طوق النجاة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ثم الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أفضل من وطئت قدمه الثرى، بآبائنا هو وأمهاتنا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة! عنوان محاضرتنا: طوق النجاة، ننجو من ماذا؟ وأي طوق نتقلده حتى ننجو؟ وأي مصيبة تعترضنا؟ وأي فتنة تلك التي نخاف منها حتى تنجو؟

والله إن أعمالنا في صباحنا ومسائنا وذهابنا وإيابنا وغدونا ورواحنا كلها هلاك علينا، وبوار بنا وخسارة في سعينا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] بنص كلام الله جل وعلا حيث قال وأقسم جل من قائل عليماً: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] إن جميع بني الإنسانية، إن جميع أفراد البشرية لفي خسر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

أيها الأحبة في الله! أما الفتن التي نلقاها فحدث عنها ولا حرج، وليس الخبر عنها بدعاً من متأخري زماننا، بل هي من معجزات نبوته صلى الله عليه وسلم: (تكون فيكم فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً فأيما قلب أشربها؛ نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب دفعها أو نجا منها كان فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على واحد من اثنين) أو كما يقول صلى الله عليه وسلم، إما أن يكون قلباً أسود مرباداً كالكوز مجخياً، أو أن يكون القلب فيه مثل السراج يزهر أصبح أبيض جميلاً صقيلاً، هذا معنى مجموع من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

أيها الأحبة في الله! والله إن الفتن لتعرض علينا عوداً عوداً، قال العلماء: عوداً عوداً، شبه عرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، كعرض العود في الحصير، عود بجانب عود، وآخر بجانب مثله، فهكذا تعرض الفتن على هذه القلوب وعلى معنى وتفسير آخر: عَوداً عَوداً أي مرة بعد مرة، والحاصل: أنه لا يسلم أحد من عرض هذه الفتن عليه.

عرض الفتن على السمع والبصر

فأول هذه الفتن ما نسمعه بآذاننا من ملة عن ذكر الله جل وعلا، أو سماع لما يسخط الله جل وعلا، أو لكلام بذيء أو فاحش نميم أو غيبة أو ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.

فتلك فتنة في الأسماع، إما أن تدخل إلى الأسماع فتنفذ إلى القلوب، وإما أن تبعد واحدة بعد الأخرى، إما رجل يفتح أذنه بل بمكبرات الصوت التي يسلطها على أذنه لكي تعرض الأغنية تلو الأغنية، والمصيبة تلو المصيبة، والرديء من القول يعقبه ساقط الكلام، والغيبة تتلوها النميمة على هذه الأذن، فتن تعرض على هذه الأذن واحدة بعد الأخرى، فإذا قبلت الفتنة الأولى استعدت للفتنة الثانية، وإذا قبلت الثانية استعدت للفتنة الثالثة وهلم جراً، حتى تمتلئ هذه الأذن بكل نغم ماجن وبكل صوت خليع وبكل عزف وضيع، فإذا سمعت كلام الله نفرت، وإذا سمعت ذكر الله ابتعدت، وأصبحت كالحمر المستنفرة فرت من قسورة.

والله ثم والله هذا شأن طائفة من عباد الله من البشر الذين رأيناهم في هذا الزمان، يوم أن يعلو صوت كلام الله أو سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم، أو داعٍ إلى الله على أسماعهم ينفرون كما تنفر الحمر، لماذا؟ لأن هذه الآذان قد امتلأت قيحاً وصديداً من رديء يسخط الله ويغضبه، وهل تستطيع أن تملأ في كوزٍ واحد مادتين في آنٍ واحد، فهو إما أن تملأ فيه خيراً، وإما أن يخرج الخير منه ويمتلأ الشر به، وإما أن يختلط الخير بالشر على مداهنة ونفاق وذلك شر العباد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وتعرض الفتن على أبصارنا عوداً عوداً، وتعرض الفتن على أعيننا عَوداً عَوداً، مرة بعد أخرى، فنرى منظراً لا يجوز النظر إليه ثم نكرر النظر، ولو كانت لنا الأولى فليست لنا الثانية، فنديم النظر ثم نطلق العنان للخطرات، ونطلق للخيال عنانه حتى يتأمل هذه الصورة ويستحسنها، وكما قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي : إن الشيطان يقول لجنوده وأتباعه: عليكم بثغر الأذن! الله الله لا يدخل منه كلام مما توجل منه القلوب أو تخشع له الأفئدة، بل زينوا في هذه الآذان كل لحن وعزف وغناء، ثم عليكم بثغر العين فاجعلوها لا تنظر إلا إلى ما حرم الله، واحجبوا نظرها عن أن تنظر في ملكوت الله في سماواته، أو أن تنظر إلى بديع صنع الله في مخلوقاته، واحجبوا ذلك كله، واجعلوا هذه العين تنظر إلى ما حرم الله، فإذا رسخت هذه الصورة المحرمة زينوها في قلب هذا الناظر وانقشوها فيه ومنوه بها حتى تخالجه الخطرات في اللقاء، وتزين له الخطوات الدنو، فإذا قاب قوسين أو أدنى من المعصية فدعوه لي وأنا دونكم عنده أصرعه على فاحشة وعلى مصيبة تجعله من أهل الفواحش والكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هذه فتن تعرض على أبصارنا على الشاشات والمجلات، وفي الأسواق بين الغاديات والرائحات، وفي كثير من الأماكن والمناسبات، وفتن تعرض في مجالسنا إما أن يستطيل الكلام في أعراض الأبرياء، وإما أن يطول الحديث في أعراض المحصنات، وإما أن تملأ المجالس بالغيبة والنميمة، وما يثقل الموازين بالسيئات، ففتن الكلام كلمة تتلوها كلمة، فإذا تحدث واحد ممن تسلط ألسنتهم أو تسلطت ألسنتهم عليهم زين أحد الجالسين حديثه بابتسامة وأكمل بقية الحاضرين حديثه بضحكٍ وإعجاب، فما يزال بعضنا يثني على كلام بعض، حتى نستمرئ الغفلة ونستلذ الكلام في المعصية، ونأنف أن نتلذذ بسماع خطاب الله وجميل كلام نبيه صلى الله عليه وسلم.

عرض الفتن على الأيدي والأقدام

هكذا -أيها الأحبة- تعرض الفتن على هذه الأيدي، فإما أن تمتد لتدخل في هذه الجيوب حراماً، أو أن تمد اليد بطشاً وظلماً وعدواناً إلى حرام، وتعرض الفتن على هذه الأقدام فتخطو إلى الحرام وتدنو منه وتواقعه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فإذا رتعت ثم استحلت المرعى وقعت، ثم بعد ذلك أنى لك أن تخرجها وقد سامت المرعى وشبعت منه، ولو وجدت في الحرام والعياذ بالله لذة حجبتها وأبعدتها أن تستشعر حقيقة لذة الحلال والإيمان.

النجاة من الفتن في الكتاب والسنة

أيها الأحبة في الله! إما أن نكون في فتن تعرض علينا فهذا والله حق لا شك ولا مرية فيه، ولكن ما هي النجاة من هذه الفتن؟ أي طوق نتقلده، وأي قارب نستقله، وأي سفينة نبحر بها ونحن في بحر تتلاطم أمواجه؟ والله -يا عباد الله- إن اطلاعة منكم على ما يدور في مجلس بعض الشباب لكافٍ في أن تعلموا إلى أي حد بلغت الغفلة في القلوب، وهجمت الشهوات والشبهات على الأنفس، بل أصبح المعروف منكراً، وأصبح المنكر معروفاً، واختلط الأمر على الناس في هذا الزمان بين قاسي القلب لا يخضع لموعظة، وبين مشتبه قد اشتبه عليه الحلال والحرام، قد سمع علماء الدنيا قالوا كذا، وآخرين للسلاطين قالوا كذا، وآخرين للمراتب والجاه قالوا كذا، ثم بعد ذلك احتارت قلوبهم وتباينت وتشتت أذهانهم ما هو الحلال من الحرام؟!

أيها الأحبة في الله! العصمة في كتاب الله، وطوق النجاة في قرآن أنزله الله، وفي سنة أوحاها الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة النبوية، فطوق النجاة فيها أيها الأحبة.

فأول هذه الفتن ما نسمعه بآذاننا من ملة عن ذكر الله جل وعلا، أو سماع لما يسخط الله جل وعلا، أو لكلام بذيء أو فاحش نميم أو غيبة أو ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.

فتلك فتنة في الأسماع، إما أن تدخل إلى الأسماع فتنفذ إلى القلوب، وإما أن تبعد واحدة بعد الأخرى، إما رجل يفتح أذنه بل بمكبرات الصوت التي يسلطها على أذنه لكي تعرض الأغنية تلو الأغنية، والمصيبة تلو المصيبة، والرديء من القول يعقبه ساقط الكلام، والغيبة تتلوها النميمة على هذه الأذن، فتن تعرض على هذه الأذن واحدة بعد الأخرى، فإذا قبلت الفتنة الأولى استعدت للفتنة الثانية، وإذا قبلت الثانية استعدت للفتنة الثالثة وهلم جراً، حتى تمتلئ هذه الأذن بكل نغم ماجن وبكل صوت خليع وبكل عزف وضيع، فإذا سمعت كلام الله نفرت، وإذا سمعت ذكر الله ابتعدت، وأصبحت كالحمر المستنفرة فرت من قسورة.

والله ثم والله هذا شأن طائفة من عباد الله من البشر الذين رأيناهم في هذا الزمان، يوم أن يعلو صوت كلام الله أو سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم، أو داعٍ إلى الله على أسماعهم ينفرون كما تنفر الحمر، لماذا؟ لأن هذه الآذان قد امتلأت قيحاً وصديداً من رديء يسخط الله ويغضبه، وهل تستطيع أن تملأ في كوزٍ واحد مادتين في آنٍ واحد، فهو إما أن تملأ فيه خيراً، وإما أن يخرج الخير منه ويمتلأ الشر به، وإما أن يختلط الخير بالشر على مداهنة ونفاق وذلك شر العباد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وتعرض الفتن على أبصارنا عوداً عوداً، وتعرض الفتن على أعيننا عَوداً عَوداً، مرة بعد أخرى، فنرى منظراً لا يجوز النظر إليه ثم نكرر النظر، ولو كانت لنا الأولى فليست لنا الثانية، فنديم النظر ثم نطلق العنان للخطرات، ونطلق للخيال عنانه حتى يتأمل هذه الصورة ويستحسنها، وكما قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي : إن الشيطان يقول لجنوده وأتباعه: عليكم بثغر الأذن! الله الله لا يدخل منه كلام مما توجل منه القلوب أو تخشع له الأفئدة، بل زينوا في هذه الآذان كل لحن وعزف وغناء، ثم عليكم بثغر العين فاجعلوها لا تنظر إلا إلى ما حرم الله، واحجبوا نظرها عن أن تنظر في ملكوت الله في سماواته، أو أن تنظر إلى بديع صنع الله في مخلوقاته، واحجبوا ذلك كله، واجعلوا هذه العين تنظر إلى ما حرم الله، فإذا رسخت هذه الصورة المحرمة زينوها في قلب هذا الناظر وانقشوها فيه ومنوه بها حتى تخالجه الخطرات في اللقاء، وتزين له الخطوات الدنو، فإذا قاب قوسين أو أدنى من المعصية فدعوه لي وأنا دونكم عنده أصرعه على فاحشة وعلى مصيبة تجعله من أهل الفواحش والكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هذه فتن تعرض على أبصارنا على الشاشات والمجلات، وفي الأسواق بين الغاديات والرائحات، وفي كثير من الأماكن والمناسبات، وفتن تعرض في مجالسنا إما أن يستطيل الكلام في أعراض الأبرياء، وإما أن يطول الحديث في أعراض المحصنات، وإما أن تملأ المجالس بالغيبة والنميمة، وما يثقل الموازين بالسيئات، ففتن الكلام كلمة تتلوها كلمة، فإذا تحدث واحد ممن تسلط ألسنتهم أو تسلطت ألسنتهم عليهم زين أحد الجالسين حديثه بابتسامة وأكمل بقية الحاضرين حديثه بضحكٍ وإعجاب، فما يزال بعضنا يثني على كلام بعض، حتى نستمرئ الغفلة ونستلذ الكلام في المعصية، ونأنف أن نتلذذ بسماع خطاب الله وجميل كلام نبيه صلى الله عليه وسلم.

هكذا -أيها الأحبة- تعرض الفتن على هذه الأيدي، فإما أن تمتد لتدخل في هذه الجيوب حراماً، أو أن تمد اليد بطشاً وظلماً وعدواناً إلى حرام، وتعرض الفتن على هذه الأقدام فتخطو إلى الحرام وتدنو منه وتواقعه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فإذا رتعت ثم استحلت المرعى وقعت، ثم بعد ذلك أنى لك أن تخرجها وقد سامت المرعى وشبعت منه، ولو وجدت في الحرام والعياذ بالله لذة حجبتها وأبعدتها أن تستشعر حقيقة لذة الحلال والإيمان.

أيها الأحبة في الله! إما أن نكون في فتن تعرض علينا فهذا والله حق لا شك ولا مرية فيه، ولكن ما هي النجاة من هذه الفتن؟ أي طوق نتقلده، وأي قارب نستقله، وأي سفينة نبحر بها ونحن في بحر تتلاطم أمواجه؟ والله -يا عباد الله- إن اطلاعة منكم على ما يدور في مجلس بعض الشباب لكافٍ في أن تعلموا إلى أي حد بلغت الغفلة في القلوب، وهجمت الشهوات والشبهات على الأنفس، بل أصبح المعروف منكراً، وأصبح المنكر معروفاً، واختلط الأمر على الناس في هذا الزمان بين قاسي القلب لا يخضع لموعظة، وبين مشتبه قد اشتبه عليه الحلال والحرام، قد سمع علماء الدنيا قالوا كذا، وآخرين للسلاطين قالوا كذا، وآخرين للمراتب والجاه قالوا كذا، ثم بعد ذلك احتارت قلوبهم وتباينت وتشتت أذهانهم ما هو الحلال من الحرام؟!

أيها الأحبة في الله! العصمة في كتاب الله، وطوق النجاة في قرآن أنزله الله، وفي سنة أوحاها الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة النبوية، فطوق النجاة فيها أيها الأحبة.