أرشيف المقالات

تأملات في طلب الولد وبيان أنه هبة من الله

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
تأملات في طلب الولد وبيان أنه هبة من الله

أولًا: قول الله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].
 
قال ابن كثير رحمه الله: ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ ؛ أي: ولدًا صالحًا[1]، وقال في تفسير سورة مريم: فسأل الله ولدًا يكون نبيًّا مِن بعده[2].
 
قال الشنقيطي رحمه الله عند قوله: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 5]، يعني بهذا الولي: الولد خاصة دون غيره من الأولياء[3]، بدليل قوله تعالى في القصة نفسها: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾، وأشار إلى أن المقصود الولد أيضًا بقوله: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89].
قال القرطبي رحمه الله: إن قال قائلٌ: قد حذَّرنا الله مِن آفات الأموال والأولاد، ونبَّه على المفاسد الناشئة من ذلك، فقال: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، وقال: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم ﴾ [التغابن: 14]، فالجواب على ذلك أن الدعاء بالولد معلومٌ من الكتاب والسنة [4]، فالكتاب: ما جاءت هذه الآية دالة على جواز طلب الولد.
 
قال القرطبي رحمه الله: دلَّتْ هذه الآية على طلب الولد، وهي سُنة المرسلين والصِّديقين[5]؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38].
والسنة: ما جاء في صحيح مسلم عن أنس عن أُمِّ سُلَيْمٍ أنَّها قالت: يا رسول الله، خادمُكَ أَنَس ادْعُ الله له، فقال: ((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ))[6].
قال في المُفهم: في الحديث حجَّة على جواز الدعاء في تكثير المال والولد، لكن مع الدعاء بالبركة، والاجتهاد في كفاية الفتنة [7].
 
قال القرطبي: والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحثُّ على طلب الولد وتندب إليه؛ لِما يرجوه الإنسان من نفعة في حياته وبعد موته، وفي هذا ردٌّ على بعض جهَّال المتصوفة؛ حيث قالوا: الذي يطلب الولد أحمقُ [8].
 
ثانيًا: قول الله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].
قال ابن كثير رحمه الله: يخبر الله تعالى أنه يَرزق مَن يَشاء البنات فقط، ويرزق من يَشاء البنين فقط، ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى؛ أي: هذا وهذا، وَيجعل مَن يشاء عقيمًا؛ أي: لا يولَد له [9].
قال ابن عاشور عند قوله: ﴿ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾: هو مِن المكروه عند غالب البشر، ويتضمَّن ضربًا من ضروب الكُفران، وهو اعتقادُ بعضِ النعمة سيئةً في عادة المشركين مِن تطيُّرهم بولادة البَنات لهم[10].
قال ابن العربي: قال علماؤنا: يَهَب لِمن يشاء إِناثًا؛ يعني: لوطًا كان له بنات ولم يكن له ابن، وَيَهَب لِمن يشاء الذكور، يعني: إبراهيم، كان له بنون ولم تكن له بنت.
أَوْ يُزَوِّجهم ذُكرانًا وإناثًا، يعني: آدم، كانت حوَّاء تلِد له في كل بطن تَوْءَمين ذكرًا وأنثى، فيزوِّج الذكر من هذا البطن من الأنثى من هذا البطن الآخر، حتى أحكَم الله التحريم في شرع نوح عليه السلام.
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، كان له ذكور وإناث من الأولاد: القاسم، والطيب والطاهر، وعبدالله، وزينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية[11].
 
ومثَّل البغوي لِمَن كان عقيمًا من الأنبياء، فقال: كيحيى وعيسى عليهما السلام لم يولَد لهما، ثم قال: وهذا على وجه التمثيل، والآية عامة في حقِّ كافة الناس [12].
قال ابن كثير رحمه الله: جعل الله الناس أربعة أقسام: منهم مَن يعطيه البنات، ومنهم مَن يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورًا وإناثًا، ومنهم مَن يَمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيمًا لا نسلَ له ولا ولد له، فهو عليمٌ بمن يستحق كل قسمٍ من هذه الأقسام.
 
ثم قال رحمه الله: وهذا المقام شبيهٌ بقوله تعالى عن عيسى: ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [مريم: 21].
حيث خلَق الخلق على أربعة أقسام، فآدم عليه السلام مخلوقٌ من ترابٌ، لا من ذكر وأنثى، وحواء عليها السلام مخلوقة مِن ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى، وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر، فتمَّت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم عليهما الصلاة السلام، فهذا المقام في الآباء، والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير [13].
قال مجاهد والحسن والضحاك: وأدخل الألف واللام على الذكور دون الإناث في قوله: ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾ [الشورى: 49]؛ لأنهم أشرفُ، فميَّزهم بسمة التعريف [14].
 
قال ابن عجيبة رحمه الله: وقدَّم الإناث أولًا على الذكور؛ لأن سياقَ الكلام أنه فاعلٌ ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذِكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمَّ، أو لأن الكلام في البلاء، والعرب تعدهنَّ عظيمَ البلايا، أو تطييب القلوب آبائهم، ولَمَّا أخَّر الذكور - وهم أحقَّاء بالتقديم - تدارَك ذلك بتعريفهم؛ لأن التعريف تنويه وتشريفٌ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقُّه من التقديم والتأخير [15].
وقال الشوكاني رحمه الله: وتعريفُ الذكور بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث، ويُمكن أن يقال: إن التقديم للإناث قد عارَض ذلك، فلا دلالة في الآية على المفاضلة، بل هي مسوقة لمعنى آخرَ، وقيل: تقديم الإناث لكثرتهنَّ بالنسبة إلى الذكور، وقيل: لتطييب قلوب آبائهنَّ، وقيل: لغير ذلك مما لا حاجة إلى التطويل بذكره [16].
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

المصادر والمراجع:
1- أحكام القرآن؛ لابن العربي.
2- أضواء البيان؛ للشنقيطي.
3- البحر المديد في تفسير القرآن المجيد؛ لابن عجيبة.
4- التحرير والتنوير؛ لابن عاشور.
5- تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير.
6- الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي.
7- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير؛ للشوكاني.
8- معالم التنزيل؛ للبغوي.
9- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم؛ للقرطبي.
10- صحيح مسلم بشرح النووي؛ لأبي الحسين مسلم القشيري.



[1] ينظر: تفسير القرآن العظيم 1/ 389.


[2] ينظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 119.


[3] ينظر: أضواء البيان 4/ 266.


[4] ينظر: الجامع لأحكام القرآن 13/ 414.


[5] ينظر: الجامع لأحكام القرآن 5/ 110.


[6] أخرجه مسلم 8/ 255، كتاب الفضائل، باب: من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه، حديث رقم2480.


[7] ينظر: المفهم 2/ 288.


[8] ينظر: الجامع لأحكام القرآن 5/ 110-111.


[9] ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/ 131.


[10] ينظر: التحرير والتنوير 25/ 138.


[11] ينظر: أحكام القرآن 4/ 59-96.


[12] ينظر: معالم التنزيل 7/ 200.


[13] ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/ 131.


[14] ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/ 501.


[15] ينظر: البحر المديد 5 / 229..


[16] ينظر: فتح القدير 4/ 712.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١