميلة الرائعة التي تجسد مشهداً وصورةً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيط أسرة الولد المؤمن يأمر وينهى ويحتسب ويدعو أباه المشرك، في هذه الآيات تأمل هذه المسائل:

صدر إبراهيم عليه السلام كل نصيحة لوالده بقوله: يا أبتِ! مذكراً والده برابطة الأبوة التي هي من أقوى الروابط، ومن شأنها أن تجعل كلا الطرفين حريصاً على مصلحة صاحبه.

الثانية: أنه طلب من والده أن يتدبر في فعله، حيث أن الأب يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً.

الثالثة: أنه لم يصف والده بالجهل المفرط؛ لأنه كان في مقام الدعوة، فيتألفه ويستأنس حاله، ويتقرب إليه ولا يتهمه بجهلٍ مطبقٍ وغباءٍ فاحشٍ وظلماتٍ بعضها فوق بعض، وإن كان الشرك جامعاً لهذه الصفات، لكنه في مقام الدعوة يحتاج أن يتألفه، بل بين له بأدبٍ جم: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] إن معي طائفة من العلم ليست معك، ثم أخبر أباه أن إعراضه عن توحيد الله بالعبادة ليس إلا بسبب اتباعه للشيطان الذي هو عدو له، ثم لم يقل لأبيه: إن عذاب الله لاحقٌ بك مرتبطٌ بك، بل أخبر بأدبٍ رفيع أنه يخشى أن يصيبه عذاب من الرحمن.

تأملات في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم في إطار الأسرة الواحدة يحتسب على عمه أبي طالب ، في آخر لحظة، وهي لحظة سكرات الموت، جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طالب في النـزع الأخير، فيقول له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فانظروا إلى لطيف الخطاب (يا عم!) ثم يقول له: (قل كلمة أحاج لك بها عند الل) فما ذاك -أيها الأحبة- إلا دليلٌ على أن الواحد مأمورٌ أن يتلطف غاية اللطفِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان في محيط الأسرة.

ومن تأمل سورة لقمان وما فيها من الوصايا التي أوصى لقمان بها ولده ووعظه بها، وجده نموذجاً رائعاً وصورةً مشرقة، وصورة موعظة الأب لولده، واحتسابه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واسمع إلى قول الله عز وجل في سورة لقمان: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ثم قال بعد آياتٍ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:16-19] أمرٌ ونهيٌ واحتسابٌ، وموعظةٌ بليغة، وإرشادٌ جميل في باب العقيدة، في الأمر بالتوحيد، في النهي عن الشرك، ثم تذكيرٌ بمراقبة الله عز وجل، وعلم الله سبحانه وتعالى على أن هذا الولد عليه من الله رقيبٌ شهيدٌ مطلعٌ حسيب عليه في كل حركاته وفي كل سكناته وفي كل أحواله: إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16] والمعنى: يا بني! لا تظن أن الصغيرة يغفل الله عنها، وإن كانت خردلة في صخرة أو في السماء أو في الأرض، فإن الله يأتي بها ناهيك عن فعلٍ تفعله، والله عز وجل مطلعٌ على ما تفعل.

ثم أمرٌ بالوصية العظيمة التي أمرنا بها، بل وذكرنا فيها في حال موت نبينا صلى الله عليه وسلم يذكرنا بها: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17].

ثم وهو يأمر ولده أن يأمر بالمعروف: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] إذ الآمر لا بد أن يصيبه ما يصيبه من حال الناس، إما من يستطيل في عرضه، وإما من أحدٍ يرده أو يكذبه، وإما من شامتٍ أو حاسدٍ أو حاقدٍ أو عدوٍ، وربما تسلط على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر باليد، ومع ذلك فإن من احتسب بهذا الأمر المهم العظيم الذي كرامة فاعله عند الله بالجنة عالية، فإنه لا بد أن يوطن نفسه للصبر على ما يفعل.

ثم توجيهٌ في مسألة السلوك: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان:18] لا تنظر إلى الناس باحتقار، لا تنظر إلى الناس بتصغير، لا تتكبر عليهم: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:18-19] إياك والرعونة! لا ترفع من صوتك من غير حاجة، كل ذلك من الآداب الجميلة والرائعة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في محيط الأسرة الذي يتمثل من وصايا لقمان لابنه.