وهل نجازي إلا الكفور


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وحده لا شريك له على نعمه التي لا تحصى وعلى آلائه التي لا تنسى، أحمده سبحانه حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، فهو سبحانه أهل الثناء والمجد، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وصفيه من خلقه الداعي بدعوته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم العرض الأكبر على الله، يوم تنظر كل نفس ما قدمت، يوم تتغابن النفوس فيما أسلفت.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي سبيل النجاة في هذه الدنيا، وهي سبيل الأمن في دار البرزخ، وهي سبيل الفوز والفلاح في الآخرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

معاشر المؤمنين: خلق الله هذه الخليقة بصغير ما فيها وجليل ما عليها لحكمة بالغة وهو العليم الحكيم، تعالى الله أن يخلق عبثاً، وخلق هذا الإنسان وأودع فيه من دقيق صنعه ومن جميل خلقه ما عجزت عنه أولو الألباب وصفاً، وعجزت عنه أولو العقول إدراكاً، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].

عباد الله: أودع الله في هذا الإنسان نعماً عظيمة وأسراراً جليلة، في سمعه وفي بصره، وفي عقله، وفي فرجه وأجهزته وحواسه، ولكن كثيراً من الناس في هذا الزمان كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يعرفون حكماً جليلة لأجلها خلقوا، وتطاول بعضهم وانساق وراءه من تطاول ورددوا بمسمع من الملأ:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أو أبيت

كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري؟

ولماذا لست أدري

لست أدري

كلمات ملؤها الإلحاد والاعتراض والجهالة: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:77-79].

عباد الله! هذا الإنسان وهذا المخلوق إذا لم يرع نعمة ربه عليه، ويدرك سر وجوده، ويعرف الحكمة من دبيبه على الأرض فإنه ينقلب مصيبة ودماراً، وهلاكاً وفتكاً في نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته.

عباد الله! هذه النفس الإنسانية عجيبة كل العجب، هذه النفس الإنسانية هي مدار كثير من الخلق والأسرار والإبداع والتكوين: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ [فصلت:53] في الأفلاك، وفي النجوم، وفي المجرات، وفي السموات، وفي هذه البحار السماوية المتلاطمة بالنجوم المسخرة: وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53] في هذه النفس الإنسانية؛ لأن فيها من الآيات والإبداع والعبر ما جهله كثير من الناس، واستخدموه لغير ما أوجده الله وخلقه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

أيها الأحبة في الله: في هذا العالم المتلاطم من بحار حكمة الله في خلق هذا الإنسان نقف وقفة متأملة في نعمة الصحة ونعمة العافية، يقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) وشاهدنا: (اغتنم صحتك قبل سقمك).

أيها الأحبة في الله: هذه العيون التي تبصرون بها، وهذه الآذان التي تسمعون بها، وهذه الأيدي التي تبطشون بها، وهذه الأقدام التي تمشون بها، كم لله فيها من عرق ساكن لو تحرك ما تلذذتم بعيش، وكم لله فيها من عرق متحرك لو سكن ما وجدتم لذة طعام ولا شراب ولا منام ولا نكاح.

أيها الأحبة في الله: نعم الإله على العباد كثيرة، نصبح في نعمة ونمسي في مثلها، نصبح في شبع ونمسي في ري، نصبح نرفل في ثياب ونمسي في غيرها، نتقلب في ألوان من الحلل والنعم والمراكب والمساكن والمفارش وقد نسينا نعمة الله علينا فيها، وقل من عباد الله من يصبح ذاكراً لله أو يمسي شاكراً لله، أو يؤدي حق الله فيما أنعم عليه من هذه النعم وهذه الآلاء، يركبون حديداً سخر لهم يتعطف بهم يميناً ويساراً، حيثما شاءوا ولأي جهة أرادوا، وإذا ركبوا لا يقولون: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.

يصعد عشرة أدوار أو عشرين دوراً من البنايات الشاهقة، فإذا ركب مصعداً يستحيي أو يتجاهل أن يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، من الذي يشكر؟ من الذي يذكر؟ أتذكر الملوك، أيذكر الأثرياء، أيذكر العظماء؟ لا والله، لا يذكرون قبل الله ولا يذكرون إلا بفضل الله عليهم وعلينا، ونحن جميعاً عباد لله جل وعلا، اذكروا الله في كل ذهاب وإياب، في كل مجيء ونزول وارتحال، اذكروا نعمة الله عليكم يا عباد الله.

أيها الأحبة: وفي هذا الجو المتزاحم من هذه النعم والأمن والطمأنينة ينسى كثير من الناس نعمة ربه، فيدخل بيته على أنغام العزف والطرب والموسيقى والغناء، ويخرج منه على صور النساء المتبرجات في الشاشات والأفلام، ويركب سيارته على دنين وطنين المعازف والآلات الموسيقية، وينزل منها لا يذكر حمداً لله على سلامته ووصوله، إلى أي حد بلغت قسوة هذه القلوب؟!

الله أكبر يا عباد الله! لو سمعتم كلام أحد البشر وهو يتملق وينافق ويداهن أمام ثري من الأثرياء، أو أمام غني من الأغنياء لقليل من المال، لحفنة من التراب يعطي هذا الثناء وهذه المداهنة وهذه المجاملة، وينسى نعم الله عليه، التي لا تحصى بآلاف الملايين من الدولارات والريالات وغيرها.

أيها الأحبة في الله: من منكم يبيع بصره بمائة مليون، من منكم يبيع سمعه بمائة مليون، من منكم يبيع فرجه بمائة مليون، من منكم يبيع يديه بمائة مليون، من منكم يبيع قدميه بمائة مليون؟ لا والله لا يرضى أحدكم أن يبيع جارحة أو حاسة من حواسه بهذه الملايين، إذاً فأنتم تملكون مئات الملايين وعشرات الملايين وآلافها، ولكن الكثير لا يشكرون الله ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وبعضهم عن ذكر ربهم غافلون.

أيها الأحبة: انظروا إلى معهد الأمل للصم والبكم، انظروا كيف يعانون مراحل التعليم، كيف يواجهون ويشقون طريقة الحياة عبر كثير من الوسائل المساعدة والأجهزة التي تساعدهم قليلاً إلى إدراك لغة التخاطب، وإيصال المعلومة المرادة منهم إلى غيرهم.

عباد الله! أتظنون نعمة السمع سهلة، أتظنون نعمة البصر والبصيرة سهلة، لا والله -يا عباد الله- إنها نعمة جليلة ولكن كثيراً من الناس عنها غافلون: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك:23-24] وماذا بعد هذا؟ يتحدون ويقولون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك:25-26].. وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54] وخلق الإنسان جهولاً، هذا الإنسان الضعيف، هذا الإنسان الذي يخلقه الله من العدم ويربيه وينميه وينشز فيه العظام واللحم والعصب والعروق والدماء في بدنه، فإذا استقام سوياً على قدميه وقف خصيماً مبيناً.

وقف العاص بن وائل، وفي رواية أنه أمية بن خلف وفي يده عظم قد أرم وأخذ يفت هذا العظم ويقول: يزعم محمد أن الله يعيدنا خلقاً آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم يخلقك الله ثم يحشرك إلى جهنم) ونزل قول الله: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ من دفقة منوية، من نطفة قذرة يستحي ولا يطيق أن ينظر إليها في يده أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] خصيم: يخاصم ويجادل، مبين: ببيان وفصاحة وبلاغة، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] من الذي يحييها؟ من الذي ينشزها ويعيدها؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] أنشأها الله من عدم ثم يعجز عن ردها بعد وجودها؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

أيها الأحبة في الله: تفكروا في نعم الله عليكم، تفكروا في آلاء الله في أنفسكم: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18] كثير من الناس إذا مرت بجواره سيارة فارهة يقول: لعن الله الفقر، لعن الله القهر، لعن الله الضعف ..، ويردد عبارات تافهة حقيرة؛ لأنه رأى سيارة مرت أمامه وهي جميلة منمقة ملمعة، ورأى النعم كل النعم في قطع من الحديد والمطاط مجتمعة، ونسي آلاف النعم في بدنه وفي سمعه وفي بصره، مساكين أولئك الذين يرون نعم الله في الحديد والمطاط وينسون نعم الله في أنفسهم وأبدانهم، إن كثيراً من الأثرياء على أتم الاستعداد أن يبذلوا ثلاثة أرباع ملكهم في سبيل إذا جلسوا على مائدة أن يأكلوا ما شاءوا، وإذا أووا إلى فرشهم فعلوا ما يفعل غيرهم، وإذا أرادوا عافية أو ذهاباً أو إياباً وجدوا ذلك في مقدورهم وميسورهم، ومع ذلك رغم أموالهم وثرواتهم قد عجزوا عن كثير من هذا، مسكين ابن آدم مسكين هذا الإنسان.

جاء أحد الوعاظ إلى هارون الرشيد فقال هارون: عظني، قال: يا أمير المؤمنين! لو كنت في فلاة قفر -مفازة من الصحراء- ليس فيها ماء، ثم لم تجد شربة ماء، وأوشكت على الهلاك من العطش ثم بذلت لك شربة ماء بنصف ملكك -بالملك الذي لا تغيب عنه الشمس، بالملك الذي تخاطب فيه السحابة: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك- يا أمير المؤمنين! لو بذلت لك شربة من ماء أتبذل فيها نصف ملكك؟ قال: نعم والله أبذله ولا أتردد، قال: فاشرب هنيئاً مريئاً، ثم قال: يا أمير المؤمنين! فإذا استقرت هذه الشربة في جوفك ثم احتبست -أصابك الحصر لم تستطع أن تجد مسلكاً لهذه الشربة، عجزت عن البول بالعبارة الصريحة- هل تبذل نصف ملكك في سبيل إخراج هذه الشربة؟ قال: نعم. أبذل نصف ملكي في سبيل أن أجد لهذه الشربة مسلكاً ومخرجاً، فقال: يا أمير المؤمنين! تباً لملك لا يساوي شربة ماء.

بذلت نصفه في شربة ماء، ثم بذلت النصف الآخر في إخراجها، وتأملوا في أنفسكم -يا عباد الله- انظروا أي طعام تشتهونه، انظروا أي شراب تشربونه، في أي بلاد زرع وفي أي بلاد بذر؟ بذر وزرع في بلاد بعيدة، وانتظر عليه أهله شهوراً طويلة ثم جنوه بأيديهم ثم أرسلوه إلى بلادكم، نعم تترا ونحن عنها غافلون، ثم جئنا إلى السوق وجيوبنا متخمة بالمال فاشترينا ما اشترينا مما اشتهينا، ثم جئنا بهذا النبات أو الشراب إلى البيت فأوقدنا النار ووضعنا القدور وطهينا الطعام والشراب، ثم لم نجد لذته إلا على طرف اللسان، ولما جاوز الحلق تساوى لذيذ الطعام مع رديئه، فترة اللذة لحظة بقاء اللقمة على طرف اللسان، فإذا نفذت إلى الجوف بعد ذلك لا تعرف ماذا أكلت، ولو رد لك ما في جوفك لتقززت منه ولتقيأت منه ولكرهته ومججته، أليس ذلك حقاً يا عباد الله؟! بلى والله يا عباد الله!

ثم بعد ذلك إذا استقرت اللقيمات والشراب الذي زرع في بلاد كثيرة بعيدة وجني وصدر ووصل واشتريناه وطهيناه وطبخناه ومر على أطراف ألسنتنا لحظة واحدة ماذا بعد ذلك؟ بقي حبيس في الجوف، وتضايقنا وتمرغنا ووجدنا آلاماً عظيمة حتى نخرج هذا الطعام الذي مر بتلك المسافة الطويلة، من الزراعة والجني والتصدير والطبخ والطهي، حتى يسهل الله له مخرجاً، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لماذا يا عباد الله؟! لكي تعلموا أن لذة الدنيا لحظة، وأن لذة الدنيا دقيقة، ولذة على طرف اللسان، ثم تمضي وتبقى حبيسة الجوف ألماً حتى تخرج، ولكي نشتاق إلى لذات لا تتنغص، ولكي نشتاق إلى نعيم لا يتكدر.

ما أضيق العيش ما دامت منغصة     لذاته بادكار الموت والهرم

والله لو بقينا في هذه الدنيا على أطيب عافية وصحة ما ساغ لنا القرار ونحن نعلم أننا سننقل من الدور إلى القبور، ومن الفرش إلى اللحود، ومن السعة إلى الضيق، ومن النور إلى الظلام، أيهنأ إنسان هذا شأن حياته؟!

أيها الأحبة في الله: لو أتينا برجل من هذا الباب ودعوناه في هذه الساحة وأنتم وأنا نعلم أننا سنقتله بعد ربع ساعة، وهو لا يعلم المسكين، ثم قلنا: تفضل هذا الطعام وكل هذا الشراب، فأخذ يأكل ويتلذذ وينكس رأسه ويقلب طرفه في هذا النعيم الذي بين يديه، ألسنا وإياكم نضحك؛ لأنه سوف يأكل هذه اللقم والنعم ثم سوف يفارق الدنيا بعدها، نعم نضحك على عقله ونقول: هذا المسكين لا يدري ماذا ينتظره، فلنضحك على أنفسنا لأننا نتناول قليلاً من الطعام والشراب والآخرة تنتظرنا، وظلمة اللحود في انتظارنا، إلا من نور الله عليه قبره بالتوبة الصادقة والعمل الصالح، فما أجهل العقول والقلوب في هذا الزمان، أعدوا لدار ننتقل إليها.

يا غافلاً عن العمـل     وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة     والقبر صندوق العمل

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، أتدرون ما التقوى؟ اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، أتدرون ما التقوى؟ أن تعبدوا الله على نور من الله، ترجون ثواب الله، وأن تنـزجروا عن معصية الله خوفاً من الله، تخشون عقاب الله، أتدرون ما التقوى؟ الاستعداد للرحيل، والعمل بالتنـزيل والرضا بالقليل، أتدرون ما التقوى؟ شمروا إذا كنتم على طريق ذي شوك فانظروا كيف تجافون الأقدام عن الأشواك، وتتبعون بها سبيلاً سهلة ليس فيها شوك، فكذلك التقوى أن تقودوا نفوسكم وتمسكوا بزمامها وخطامها إلى مرضاة الله، وتسيروا بها مجاهدين هذه النفوس، حتى تودعوا هذه الدنيا؛ دنيا قصيرة ضعيفة:

طبعت على كدر وأنت تريدها     صفواً من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها     متطلب في الماء جذوة نار

كيف تريدون الراحة في الدنيا والله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]؟

والله إن أكبر كبير وأصغر صغير ليكابد أمر الدنيا، يظن الفقراء أن الأثرياء في راحة وهم والله في ألوان من الكبد، والفقراء يقاسون ألواناً من الكبد، وكل قد ابتلي إما بفقر وإما بغنى، ولكن السعيد من اتقى:

ولست أرى السعادة جمع مال     ولكن التقي هو السعيد

وتقوى الله خير الزاد ذخر     وعند الله للأتقى مزيد

عباد الله: أنتقل بكم من هذا المكان لزيارة في الله لإخوان مرضى في مستشفى النقاهة الذي كان يسمى مستشفى العزل، مستشفى الحميات بطريق الخرج، لكي تعرفوا -أيها الإخوة- نعم الله عليكم في عقولكم وأسماعكم وأبصاركم وأبدانكم.

أيها الأحبة: تدخلون مدخلاً فتجدون أمواتاً لكنهم يتكلمون، وبعضهم أموات لا يتكلمون لكن أبصارهم لا زالت تطرف يرون ما يقف على رءوسهم، ولا يستطيع أن يتكلم أو يسمع، فإذا وقفت أمامه ورفعت يديك مشيراً له أنك تدعو الله له بالعافية لم يجد وسيلة للتخاطب معك إلا أن يطلق الدموع غزيرة مدرارة على وجنتيه، يراك واقفاً وهو لا يستطيع الوقوف، يراك تتكلم وهو لا يستطيع الكلام، يراك تسمع وهو لا يستطيع ذلك.

أيها الأحبة في الله: يا من يشكون قسوة القلوب! يا من قست قلوبهم بألوان النعم ومختلف الطعام والشراب! زوروا إخواناً لكم في مستشفى النقاهة وانظروا أحوالهم، طائفة منهم قد أصيبوا بارتجاج في المخ مع خلل في النخاع الشوكي، ونتيجة هذه الإصابة فقدان كثير من الحواس مع شلل نصفي أو ثلاثي أو رباعي، ألوان مختلفة، تزور غرفة فترى فيها مريضاً لا يسمع ولا يبصر اللهم إلا هواءً ونفس يخرج ويدخل، وينتظر ساعته ولله في ذلك حكمة، لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج من الدنيا وما عليه خطيئة، وإن البلاء في الدنيا لأهون من العذاب في البرزخ والآخرة، ولله في ذلك حكمة.

فتزور غرفة أخرى فتجد رجلاً سوياً جميلاً نظراً لكنه لا يتكلم، فقط يسمع ولا يتحرك من سريره، لا يستطيع أن يتكلم، وإذا سبقت له القراءة فكتبت السؤال على ورقة وعرضته أمامه، أشار إليك أن له على هذا السرير، أربع سنوات على ظهره، ويعاني آلاماً عظيمة.

ثم انتقلت إلى غرفة أخرى لتجد أناساً لا يجدون مسلكاً للطعام إلا مع أنوفهم؛ لأن اللسان -أيضاً- قد أصيب بالشلل، والفم أيضاً قد أصيب بالشلل، فلا يستطيع أن يحرك اللقم حتى تمر على المريء ثم إلى الجوف.

ثم تنتقل إلى مكان آخر، فتجد مجموعة قد فتح له في أسفل رقبته فتحة قد تكون مساعدة للتنفس في بعض الحالات.

أيها الأحبة في الله: وماذا بعد ذلك؟! نعم لقد بذل لهم بفضل الله والشكر لله، ثم لهذه الحكومة الطيبة في مداراتها لأولئك، لقد بذل لهم لون من الرعاية منقطع النظير، ولكن ماذا يجدي حتى ولو عاشوا فوق السرير وعلى الحرير، ماذا يجدي ذلك؟ يريدون العافية ولو كانوا يشتغلون ليل نهار، يريدون العافية ولا يخرجون من المساجد، يريدون العافية ولو أمضوا دهرهم صائمين، يريدون العافية ولو بقوا طوال الليالي قائمين، العافية العافية التي أنتم تتقلبون فيها ولكنكم في غفلة من نعم الله عليكم، إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً [المعارج:19-20] لو يصاب أحد منا بشوكة أو بأثر أو بوعكة أو بأزمة لوجدته هلوعاً جزعاً خائفاً متضرعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:21] فإذا عاد إلى العافية أصبح يستكثر على الله ما يعمله، ويستكثر على الله ما يبذله، ويستكثر على الله ما ينفقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والمصيبة التي بعد ذلك -يا عباد الله- عملية إخراج الطعام من أجوافهم لا تتم كما تتم لأي أحد منكم، بل بعضهم تستمر هذه العملية وكأنها حالة ولادة خمس ساعات وأربع ساعات بمجموع من الأوعية والمحاليل، وألوان من الأدوية تعالج في مؤخرته حتى يسهل الله له فرجاً -يا عباد الله- والله إنها لمعاناة عظيمة، أحدهم يقول: يمر علي في الأسبوع يوم واحد هو اليوم الذي يستطيع أن يخرج فيه، طيلة ستة أيام يظل يعاني آلاماً ويقاسي مصائب في جوفه؛ لأن قضية الإخراج بالنسبة له عملية صعبة جداً، فيحدد له يوم واحد في الأسبوع، ثم يقول لنا: تصور ماذا تعاني زوجتك عند الولادة، والله إنا لنعاني أشد من ذلك في سبيل إخراج ما في بطوننا.

أيها الأحبة في الله! أليست نعم الله عليكم عظيمة..

لم تشتكي وتقول إنـك معدم     والأرض ملكك والسما والأنجم

أليست نعم الله عليكم عظيمة؟! والله نعمة الإسلام أول النعم، ونعمة العافية في كل ذلك عامة شاملة من أكبر النعم أيضاً، فالحمد لله على هذه النعم.

إخواني في الله: إخوانكم في مستشفى النقاهة الذين يعانون ألواناً؛ إما من الصمم، أو من الغيبوبة، أو من الشلل الرباعي والثلاثي، لهم أسر يحتاجون المساعدة ويحتاجون الرعاية، ولما اجتمع بعض الشباب الصالحون فتبرعوا لبعضهم بألوان من العربات المتقدمة التي تسهل عليهم نوع الحركة، وبعضهم لما استطاع الكلام قيل له: نعطيك عربة؟ قال: لا. أريد البقاء على السرير وأرسلوا قيمة العربة إلى أولادي وأطفالي، إن ورائي ذرية لا أعرف من ينفق عليهم أو يصرف عليهم.

أيضاً أيها الإخوة: لهم من الأسر من يحتاجون النفقة، وكبار السن الذين هم في مثل هذه الحالة لا يعرفون أحداً يزورهم، قد مل أبناؤهم وإخوانهم وذويهم من زيارتهم، يقول مشرف المستشفى: بعضهم نمكث مدة لا نرى أحداً يسأل عنه أو يطمئن عن حاله، لا حول ولا قوة إلا بالله!

عباد الله: احمدوا نعمة الله عليكم، أنتم في حرية والسجناء في ضيق، أنتم في عافية والمرضى في بلاء، أنتم في نعم وذوو الصمم والبكم في مصيبة لا يعلمها إلا الله، فاحمدوا الله على هذه النعم، احفظوا أسماعكم قبل أن تصم، ولا تجعلوها وسيلة للهو والعزف والطرب وسماع ذلك كله، اسمعوا بها ذكر الله وكلام الله وحديث رسول الله، احفظوا ألسنتكم واجعلوها ذاكرة لله، احفظوا أبصاركم ولا تجعلوها لأفلام الفيديو والمسلسلات التي فيها من الصور ما لا يرضي الله جل وعلا، احمدوا نعم الله عليكم وبادروا أنفسكم بالأعمال، هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً مدقعاً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟

اللهم عافنا في أبداننا، اللهم عافنا في أسماعنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، وأعنا بها على طاعتك واصرفنا بها عن معصيتك، واجعلها عوناً على الطاعة، وبلاغاً إلى حين.

اللهم توفنا على الإسلام شهداء، اللهم توفنا على الإسلام سعداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.