لحظة قبل فوات الأوان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة: كثيراً ما نواجه ويواجه كل واحدٍ منكم طوائف من الشباب ومن كبار السن من اللاهين العابثين الغافلين عن الآخرة، العابثين في دنياهم، اللامبالين بأي مصيرٍ يئولون إليه وينتهون عنده، إن قدمت شريطاً فيه موعظة لا يسمعونه، وإن قدمت رسالة فيها كلامٌ جميل لا يقبلونه، وإن قدمت نصيحة لا يرعوون لها، وإن تلطفت مع طائفة منهم يظنونه ذلاً واحتقاراً، وإن أخلصت النصيحة لأحدهم ظنوه استعلاءً وتكبراً، والله إن العقل والفكر ليحارا، ويصبح الحليم حيران أمام طائفة من أولئك اللاهين العابثين، الذين لا يعرفون المساجد إلا نزراً يسيراً، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولهم في بلاد الغرب مع البغايا والفاجرات صولات وجولات، كيف الطريق إلى قلوب هؤلاء؟ كيف يُدعون إلى الله؟ كيف يُنادَون إلى كتاب الله؟ هل نيأس منهم؟ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] هل نحكم عليهم بالشقاء؟

كلا لأن المسلم ليس مسئولاً أن يحكم على الناس في نهاياتهم أن يكونوا من أهل الجنة أو أهل النار، وعقائد أهل السنة جميعاً ناطقةٌ بأنهم جميعاً لا يشهدون لأحدٍ بجنة أو نار، لكن يخشون على المسيء العقاب، ويرجون للمحسن الثواب، هل يعتبرون من سقط المتاع أو على هامش الحياة؟ لا والله يا عباد الله!

هناك مدخل رئيس، وهناك حقيقة لا بد من طرحها، وقضية لا بد من مواجهتها؛ قضية لا بد أن نواجهها نحن، لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد، ولا بد أن يواجهها كل مسلم وكافر، كل بعيدٍ وقريب، كل ذليل ٍوحقير، كل عزيزٍ وأمير، كل صعلوكٍ ووزير، هي حقيقة الموت، هي نهاية المطاف، هي خاتمة الدنيا.

إن كل البشرية تشهد وتعلم وتنطق أن نهايتها هي الموت، وأن منتهى الطريق بالنسبة لها هي الانقطاع عن هذه الدنيا؛ انقطاع النفس والروح، وانقطاع الجوارح؛ فالعين لا تبصر، واليد لا تتحرك، والأذن لا تسمع، والنفس لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايين لا تنبض، إنها النهاية الأخيرة التي يواجهها ويقف أمامها كل صغيرٍ وكبير، كل بعيدٍ وقريب.

شابٌ من مدة ليست بالقريبة حدثني عن أحد الشباب فيما تسمى بـ( بانكوك ) قال: لقد كان في ضلالة، في بلاء، في أمرٍ لا يفيق منه بسبب المخدرات أو الشراب وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات، وفي لحظة من سكرٍ وشوقٍ إلى عهرٍ تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، وقد كاد يُجن من تأخرها، فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خر ساجداً تعظيماً لها، خر ساجداً لها وما الذي تنتظرونه؟

إنها السجدة الأخيرة، هي النهاية، والله ما قام من سجدته بل أقاموه في تابوته، وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.

أيها الأحبة في الله! في الجمعة الماضية أثناء ما كنت أخطبكم على هذا المكان، وأنتم تستمعون في هذا المكان، دخل ملك الموت في هذا المسجد وتخطى صفاً واحداً .. واثنين وثلاثة وأربعة .. حتى بلغ الصف السادس أو السابع من آخر هذا المسجد، فقبض روح عبدٍ من عباد الله كان شاهداً الصلاة والخطبة معنا.

الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لو تقدم ملك الموت صفاً واحداً لقبض روحك، ولو تقدم صفوفاً أكثر لقبض روحي، ولو تأخر صفاً واحداً لقبض روح شخصٍ آخر.

استعدوا يا عباد الله! ولمثل هذا فأعدوا، أسأل الله لميتنا الرحمة والغفران، ولذويه الصبر والسلوان، خرج من بيته إلى الجمعة لم يتخط رقبة، متطيباً متهيئاً، حادث أهله واستأنس بأطفاله، ثم اغتسل وخرج إلى المسجد، يقود سيارته بنفسه، وجيء بسيارته إلى البيت لا يقودها هو، لبس ثوبه بنفسه ولم يخلعه بل خلع منه، دخل هذا المسجد بنفسه وخرج محمولاً.

أيها الأحبة! بعد أن دخل الخطيب وأعلن التحية للسلام مد ميتنا مصحفه إلى من كان بجواره، فأخذ المصحف من يده ووضعه على الرف الذي أمامه، ثم جلس قليلاً يستمع الأذان ثم الخطبة، بعد الشروع فيها، وما هي إلا لحظة أو أقل من لحظة حتى اتكأ على ظهر كف يده، فظن الذي بجواره أنه ناعسٌ أو نائم، فالتفت إليه وأيقظه، فإذ به يسمع شيئاً أشبه ما يكون بشخير النائم، ثم بعد ذلك استلقى على قفاه، الله أكبر! (من مات يوم الجمعة أمن الفتان) الله أكبر! على هذه الميتة الطيبة في هذا المكان المبارك، في هذه الساعة المباركة، في يوم الجمعة خير يومٍ طلعت عليه الشمس.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2664 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2652 استماع
توديع العام المنصرم 2647 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2552 استماع
من هنا نبدأ 2495 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2461 استماع
أنواع الجلساء 2460 استماع
الغفلة في حياة الناس 2437 استماع
إلى الله المشتكى 2436 استماع