خطب ومحاضرات
قبل بدء الرحيل
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، إن دين الله ماض، تقهقر من تقهقر، وانحرف من انحرف، وانقلب من انقلب، وضعف من ضعف، وتشاغل من تشاغل، إنها قافلة ماضية، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة) وهذه الطائفة كما قرر المحققون من أهل العلم، أنها ليست جماعةً معينة، ولا في بلدٍ معين، أو في زمن معين، ولكنهم أتباع الكتاب والسنة، وأتباع السلف الصالح في كل زمانٍ ومكان، فلماذا لا نشرف أنفسنا بالالتحاق والانتساب إلى هذه المسيرة المباركة التي بدأت تاريخها منذ نزل (اقرأ) على نبينا صلى الله عليه وسلم ولم ينته لها تاريخ؛ لأن الحق باقٍ حتى قيام الساعة، بل وبعد قيام الساعة، فإن ذلك دلالةٌ على نصرة الحق وقوة الحق وظهور الحق على من خالفه.
أيها الأحبة في الله .. أدعوكم ونفسي مرةً ومراراً، وسراً وجهاراً، وعوداً وتكراراً أن يحاسب كل واحدٍ منا نفسه، ماذا قدمنا لهذه الدعوة؟ أليس الناس من حولنا وما بيننا وبينهم شيء، فما الذي كلَّ بألسنتنا عن دعوتهم؟ ألسنا نصرف الريالات والعشرات والمئات والآلاف في شهوات أنفسنا، وملذات ذواتنا، فلماذا إذا ذُكرنا بشراء شريطٍ لنهديه، أو كتابٍ لنقدمه دعوةً وحسبةً إلى الله أصبح الثمن غالياً، وأصبح الأمر شديداً وعلى النفس عظيماً، ولما كان في لذة النفس كان أسهل ما يكون؟ إننا نريد أن نكون من أولئك الذين ينفع الله بهم مباركين أينما كانوا.
في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) فنحن نرى اليوم المئات لا تكاد تجد فيهم من يحتسب، ومن يمضي، ومن يدعو، حتى هذا المتحدث أمامكم أول من تشاغل بنفسه وبخاصة أمره عن دعوة ربه، ووالله إنا نقف وإياكم هذا الموقف مقرين بالذنوب، معترفين بالخطأ، مراجعين لأنفسنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نعوذ بك من غفلتنا عن دعوتنا، نعوذ بك من انشغالنا بأمر أنفسنا واشتغالنا عن ديننا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بنعمك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
أعود إلى حديثنا أيها الأحبة! فالحديث نداء قبل الرحيل، وقبل النداء ما سمعناه.
ثم -أيها الأحبة- إن مما يدعو إلى الحديث في هذا الأمر: أنك إذا رأيت شيخاً كبيراً قد احدودب ظهره وعشي بصره، فاعلم أنه كان يوماً من الأيام شاباً جلداً نشيطاً قوياً، يرفع الصخر الثقيل، ويتحمل الحمل العظيم، ويمشي المسافات الطويلة، ويكابد المشقة العظيمة، ولكن جلده الليل والنهار بسياط الغروب والإشراق حتى أحدب ظهره وأعشى بصره، وجعله لا يعتمد على قدميه، أضعف بدنه، فانقلبت حاله بعد الصحة سقماً، وانقلب أمره بعد القوة ضعفاً.
وإذا رأيتِ -أيتها الأخت المسلمة- عجوزاً قد ذبل خداها، وقد ذبل جنباها، فاعلمي أنها كانت يوماً من الأيام واحدةً من الصبايا التي ربما تغنى الشباب بجمالها، واشتاق العشاق لوصالها، ولكن جَلَدَها الليل والنهار، ومضت عليها السنون والشهور والأعوام حتى صيَّرت حالها إلى ما ترين.
فيا معاشر الشباب: ويا معاشر الأخوات! إذا رأينا شيخاً كبيراً أو عجوزاً كبيرة، فلنعلم أن مآلنا رحيلٌ إلى حالهم، أو رحيلٌ عن الدنيا، فإن تركنا الموت ما تركنا الكبر، إن تركنا الموت ما تركنا السقم، إن تركنا الموت ما تركنا المرض، إن تركنا الموت ما تركنا الضعف، إن تركنا الموت ما تركنا الفراق، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وصححه الحاكم وغيره: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) أعيد هذا الحديث العظيم الجليل، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فلا بد من الموت مهما عاش الإنسان مائة أو أقل أو أكثر.
سئل الأعشى ميمون بن قيس وقد جاوز المائة ونيف عليها، فقالوا له: كيف وجدت الحياة؟ فقال:
المرء يفرح بالحياة وطول عيشٍ قد يضره |
تفنى بشاشته ويبقـى بعد حلو العيش مره |
وتسوؤه الأيام حتـى ما يرى شيئاً يسره |
كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائل لله دره |
هذه الأيام ماضية، عش ما شئت، مهما طال بك الزمن أو قصر فإن المنايا لا تعرف صغاراً دون كبار، ولا كباراً دون كهول، ولا كهولاً دون أطفال، ولا تعرف المنايا لأحدٍ إلا ما حدد الله لها وآجالاً كتبها الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر |
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري |
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهـم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر |
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر |
الرحيل .. الرحيل .. إذا غربت الشمس، فإنها تقول: الرحيل الرحيل، وإذا يبس النبات فإنه يقول: الرحيل الرحيل، وإذا مرض البدن، فإنه يقول: الرحيل الرحيل، وإذا أفلس التاجر، فإن ذاك يقول له: الرحيل الرحيل، وإذا انتهى الأمر فإنه يقول لك: الرحيل الرحيل.
إذا تم شيءٌ بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم |
توقى البدور النقص وهي أهلةٌ ويدركها النقصان وهي كوامل |
فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً فعند التناهي يقصر المتطاول |
الرحيل الرحيل، قد نودي بها صلى الله عليه وسلم، فقال له ربه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
الرحيل الرحيل، نودي بها المؤمنون: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].
الرحيل! الرحيل، نوديت بها الأمة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
الرحيل الرحيل يا عباد الله! فإن هذه الدنيا قد آذنت بصرمٍ وولت حذاءَ ولم يبق فيها إلا صبابةٌ يتصابها صاحبها، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الدنيا قد أدبرت وإن الآخرة قد أقبلت، إن الدنيا فانية مدبرة وإن الآخرة باقية مقبلة.
أيها الأحبة: حديثنا عن الرحيل لا فائدة منه إذا كنا سنستمع لحظة أو نخشع لحظة أو ننكسر لحظة، ثم نعود إلى شهواتنا وملذاتنا ومعاصينا، نقارف المعصية كأننا ما سمعنا خطباً على المنابر، كأننا ما سمعنا مواعظ، كأننا ما قرأنا كلام الله، ولا سمعنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث عن الرحيل -أيها الأحبة- أمرٌ للاستعداد ودعوة للاستعداد، وهل ينفع أن تتحدث الصحف والمجلات والإذاعات والإعلام، هل ينفع أن يتحدث الإعلام مثلاً قائلاً: سيرد على منطقة معينة وباءٌ ومرضٌ معدٍ، ثم يتحدث الناس، ويتناقلون أنباء الوباء، ولا يستعدون للوقاية دونه، ولا يستعدون للاحتياطات من أن يصيبهم شره وبلاؤه، يكون الكلام عن الوباء دون الاستعداد لمقاومته ضربٌ من العبث ولونٌ من الهوس، لكن إذا كان الكلام عن الوباء يعقبه استعدادٌ لمواجهته، فحينئذٍ يكون الكلام نافعاً ومجدياً، وكذلكم الحديث عن الرحيل إذا كان الكلام من أجل أن نستعد فحينئذٍ يكون -بإذن الله- نافعاً يؤثر على هذه النفوس، لا بد من الرحيل.
أين نمرود وكنعان ومن ملك الأرض وولى وعزل |
لا بد من الرحيل، أين الأُلى الذين سادوا وشادوا؟ أين شداد وإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ هلك الأمويون فهل أنتم باقون؟ هلك العباسيون فهل أنتم باقون؟ هلك العثمانيون فهل أنتم باقون؟ كل أمةٍ مضت.
يبقى الثناء وتذهب الأمـوال ولكل عصرٍ دولةٌ ورجال |
لكل زمانٍ أهله ورجاله.
أيها الأحبة: ما دام من قبلنا قد مضوا وكانوا أشد منا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10] إن أمماً سبقتنا ومضت قبلنا كانت هي أقوى وأغنى منا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13] أيستعصي على الله شيء؟ أيقف في وجه الله شيء؟ أيعترض قدر الله شيء؟ أيصد أمر الله شيء؟ إن أمر الله ماضٍ لا محالة.
فهذا أيها الأحبة! أمرٌ ونداءٌ واستعداد لهذا الرحيل، فقد مضى قبلنا الأثرياء والملوك والرؤساء، والكبراء والأمراء والوزراء، والفقراء والصعاليك والمساكين، فانتهوا إلى تلك الدار، لا يستوي في شأن القبر واللحد:
إن حله داهيةٌ أو أبلهٌ أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبع |
فكل يرد على هذا القبر، وحينئذٍ يتساوى الملوك والعامة، ويتساوى الفقراء والأغنياء، والصعاليك والأثرياء، كلهم تحت الثرى، وكلهم في اللحود، وكلهم ينخرهم الدود إلا من أذن له الله برحمةٍ وعنايةٍ وحفظٍ وكرامةٍ تعجل له كرامته في البرزخ لينظر بعدها إلى كرامةٍ أعز وأعظم من ذلك.
أليس الأغنياء لا يأذنون بدخول أحدٍ عليهم إلا بحجُاب وبواب، فأين هم من القطط والكلاب ربضت على قبورهم وبالت على لحودهم دون حاجبٍ ولا مستأذن، ما الذي صيَّر حالهم إلى ذلك؟ إنه الرحيل، إنه الزوال، إنه الفناء، فمن عاش في هذه الدنيا وهو ينظر أنه سيستمر في هذا الضوء ناسياً أن اللحد المظلم ينتظره، فذاك جاهلٌ أحمق، ومن عاش في الدنيا يظن أنه سيتقلب دائماً في السعة ناسياً ضيق القبر، فذاك جاهلٌ أو متجاهل، ومن مضى في هذه الدنيا مستأنساً بهذا الأنس ظاناً أن ذلك سيدوم عليه، ناسياً وحشة القبر وخلوته وانفراده، ناسياً أول ليلةٍ في القبر، وأول وحشةٍ يجدها، وأول ترابٍ يهال على وجهه، وأول حجرٍ يسقط على صدره وبطنه، والناس يحثون عليه الترب في لحده، فذاك غافل.
إذا أردت أن تعصي الله فاذكر ذلك الموقف، وتذكر الرحيل، وإذا أردت أن تقعد عن الصلاة مع الجماعة، فاذكر ذلك الموقف وتذكر الرحيل، وإذا زينت لك نفسك أن تمنع الزكاة فتذكر الرحيل، وإذا دعتك شهوتك إلى الوقوع في الزنا فتذكر الرحيل، وإذا دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى المتاجرة بالربا فتذكر الرحيل، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) الموت الموت يا عباد الله! ما ذكر في قليلٍ إلا كثره، ولا في كثيرٍ إلا قلله، ولا في بعيدٍ إلا قربه، ولا في قريبٍ إلا بعده، ولا في حبيبٍ إلا فرقه، ولا في لذيذٍ إلا جعله مراً، لا بد أن نتذكر هذا الأمر؛ لأننا قادمون عليه.
إن طائفةً من الناس إذا حدثتهم عن الرحيل، قالوا: ما أسوأ حديثك، ما أشأم حديثك! لا تكلمنا إلا عن المقابر وعن الموت وعن الرحيل، وعن الدود وعن اللحود، هلا حدَّثتنا باللذة؟ هلا حدَّثتنا بالبقاء؟ هلا حدَّثتنا بالأنس؟ صديقك من صدَقك لا من صدَّقك، ولأن تصحب من يخوفك حتى تبلغ مأمنك خيرٌ من أن تصحب من يؤمنك حتى يجعلك في دار المخافة، فلا بد من الرحيل أيها الأحبة.
إننا نفجع بأحبابنا وسنفجع يوماً من الأيام بأنفسنا، ستحمل على نعشٍ والناس يتحدثون وأنت محمولٌ على هذا النعش، فحدث نفسك الآن ماذا تقول لك نفسك والغاسل يغسلك؟ وماذا تقول لك نفسك والغاسل يكفنك؟ ماذا تقول نفسك إذا قدموك في المحراب يصلون عليك؟ ماذا تقول لك نفسك والناس يحملونك على أكتافهم؟ ماذا تقول نفسك وقد دخلت بوابة المقبرة؟ ماذا تقول نفسك وقد أسندوك يبحثون عن قبرٍ مناسبٍ لطولك وعرضك؟ ماذا تقول لنفسك إذا سَلوك في القبر سلاً؟ ماذا تقول لك نفسك إذا أهيل عليك التراب، وأخذوا يحثونه حثواً؟
أيها الأحبة: لا بد أن نستعد، فهذا حديث جبريل العظيم الذي يقول فيه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه) أحبب زوجتك فلابد أن تفارقك أو تفارقها، أحبب مالك فإنك تفارقه أو يفارقك، أحبب وظيفتك فإنك إما تعزل عنها أو تتركها أو تتقاعد منها، أحبب من شئت من ولدٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو منصب أو قريبٍ أو حبيب فلابد من الفراق، وستكون أحوالنا في هذه الدنيا كالأحلام.
مرت سنون بالوصال وبالهـنا فكأنها من قصرها أيامٌ |
ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام |
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام |
والله كأنها أحلام، الواحد منا يتذكر الآن وهو يحمل بحقيبته في السنة الأولى الابتدائية، ويتذكر نفسه وهو يركض بشهادته قد نجح من الرابعة الابتدائية، ويتذكر سنين الطفولة، كيف جلدنا الليل والنهار، ومضى علينا:
منع البقاء تقلب الشمس وخروجها من حيث لا تمسي |
وبزوغها صفراء صافية ومغيبها حمراء كالورس |
هذا الذي قلَّب الليل والنهار، هو الذي قلَّب أحوالنا، فجعلنا ننتهي إلى ذلك.
(وأحبب من شئت فإنك مفارقه) إلا عملك الصالح: (يموت ابن آدم فيتبعه ثلاثة: ماله وعمله وولده، فيرجع اثنان، يرجع ماله وولده ويبقى عمله) هل سمعتم أن شباباً أو رجالاً، أو ذكوراً وإناثاً جاءوا إلى العلماء فقالوا: إن أبانا صام خمسين رمضاناً، فاقسم هذا الصيام علينا؟ ذاك عمله ولا يدخل معه فيه أحد، أما المال فاقسموه فيما بينكم.
هل سمعتم أن رجالاً ونساءً جاءوا إلى القضاة والعلماء فقالوا: حج أبونا عشرين أو ثلاثين حجة فاقسموا يا أيها العلماء هذا الحج وهذا الاستغفار، وهذه التلاوة، وهذه القراءة، وهذه العبادة، اقسموها علينا، هذا لا يمكن أبداً؛ لأن ذلك عمل، والعمل لصاحبه، أما المال فيقسم بينكم، وأما الولد فيعودونه، فمن ترك ولداً صالحاً فهو من عمله، ومن ترك ولداً ضيعه وأهمله وأسند تربيته إلى الشاشة والأفلام، وأسند تربيته إلى المربيات والخادمات، وأسند تربيته إلى جلساء السوء وإلى قرناء الشارع ليتعلم الألفاظ البذيئة والكلمات التي لا تليق، فحينئذٍ لا يسره أن يكون هذا من عمله أبداً.
إذاً فالرحيل لا بد منه أيها الأحبة، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف صحيح البخاري أصح كتابٍ بعد كلام الله عز وجل كما أجمعت الأمة، كان جالساً في حلقة درسه والطلاب من حوله يستمعون، فجاءه نعي أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاحب السنن فأطرق البخاري ، ثم نشج ثم بكى حتى انحدر دمعه وبل خده، وسال على لحيته، فرفع رأسه وهو يقول:
إن تبق تفجع بالأحبة كلهـم وفناء نفسك لا أبا لك أفجع |
فهذا شأننا إن كنا أحياءً فيفجعنا موت أحبابنا، موت آبائنا، موت أمهاتنا، موت إخواننا وأخواتنا، موت علمائنا، موت دعاتنا، موت رجالنا، موت المجاهدين فينا، موت الثابتين الصابرين منا:
إن تبق تفجع بالأحبة كلهـم وفناء نفسك لا أبا لك أفجع |
فهذه الدنيا يفجع فيها الإنسان وليست بدار لذةٍ أو غفلةٍ دائمة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] لذا قال صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر آخذاً بمنكبه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) تذكر الرحيل.
إن الله عز وجل قد بيَّن أن هذه الدنيا بما فيها كلها متاع، اسألوا أنفسكم لو جاء مسافرٌ إلى موظف الخطوط مثلاً، أو موظف سكة الحديد مثلاً، أو موظفٍ مسئولٍ عن السفر، فقال الموظف لهذا المسافر: أين متاعك؟ ما تظنون المتاع الذي سوف يأتي به هذا المسافر؟ حقيبةٌ صغيرة وثيابٌ قليلة، وأمورٌ يسيرة جداً، ثم يضعها على الميزان ويقول: هذا متاعي، لم يأتِ أحدٌ ببيته ليقول: هذا متاع سفري، ولم يأتِ أحدٌ بسيارته ليقول: هذا متاع سفره، ولم يأتِ بكل أمواله ليقول: هذا متاع سفري، إنما المتاع بلغةٌ من أجل البلاغ والوصول، اسمعوا قول الله عز وجل:
وإن كلام الله أوثق شافعٍ وأغنى غناءٍ واهباً متفضلاً |
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا |
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ليناً وهطلا |
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا |
اسمعوا كلام الله، إن أجمل الكلام كلام الله! إن أطيب الكلام كلام الله! إن ألذ الكلام كلام الله! يأتي الواحد يريد أن يلقي محاضرةً جمع فيها من الكتب فيسمع آيةً من كلام الله تنسف وتعصف كل ما جمعه، أبلغ من هذا كله، وأجمل من هذا كله، وأثمن من هذا كله، فسبحان من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيلٌ من حكيمٍ حميد! سبحان من كلامه لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً!
أيها الأحبة: يقول الله عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] كل ذلك.. ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [آل عمران:14-15] الجنة خيرٌ من هذا كله، النعيم المقيم خيرٌ من كل ما نتقلب فيه، ولو أُوتينا ألذ الملذات وأطيب الطيبات.
في الذاهبين الأوليـن من القرون لنا بصائر |
لما رأيت موارداً للقوم ليس لها مصادر |
أيقنت أني لا مـحالة حيث صار القوم صائر |
إذا تأملنا ذلك كله، فإن ذلك أيها الأحبة! يذكرنا برحيلٍ لا بد منه.
والآن أريد أن أعرض عليكم صوراً من رحيل مشرقة، ثم ربما نتطرق إلى بعض صور الرحيل الخطرة، صور الرحيل المخزية، صور الرحيل الموجعة المفجعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا إسماعيل عن يونس عن الحسن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، فقالت
رحيل فاطمة بنت رسول الله
الله أكبر! انظروا كيف يستعدون للقاء الله، يتطيبون للرحيل، يلبسون الثياب الجميلة للرحيل، يعدون الغسل الطيب للرحيل، يستقبلون القبلة للرحيل، يضطجعون السنة للرحيل. الله أكبر! ما أعظم هذه النفوس.
رحيل أبي بكر الصديق
لو كانت الأعمار تبقى لواحدٍ رأيت رسول الله حياً مخلداً |
ولكن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قضيةٌ كاملة، مسألة كاملة، فصولٍ كاملة، أمورٌ كاملة، موعظة تامة، لا يسعها أن نضمنها وسط هذه الكلمة أو المحاضرة، ولعل الله أن ييسر بلقاءٍ نسمع منكم أو نستمع من أحد إخواننا كلاماً عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها من العبر، ومن أجمل السير، ومن أجل الخبر ما يتدكدك له الصخر.
هذا أبو بكر الصديق ، صورةٌ من رحيله رضوان الله عليه: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان ذلك اليوم شديد البرودة، فأصابت أبا بكر الحمى، فحمي خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان أبو بكر يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، والناس يدخلون على خليفتهم وإمامهم، يدخلون على صاحب رسول الله، يدخلون على خليفة رسول الله، يعودونه في مرضه، وهو في كل يومٍ أثقل من الذي قبله، فلما اشتد به الأمر قال لـعائشة وقد كانت تمرضه مرض موته: [أي يومٍ هذا يا
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي هكذا يا بنية! ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ثم قال أبو بكر: إذا أنا مت فاغسلي أخلاقي -يعني: ثيابي الخلقة- فاجعليها أكفاناً لي، فقالت عائشة: يا أبتاه! قد رزق الله وأحسن وأعطى خيراً، نكفنك بجديد، فقال: إن الحي أحوج إلى هذا مني، يصون نفسه، إن الحي أحوج من الميت، إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى.
وتوفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ عمره عمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ودفن جوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ما أجمل هذا الرحيل! وما أجمل هذا الفراق! وما أجمل هذا الإعداد! وما أطيب هذا الاستعداد! نفوسٌ أيقنت بالموت فاستعدت له.
رحيل عمر بن الخطاب
رحيلٌ في الصلاة، ومع ذلك يخشى من هول المطلع، ومن سوء المفزع، ومن عاقبة الأمر، يخشى من إقباله على الله، وهو عمر الذي بشر بالجنة، عمر الذي ما سلك وادياً إلا سلك الشيطان وادياً آخر، عمر الذي فتح الله به البلدان، ومصر به الأمصار، ونشر به الإسلام، عمر الذي نزل القرآن والوحي موافقاً لقوله ولرأيه، يقول: [والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع]، فكان عمر وهو يحتضر ينادي ولده عبد الله، فقال: [ادن يا عبد الله! اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل: عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام، ولا تقولن: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، يقول: قل لها: عمر يستأذن ولا تقل له: أمير المؤمنين يستأذن، قال: ثم سلها أن أدفن مع صاحبيَّ -يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر - قالت عائشة: رضي الله عنها لما جاءها عبد الله بن عمر فطرق الباب ودخل عليها، فقال: يا أم المؤمنين! يا أمه! إن عمر بن الخطاب يقرئك السلام، ويقول: إن أذنت لي أدفن مع صاحبيَّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أريده لنفسي -كانت تريد أن تدفن بجوار زوجها، بجوار نبيها، بجوار حبيبها، بجوار أبيها، ولكن هذا هو الإيثار، ولكن هذا هو الكرم، ولكن هذا الإيمان العظيم الذي جعلها تعرف مكانة عمر في دين الإسلام، وتعرف مكانة عمر من رسول الله، وتعرف مكانة عمر من أبيها أبي بكر الصديق - قالت: كنت أريده لنفسي، فوالله لأؤاثرن ابن الخطاب اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله بن عمر راجعاً إلى أبيه عمر ، قال له عمر : ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر : ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع] حي ذاك المضطجع، وحي ذاك المكان، وحي تلك التربة التي ضمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمت صاحبه أبا بكر ، وضمت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ما أطهرها وما أطيبها! إلا أنها لا تنفعنا من دون الله، ولا تدفع عنا شيئاً من دون الله، ولا تدفع قدراً من أقدار الله، لكننا نحب ذاك التراب، ونحب أجساداً طيبةً طاهرةً عطرةً من أهل الجنة في ذاك التراب، لكننا لا نعتقد أنها تفرج الكربات، أو تفرج النكبات، أو تجيب الملهوفين، أو تسمع الإغاثات، فذلك توحيدنا الذي أمرنا به حبيبنا، وبقي عليه خليفة رسولنا، وثبت عليه الخلفاء والأئمة بعده.
قال عمر: [ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع، فإذا قبضت فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب -مرة أخرى- فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين] ردوني إلى مقابر المسلمين، يقولها عمر الذي كسر كسرى وقصم قيصر بأمر الله والجهاد، يقول: [إن أذنت فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين].
فولج شابٌ من الأنصار وهذه صورة:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر |
صورةٌ عظيمة، صورة جليلة، صورةٌ للدعوة، صورةٌ للحسبة، صورةٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عمر بن الخطاب يدعو وينصح ويحتسب ويأمر وينهى وهو على فراش الموت:
ولج عليه شابٌ من الأنصار، فقال الشاب: [أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك، لقد كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت فعدلت، ثم شهادةٌ في سبيل الله بعد هذا كله، فقال عمر رضي الله عنه: ليتني -يا بن أخي- أرد على الله كفافاً لا عليَّ ولا ليَّ، فلما أدبر الفتى نظر عمر إلى ثوبه، فرأى إسبالاً في ثوبه، فقال: ردوه عليَّ، فلما عاد، قال عمر بن الخطاب : يا بني! ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك].
وعند خروج روح عمر رضي الله عنه كان رأسه في حجر ولده عبد الله بن عمر، فقال عمر: [ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله بن عمر: يا أبتِ! وهل فخدي والأرض إلا سواء، فقال عمر : ويل عمر إن لم يرحمه ربه، ضع خدي على الأرض لا أم لك في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه رضي الله عنه، فسمعته يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت نفسه وهو يذكر الله ويشهد أن لا إله إلا الله].
الله أكبر! الله أكبر! إقبالٌ على الله واستعدادٌ للرحيل، وإعدادٌ بزادٍ عظيم، ومع ذلك يخشون عاقبة عظيمة.
رحيل عثمان بن عفان
رحيل علي بن أبي طالب
شد حيازمك للموت فإن الموت لاقيك |
ولا تجزع من المـوت إذا حل بواديك |
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يتمثل بهذا البيت كأنه نبئ أنه سيقتل بعد قليل، وكان في طريقه خارجاً من بيته إلى المسجد، وهو ينادي بين الفينة والأخرى: أيها الناس! الصلاة.. الصلاة.. علي بن أبي طالب خرج من بيته يلتفت إلى البيوت يلتفت إلى الأزقة يصيح في الراقدين النائمين: أيها الناس الصلاة .. الصلاة، ومعه درته يوقظ بها الناس، فجاء ابن ملجم ومعه سيفٌ ومعه صاحبٌ فأقبل تجاه علي فضربه ضربةً في جبهته حتى وصل دماغه، فصاح علي رضي الله عنه: لا يفوتنكم الرجل، فأمسكهما الناس من كل جانب، وأمسك ابن ملجم ، فقال علي : [قد ضربني فأحسنوا إليه، وألينوا فراشه، فإن أعش فهضمٌ أو قصاص، وإن أمت فعاجلوه، فإني مخاصمه عند ربي عز وجل] ولما مات كان قبل أن يموت أوصى بنيه ثم نطق بلا إله إلا الله، ومات وتشهد عليها رضوان الله:
عزاءٌ فما يصنع الجازع ودمع الأسى أبداً ضائع |
بكى الناس من قبل أحبابـهم فهل منهم أحدٌ راجع |
عرفنا المصائب قبل الوقوع فما زادنا الحادث الواقع |
فدل ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافع |
وللمرء لو كان ينجي الفـرار في الأرض مضطربٌ واسع |
ومن حتفه بين أضلاعه أينفعه أنه دارع |
وكل أبيٍ لداعي الحِمام إن يدعه سامع طائع |
يسلم مهجته سانـحاً كما مد راحته البائع |
ولو أن من حدثٍ سالماً لما خسف القمر الطالع |
وكيف يوقى الفتى ما يـخاف إذا كان حاصده الزارع |
هذا الرحيل يا معاشر المؤمنين! هذا الرحيل أيها الغافلون! واللحود المنازل بعد الترف واللين، والأعمال الأقران، فاعملوا ما يزين، والقيامة تجمعنا وإياكم، وتنصب الموازين، والأهوال العظام، فأين المتفكر الحزين؟!: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134] اللهم اجعلنا ممن أفاق لنفسه، وفاق بالتحفظ أبناء جنسه، وأعد عدةً تصلح لرمشه، واستدرك في يومه ما ضيع في أمسه.
أيها الأحبة: الرحيل الرحيل لا بد منه، فأين نحن من الاستعداد لهذا؟!
روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو النظر، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن أمه سلمى قالت: [اشتكت
الله أكبر! انظروا كيف يستعدون للقاء الله، يتطيبون للرحيل، يلبسون الثياب الجميلة للرحيل، يعدون الغسل الطيب للرحيل، يستقبلون القبلة للرحيل، يضطجعون السنة للرحيل. الله أكبر! ما أعظم هذه النفوس.
رحيل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والحق أن نتحدث قبله عن رحيل محمد صلى الله عليه وسلم:
لو كانت الأعمار تبقى لواحدٍ رأيت رسول الله حياً مخلداً |
ولكن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قضيةٌ كاملة، مسألة كاملة، فصولٍ كاملة، أمورٌ كاملة، موعظة تامة، لا يسعها أن نضمنها وسط هذه الكلمة أو المحاضرة، ولعل الله أن ييسر بلقاءٍ نسمع منكم أو نستمع من أحد إخواننا كلاماً عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها من العبر، ومن أجمل السير، ومن أجل الخبر ما يتدكدك له الصخر.
هذا أبو بكر الصديق ، صورةٌ من رحيله رضوان الله عليه: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان ذلك اليوم شديد البرودة، فأصابت أبا بكر الحمى، فحمي خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان أبو بكر يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، والناس يدخلون على خليفتهم وإمامهم، يدخلون على صاحب رسول الله، يدخلون على خليفة رسول الله، يعودونه في مرضه، وهو في كل يومٍ أثقل من الذي قبله، فلما اشتد به الأمر قال لـعائشة وقد كانت تمرضه مرض موته: [أي يومٍ هذا يا
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي هكذا يا بنية! ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ثم قال أبو بكر: إذا أنا مت فاغسلي أخلاقي -يعني: ثيابي الخلقة- فاجعليها أكفاناً لي، فقالت عائشة: يا أبتاه! قد رزق الله وأحسن وأعطى خيراً، نكفنك بجديد، فقال: إن الحي أحوج إلى هذا مني، يصون نفسه، إن الحي أحوج من الميت، إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى.
وتوفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ عمره عمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ودفن جوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ما أجمل هذا الرحيل! وما أجمل هذا الفراق! وما أجمل هذا الإعداد! وما أطيب هذا الاستعداد! نفوسٌ أيقنت بالموت فاستعدت له.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أهمية الوقت في حياة المسلم | 2832 استماع |
حقوق ولاة الأمر | 2700 استماع |
المعوقون يتكلمون [2] | 2660 استماع |
توديع العام المنصرم | 2653 استماع |
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] | 2556 استماع |
من هنا نبدأ | 2512 استماع |
أنواع الجلساء | 2465 استماع |
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] | 2464 استماع |
الغفلة في حياة الناس | 2450 استماع |
إلى الله المشتكى | 2448 استماع |