إثبات الرؤية لله عز وجل


الحلقة مفرغة

ذكر المصنف رحمه الله أولاً: الآيات المتعلقة بإثبات صفة الوجه كقوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27] وهذه الآية من سورة الرحمن، وقبلها قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] فأثبت الفناء للمخلوقات على ظهر هذه الأرض، بقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] وكل:كما هو معلوم من ألفاظ العموم، التي تدل على فناء المخلوقات كلها، وليس المقصود العموم المطلق، وإنما هو العموم بحسبه، كما في قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] فإن من المعلوم أن المعنى: تدمر كل شيء قابل للتدمير بها، يعنى: بالريح، كبيوتهم وما أشبه ذلك، ولذا قال: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فآثار مساكنهم لا تزال باقية، فمن المعلوم أنها لا تستطيع أن تدمر السماء ولا الأرض.

ومثله قوله تعالى عن بلقيس: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] فقوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لا يعني العموم المطلق، وإنما هو عموم بحسبه، يعني من كل شيء مما يؤتاه الملوك عادةً، من المال والخدم والحشم والأعوان والشرط وغير ذلك.

فقوله جل وعلا هنا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] هذا عموم لكنه بحسبه، ولهذا فهناك أشياء لا تفنى، وقد عدها بعض أهل العلم ثمانية، كما ذكر السيوطي:

ثمانية حكم البقاء يعمها      من الخلق والباقون في حيز العدم

هي العرش والكرسي ونار وجنة     وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

(وعجب) يعني العظم الموجود في أسفل ظهر الإنسان، وذكر في بقية البيت الأشياء التي لا تفنى وهي الأرواح، واللوح والقلم، وغيرها:

فهذه ثمانية أشياء، وأما ما عداها فإنه كتب عليها الفناء والزوال، ثم استثنى وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] والآية إنما سيقت في مساق المدح فقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] ليس مدحاً، إنما يأتي المدح ويكمل إذا قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] فبعدما حكم بالزوال والفناء للمخلوقات على ظهر هذه البسيطة، استثنى وبين بقاء الله عز وجل فقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] ذلك أن الله عز وجل حي لا يموت، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: {أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون} وقال الله عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] وذلك أن حياته عز وجل حياة كاملة تامة، وهي صفة لذاته بخلاف المخلوق فإن حياته حياة ناقصة، قد أفاضها عليه ربه جل وعلا، ومنحه إياها،فيسلبها منه متى شاء، ولهذا قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وقوله: (ذو الجلال) فهذه صفة للوجه ولهذا جاءت مرفوعة بـ(ذُو)؛ لأنها صفة لـ(وجه) وهو فاعل وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] فهي صفة للوجه.

مسلك إثبات صفة الوجه من الآية

ويؤخذ من هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى من عدة أدلة منها:-

أنه وصف الوجه بقوله: ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وهذا دليل على أنه صفة له جل وعلا.

ومنها:أنه أضافه إلى الذات- أضافه إلى ذاته العظيمة- فقال: وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] ولو كان الوجه هو الذات- كما قال بعض أهل البدع- لم يكن لإضافته إلى الذات معنى.

ومن الأدلة على أن الوجه غير الذات وأن الوجه صفة لله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عطفه على الذات، كما في حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم} وذلك عند دخول المسجد، والحديث صحيح، فلو كان الوجه هو الذات، لم يكن لعطفه على الذات معنى، فلما عطف عليه عُلم أن الوجه صفة لله عز وجل وليس ذاته، وليس الوجه ذاته، فقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27].

محاجة المبتدعة في إثبات صفة الوجه والرد عليهم

وقد احتج بعض أهل البدع هنا بقولهم:إن هذا دليل على أن الوجه هو الذات، قلنا:كيف؟

قالوا:لأن البقاء هل هو خاص بالوجه أم لذاته- جل وعلا؟

الجواب: أنه ليس خاصاً بالوجه، بل لذاته سبحانه، قالوا:إذاً هذا دليل على أن الوجه

هو الذات وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي:يبقى ربك.

هذا كلام من؟

هذا كلام أهل البدع الذين أنكروا صفة الوجه، فيرد عليهم بأمور:-

منها:أن يقال إنه ذكر الوجه هاهنا وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] لأن إثبات بقاء الوجه يستلزم إثبات بقاء الذات، فحينئذ يكون المقصود بالوجه بقاء وجهه عز وجل، ويلزم من هذا بقاء ذاته.

الجواب الثاني: أن يقال:حتى على التسليم، بأن مقصود وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي:ويبقى ربك. فإن ذكر الوجه لله تعالى، لم يكن ليسوغ أو ليصلح لو لم يكن ثابتاً له في الأصل تعالى، فإن الإنسان يقبح منه مثلاً أن يقول: وجه الريح، لأن الريح ليس لها وجه، أو وجه الجدار؛ لأن الجدار ليس له وجه، فلما قال سبحانه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] علم أن الوجه صفة يوصف الله تعالى بها، وتثبت له، فلهذا ذكره في السياق- هذا فضلاً عن أن هناك نصوصاً أخرى لا تقبل مثل هذا التأويل، وذلك كما في أحاديث -النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الذي ذكرته: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم} وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهذا صريح في إثبات الوجه له تعالى.

ثم ذكر قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] وهي كالآية السابقة، حكم الله تعالى فيها بالهلاك على كل شيء إلا وجهه، ففيها إثبات صفة الوجه له تعالى، وبقاء الوجه يستلزم بقاء الذات كما سبق، وذكر الوجه له حتى لو كان المقصود إلا ذاته، فذكر الوجه لم يكن ليسوغ لو لم يكن الوجه صفة ثابتة له تعالى، وهذه فائدة ينبغي أن تعرف في جميع الصفات، بمعنى أن أهل البدع قد يتمسكون بنص من النصوص، يؤولون الآية فيه على غير ما دلت عليه، فمثلاً يقولون:في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فإذا قلنا لهم: هذا دليل على إثبات صفة اليد، قالوا: لا، لأن الملك ليس في يده حقيقة، وإنما المعنى:في تصرفه وتدبيره.

فنقول:حتى لو سلمنا جدلاً أن هذا هو المعنى، فإن قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] لم يكن ليسوغ لولا أن اليد في الأصل ثابتة له، مع أننا نستعين بالنصوص الأخرى الواردة في المقام والسياق نفسه لإثبات ما نفوه، وتحقيق ما أولوه.

ويؤخذ من هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى من عدة أدلة منها:-

أنه وصف الوجه بقوله: ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وهذا دليل على أنه صفة له جل وعلا.

ومنها:أنه أضافه إلى الذات- أضافه إلى ذاته العظيمة- فقال: وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] ولو كان الوجه هو الذات- كما قال بعض أهل البدع- لم يكن لإضافته إلى الذات معنى.

ومن الأدلة على أن الوجه غير الذات وأن الوجه صفة لله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عطفه على الذات، كما في حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم} وذلك عند دخول المسجد، والحديث صحيح، فلو كان الوجه هو الذات، لم يكن لعطفه على الذات معنى، فلما عطف عليه عُلم أن الوجه صفة لله عز وجل وليس ذاته، وليس الوجه ذاته، فقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27].

وقد احتج بعض أهل البدع هنا بقولهم:إن هذا دليل على أن الوجه هو الذات، قلنا:كيف؟

قالوا:لأن البقاء هل هو خاص بالوجه أم لذاته- جل وعلا؟

الجواب: أنه ليس خاصاً بالوجه، بل لذاته سبحانه، قالوا:إذاً هذا دليل على أن الوجه

هو الذات وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي:يبقى ربك.

هذا كلام من؟

هذا كلام أهل البدع الذين أنكروا صفة الوجه، فيرد عليهم بأمور:-

منها:أن يقال إنه ذكر الوجه هاهنا وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] لأن إثبات بقاء الوجه يستلزم إثبات بقاء الذات، فحينئذ يكون المقصود بالوجه بقاء وجهه عز وجل، ويلزم من هذا بقاء ذاته.

الجواب الثاني: أن يقال:حتى على التسليم، بأن مقصود وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] أي:ويبقى ربك. فإن ذكر الوجه لله تعالى، لم يكن ليسوغ أو ليصلح لو لم يكن ثابتاً له في الأصل تعالى، فإن الإنسان يقبح منه مثلاً أن يقول: وجه الريح، لأن الريح ليس لها وجه، أو وجه الجدار؛ لأن الجدار ليس له وجه، فلما قال سبحانه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] علم أن الوجه صفة يوصف الله تعالى بها، وتثبت له، فلهذا ذكره في السياق- هذا فضلاً عن أن هناك نصوصاً أخرى لا تقبل مثل هذا التأويل، وذلك كما في أحاديث -النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث الذي ذكرته: {أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم} وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهذا صريح في إثبات الوجه له تعالى.

ثم ذكر قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] وهي كالآية السابقة، حكم الله تعالى فيها بالهلاك على كل شيء إلا وجهه، ففيها إثبات صفة الوجه له تعالى، وبقاء الوجه يستلزم بقاء الذات كما سبق، وذكر الوجه له حتى لو كان المقصود إلا ذاته، فذكر الوجه لم يكن ليسوغ لو لم يكن الوجه صفة ثابتة له تعالى، وهذه فائدة ينبغي أن تعرف في جميع الصفات، بمعنى أن أهل البدع قد يتمسكون بنص من النصوص، يؤولون الآية فيه على غير ما دلت عليه، فمثلاً يقولون:في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فإذا قلنا لهم: هذا دليل على إثبات صفة اليد، قالوا: لا، لأن الملك ليس في يده حقيقة، وإنما المعنى:في تصرفه وتدبيره.

فنقول:حتى لو سلمنا جدلاً أن هذا هو المعنى، فإن قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] لم يكن ليسوغ لولا أن اليد في الأصل ثابتة له، مع أننا نستعين بالنصوص الأخرى الواردة في المقام والسياق نفسه لإثبات ما نفوه، وتحقيق ما أولوه.

ثم انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى صفة اليد، فذكر فيها قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وهذا من خطاب الله تعالى إلى إبليس حين أبى السجود، فقال الله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76] فقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي: لآدم عليه السلام إن الله تعالى خلقه بيده، كما جاء في الحديث الصحيح: {إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده}.

الرد على من أول اليد بالقدرة

فقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] لا يمكن تأويله، لأنه لو قال المؤول:أن المقصود باليد القدرة، لكان معنى الآية:لما خلقت بقدرتيَّ. وهل في النصوص أن الله له قدرتان؟

لا، إنما الله تعالى له قدرة كما جاء في النصوص.

فإثبات القدرتين له مثلاُ لا يدرك بالعقول، ولا جاءت به النصوص، هذا من وجه، ومن وجه آخر فإنه لو كان معنى (بِيَدَيَّ) أي:بقدرتي أو بنعمتي أو بقوتي، وهل كان هذا يخص آدم عليه السلام؟

لا، لكان هذا عاماً لجميع الخلق، حتى إبليس نفسه خلقه الله تعالى بقدرته، بل حتى نقول:خلقه برحمته، لأن الله عز وجل هو أرحم الراحمين، وهو أعلم بما يصلح الخلق، فأعماله وأفعاله كلها حسنة.

فتخصيص خلق آدم مثلاً بأنه بقدرته أو بعلمه أو بقوته ليس له معنى، فحتى إبليس خلقه الله تعالى بقدرته وخلقه بقوته، وحينئذٍ لا يكون للتخصيص في آدم معنى، فتعين أن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي:بيدين حقيقيتين له سبحانه، ولذلك تميز آدم وأمر الله تعالى ملائكته بالسجود له.

اليهود وما قالوه عن يد الله

ومثله قوله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] وقول اليهود -لعنهم الله عز وجل- معناه أنهم نسبوا لله عز وجل إلى البخل وعدم الإنفاق عليهم، فإن اليهود ينسبون إلى الله تعالى نقائص كثيرة كما حكى الله عنهم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] ونسبوا إليه الحزن والبكاء، ونسبوا إليه وإلى غيره من الأنبياء والمرسلين في كتبهم نقائص كثيرة، وذلك لأنهم جبلوا على الفساد والفجور والطغيان والوقاحة، ومنها:-

أولاً: نسبوا إلى الرسل شرب الخمور، والوقوع في الزنا، وغيرها من الفواحش ثم تجرءوا بعد ذلك على الله عز وجل فنسبوا إليه من النقائص ما ذكره تعالى في كتابه، وأيضاً نسبوا إليه أشياء لم تذكر في القرآن الكريم، لكنها موجودة في كتبهم، منها قولهم هاهنا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] أي: لا يبسطها بالإنفاق، قال الله عز وجل: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] وهذا حكم منه جل وعلا بغل أيديهم ولعنهم بما قالوا، ولذلك فإن اليهود مغلولة أيديهم، فهم لا ينفقون، ولا تمتد أيديهم بالخير إلى الناس، وهم ملعونون ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] وعلى مدى تاريخهم الطويل كانوا أذلة، وكلما ارتفع لهم رأس سلط الله عليهم من الملوك والكبار من يسومهم سوء العذاب وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167].

ولا يغترن مغتر بتسلطهم في هذا الزمان، فإن هذه فترة استثنائية قليلة، ولو نظرنا إلى دولة إسرائيل لوجدنا أنها نشأت منذ وقت قريب منذ خمسون أو ستون سنة في ميزان الله، وليست شيئاً مذكوراً، إنما فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] إنهم الآن يتهيؤون؛ لأن يحقق الله فيهم وعده، بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:4-8] إذاً هو وعد ثابت إلى قيام الساعة وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8].

فالمؤمن بالقرآن والسنة يوقن كما يرى الشمس بعينه أن لليهود جولة قادمة، سوف يسحقهم فيها عباد من عباد الله عز وجل، ويقتلونهم فيها قتل عاد وإرم، هذا وعد لا يقبل الشك؛ لأنه ممن لا يخلف الميعاد؛ وما ذلك إلا لبغيهم وعدوانهم ووقاحتهم وجرأتهم على الله تعالى ورسوله، ولهذا قال هاهنا: وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64].

ثم قال عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] وهذا هو الشاهد، فإنه أثبت لنفسه أن له يدين، ووصفهما بالبسط، وهذا ولا شك دليل على إثبات صفة اليدين لله جل وعلا.

مجيء صفة اليد بالإفراد والتثنية والجمع

وقد جاء في القرآن والسنة ذكرها بلفظ الإفراد والتثنية والجمع، كما في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] وقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً [يس:71] والجمع بين الإفراد والتثنية والجمع وارد أن يقال:إن لله عز وجل يدين حقيقيتين، فقوله باليد لا يعني الإفراد، بل هو كما تقول:رأيت هذا الأمر بعيني، وأنت تقصد بعينيك، وأما على الجمع فهو على أن أقل الجمع اثنان، فلا إشكال وهذا هو الظاهر والله أعلم.

إن لله تعالى يدين كما في قوله هاهنا: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقد يطلق الجمع على المثنى أيضاً كما في قوله تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] (قُلُوبُكُمَا) هي اثنان، ولم يقل: قلباكما، وإنما قال: (قُلُوبُكُمَا) فهكذا هاهنا: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] والآيات والأحاديث الواردة في إثبات اليد لله تعالى كثيرة، حتى إن النصوص تزيد على مائة فيها إثبات صفة اليد لله تعالى، فنثبتها إثباتاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته، دون أن نشبهها بالأيدي المعروفة من أيدي المخلوقات، ودون أن نؤولها كما أولها أهل البدع.

هذا الآيات ساقها المصنف رحمه الله تعالى لبيان عدد آخر من صفات لله عز وجل الثابتة في كتابه تعالى وهي:العين، والسمع، والبصر، وساق في ذلك عدداً من الآيات، وهذا ليس كل ما ورد، ولكن بعض ما ورد، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل العينين، ويثبتون له الرؤيا والبصر، ويثبتون له السمع على وجه يليق بجلاله، من دون أن يكيفوا ذلك بكيفية مما عهده البشر وعرفوه.

لا يلزم من إثبات العين، أن تكون العيون التي عرفها البشر، من حيث حدقتها ومن حيث مكوناتها، وما أشبه ذلك، فإن هذه هي العيون التي عهدها الناس وعرفوها، فإنهم يثبتون لله العين دون أن يدخلوا في تكييف العين؛ لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، فكذلك لا يعلم كيف صفاته إلا هو، ولكنهم يثبتونها كما جاءت في القرآن والسنة، من دون أن يكيفوها ومن دون أن يعطلوها أو يؤولها.

فيصرفوا معناها الظاهر إلى معنى آخر بعيد أو غير متبادر، خلافاً لما يفعله المعطلة وأسلافهم، فإنهم يؤولون هذه الأشياء إلى معانٍ مختلفة، فقد يؤولون السمع والبصر مثلاً بالعلم، وذلك أن العلم هو ثمرة السمع والبصر كما يزعمون، فيؤولونهما بالعلم، والواقع أن العلم صفة ثالثة، غير السمع وغير البصر، وكذلك بعضهم قد يقولون: يسمع بذاته، ويرى بذاته، فينفون عنه العين، وهذا أيضاً غير صحيح، فإن معنى ذلك أن الصفات كلها أصبحت مترادفة تدل على الذات فقط، والواقع أن الصفة تدل على معنيين: تدل على الذات بالالتزام، لأن الصفة دليل على الذات لا شك، ولكن أيضاً تدل على أمر آخر بالمطابقة، وهو المعنى الذي دلت عليه بالمباشرة.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع