الروض المربع - كتاب البيع [17]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

فقد سبق قول المؤلف رحمه الله: (ولبائع إجارة وإعارة فيما استثني), وهذه العبارة موهمة ولهذا اختلف الشراح فيها, فالمعنى والله أعلم أنه إذا قال: أبيعك على أن لي حملانه إلى المدينة الذي هو أجرة, يقول: هذا الاستثناء يجوز للبائع إذا استثنى منفعة المبيع أن يؤاجرها بنقود أو يعيرها هذا هو القصد.

إذاً: معنى أبيعك على أن تؤاجرني أي: أبيعك على أن أشتري منك أو أؤجرك على أن أشتري منك ليست هي أبيعك وأجرك, أبيعك وأقرضك, أبيعك وأسلفك؛ لأن ثمة فرقاً بين اشتراط عقد في عقد واجتماع عقدين في عقد, فالفرق فيه كبير, فإذا قلت: أبيعك وأستأجر منك أو أؤجرك, إذاً كلا العقدين من طرف واحد, وهذا مثل الإجارة المنتهية بالتمليك, أؤجرك وأبيعك, فهذه ليست داخلة في اشتراط عقد في عقد كما يظنه بعض المشايخ في بحوثهم، فقد جعلوها من باب اشتراط عقد في عقد، وهذا ليس اشتراط عقد في عقد، وإنما هو عقد معاوضة اشترط فيها الملك, يعني فهو عقد بشرط أو بيع بشرط أو إجارة بشرط، وعلى هذا فثمة فرق بين اشتراط عقد في عقد واجتماع عقدين في عقد.

إذاً إذا قلت لك: أبيعك أؤجرك أو أبيعك وأشاركك هذا مني؛ لأني أنا الذي أشاركك, أما أني أقول: أبيعك على أن تشاركني في هذه الأرض الثانية, إذاً هذه مستقلة, أما أن يقول: أبيعك جزءاً من الأرض وأشاركك بالجزء الثاني فهذا جائز؛ لأن كله في المعقود عليه؛ ولأن المعقود عليه واحد, أما قول: أبيعك على أن تبيعني فالمعقود عليه اثنان, هذا من الفروق, وقول: أبيعك على أن تشتري مني شيئاً هذا لا يجوز؛ لأن هذان معقودان, وقول أبيعك البرج على أن أستأجره منك فهذا جائز؛ فالمعقود عليه واحد, وقول: أبيعك البرج على أن تبيعني برجك الثاني لا يجوز, فهناك فرق واضح.

وهنا فائدة لطلاب العلم وهي: أن معرفة القواعد وضبطها تجعلك تفهم بإذن الله كثيراً من المسائل، فليس المهم أن ننهي الكتاب, المهم أن نعرف القواعد؛ لأن فهم القواعد يسهل عليك قراءة الكتب بعد ذلك, أما أنك تقرأ بناء على مثال ثم تظن أنك فاهم والواقع أنك ما فهمت, فإذا أردت أن تطبق هذه المسائل في المعاملات المعاصرة تقع في مشكلة.

قول المؤلف: (وهو بيعتان في بيعة المنهي عنه، قاله أحمد ), إذاً: الحنابلة رحمهم الله يرون أن اشتراط عقد في قرض داخل في ( لا يحل سلف وبيع ), وأن اشتراط عقد في عقد معاوضة أخرى داخل في بيعتين في بيعة, والجواب: أن اشتراط عقد معاوضة بعقد معاوضة ليس داخلاً في بيعتين في بيعة، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأن بيعتين في بيعة قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية: ( فلو أوكسهما أو الربا ), وليس ثمة مماكسة هنا، فليس هناك سعران في هذا الأمر, وأن بيعتان في بيعة هي كل معاوضة اشترط فيها الربا, سواء كانت عينة أو لم تكن عينة, مثل إذا جاء وقت السلم قال: تبيعني أعطني سلمي وإلا إما أن تقضي وإما أن تربي فهذه داخلة في بيعتين في بيعة؛ له أوكسهما وهو أن يصبر أو أن يزيد الربا وهذا محرم، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ الثاني: ما يصح معه البيع وقد ذكره بقوله: (وإن شرط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو شرط ألا يبيع المبيع ولا يهبه ولا يعتقه، أو شرط إن عتق فالولاء له، أي: للبائع، أو شرط البائع على المشتري أن يفعل ذلك، أي: أن يبيع المبيع أو يهبه ونحوه بطل الشرط وحده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ) متفق عليه، والبيع صحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة أبطل الشرط ولم يبطل العقد ].

شرط عدم الخسارة في البيع

قول المؤلف: (الثاني), يعني: من أنواع الفاسد: شرط فاسد غير مفسد للعقد, يقول: (وهو ما يصح معه البيع)، وهو كل شرط قيدت فيه حرية الملك لأحدهما, سواء ملك الثمن أو ملك المثمن, فإذا قال: أبيعك على أن لا خسارة، فقد قيدت فيه الملكية؛ لأن الملكية يترتب عليها الربح والخسارة, فإذا اشترط فيه خلاف ذلك فقد نقص في الملكية, فإذا قلت: أبيعك على أن لا خسارة علي, يعني: تتحمل أنت الخسارة وقد تحمل ما لا يملكه، فصار ذلك شرطاً في قيد الحرية, فيقولون: إنه شرط فاسد.

شرط رد المبيع إذا لم يبع

وإذا قال: أبيعك على أنه متى ما نفق المبيع, ومعنى نفق: أي: راج, ومعنى راج أي: بيع, فمتى ما نفق المبيع أي: راج وبيع وإلا يعني: وإن لم يبع فإنني أرده عليك, فيقولون: هذا شرط فاسد؛ لأن المشتري إذا ملك المثمن فإنه يترتب عليه الخسارة ويترتب عليه عدم البيع, وأما إذا قيد ذلك على البائع فصار ذلك قيداً في حرية التملك فيكون شرطاً فاسداً.

والقول الثاني: قالوا: أنه إن قال له: متى ما نفق المبيع وإلا رددته عليك، قالوا: إن هذا شرط صحيح ولا إشكال في ذلك, وهذا رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله كما أشار إلى ذلك ابن مفلح في الفروع, وهذه صورتها مثل صورة عقد التصريف, فإن بعض الشركات تبيع على أصحاب السوبر ماركت أو البقالات لبناً أو جرائد أو مجلات على أنه إن جاء بعد يوم أو يومين ولم يستطع بيعها فإن الشركة تتكفل برد المعقود عليه, أو أن اللبن إذا لم يبع فإنها إذا جاءت بعد اليومين تأخذ اللبن ويكون هذا من باب الاسترجاع، وهو داخل في قوله: (متى ما نفق المبيع وإلا رده), والذي يظهر -والله أعلم- جواز ذلك بشرط وهو أن يكون هناك مدة معلومة، وإلا فإنه يدل على وجود غرر, يعني: ترده متى ما نفق المبيع فلابد من وجود أجل معلوم وإلا صار غرراً, وقد كتبت بحثاً في عقد التصريف والآثار المترتبة عليه، ولعله إن شاء الله يطبع قريباً.

وعقد التصريف له أربع صور:

بيع بشرط، أو بيع معلق، أو وكالة، أو خيار، فالوكالة مثل عقد التسويق الموزع للسيارات، فيأخذ السيارة على أنه يصرفها وإلا ردها, وله نسبة مثل أن يقول: بعها بمائة وما زاد فهو لك, فهذا يختلف لكن لا نريد أن نتشعب.

شرط عدم بيع المبيع أو عدم هبته أو عدم عتقه

قول المؤلف: (أو شرط ألا يبيع المبيع ولا يهبه ولا يعتقه)؛ لأن هذا شرط يقيد حرية المتملك, وهذا منعه الجمهور وجوزه أبو العباس بن تيمية ؛ لما جاء عند ابن أبي شيبة أن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود باعته جارية على أنها متى ما باعها فهي أحق بالثمن، فأمضى عمر البيع ولكن منعه من الاستمتاع، فدل على جواز ذلك والله أعلم، فمثلاً تركي يريد مجاورتي في الأرض، فيقول: أريد أن أشتري أرضك, فأقول: أبيعك إياها على أنك متى ما أردت بيعها فأنا أحق بها, فأنا إنما بعتها لأجل مجاورة تركي، فإذا زهد بها تركي فلا أريد أحداً أن يكون شريكاً لي أو جاراً لي يؤذيني، فيكون هذا فيه منفعة لي, وتركي لن يبيعها لأجل محاباة ولكن سوف يبيعها عليّ بمثل ما يبيعها على الآخرين, فيكون هذا شرطاً فيه منفعة، والله تبارك وتعالى أعلم.

والقاعدة في هذا: أن المسلمين على شروطهم؛ ولما جاء عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: مقاطع الحقوق عند الشروط, وهو قول لبعض السلف في مسألة الشروط، وهو قول شريح و محمد بن سيرين وظاهر صنيع البخاري وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

شرط جعل الولاء لغير المعتق

قول المؤلف: (أو شرط إن عتق فالولاء له) يعني: يشتري أمة أو مولى ثم يقول له: أبيعك إياه بشرط أنه متى ما عتق فالولاء لي, فيكون هذا شرطاً فاسداً لكنه غير مفسد, والحنابلة استدلوا بهذه القاعدة (فاسد غير مفسد) بحديث بريرة , أما ابن تيمية فليس عنده فاسد غير مفسد.

فتعالوا لننظر في حديث بريرة ، تقول بريرة : (إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في كل سنة أوقية، قالت عائشة : إن شاء أهلك ) أي: الذين كاتبوا بريرة ، والمكاتبة عقد لازم فليس للمالك الحق في أن يقول: أبطلت عقد المكاتبة، قال تعالى: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33], فقالت عائشة : (إن شاء أهلك أن أعد لهم عددت واحدة, فـعائشة تقول: هذه التسع الأواقي سوف أعطيهم إياها مباشرة ويكون الولاء لي), إذاً الذي اشترى بريرة هي عائشة , ولا يجوز لهم الرجوع في المكاتبة فقالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا, ( فذهبت بريرة فقالت لـعائشة قالت: لها الله إذاً, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم عائشة فقال: ما شأنك؟ قالت: فأخبرته الخبر, قال: اشتريها واشترطي لهم الولاء ).

يعني: إذا شريتيها فاشترطي أو لا تشترطي لأن هذا ملكك, فالحنابلة قالوا: إن هذا شرط فاسد في عقد, فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( اشتريها واشترطي لهم الولاء أو لم تشترطي ), فأبطل الشرط, فهذا مذهب الحنابلة.

القول الثاني قالوا: إن معنى: ( واشترطي لهم الولاء ) إن هذا أصلاً ليس شرطاً فاسداً في عقد؛ لأن المكاتبة ثابتة حاصلة, فلا حق للملاك الأوائل أن ينفكوا عنها, فـعائشة بعد ثبوت هذا المكاتبة اشترتها, إذاً: هذا الاشتراء ليس فيه شرط, فيكون شرط الملاك ليس لهم حق الشرط أصلاً, فصار قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي ), هو الأقرب, وإلا فكيف يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ادخلي معهم العقد وقولي لهم هذا الشرط وأنت تعلمين أنه باطل، هذا بعيد! لأن هذا فيه نوع من الغرر والخيانة, وحاشا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الأمر, ولقد فهم بعض الباحثين هذا, ويقول: أدخل ثم إذا ثبت العقد فإنه يبطل شرعاً, لا ما يجوز هذا، وحاشا محمد صلى الله عليه وسلم أن يخادع، وقد قال الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58], فمعنى: ( واشترطي لهم الولاء ) يعني: اشترطي أو لا تشترطي فإن الشرط باطل، هذا المعنى الأول.

والمعنى الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشتريها واشترطي لهم الولاء ), يعني: واشترطي عليهم الولاء، فيكون شرطاً من مقتضى العقد وليس شرطاً فاسداً, وقد قلنا: لو قال: أبيعك على أن تكون الملك لي هذا جائز وأبيعك على أن أتصرف بالسيارة أو أشتري منك على أن أتصرف بالسيارة هذا هو الصحيح, فقال لـعائشة : (اشترطي لهم الولاء), يعني: تملكي ولك حق التصرف.

قول المؤلف: (الثاني), يعني: من أنواع الفاسد: شرط فاسد غير مفسد للعقد, يقول: (وهو ما يصح معه البيع)، وهو كل شرط قيدت فيه حرية الملك لأحدهما, سواء ملك الثمن أو ملك المثمن, فإذا قال: أبيعك على أن لا خسارة، فقد قيدت فيه الملكية؛ لأن الملكية يترتب عليها الربح والخسارة, فإذا اشترط فيه خلاف ذلك فقد نقص في الملكية, فإذا قلت: أبيعك على أن لا خسارة علي, يعني: تتحمل أنت الخسارة وقد تحمل ما لا يملكه، فصار ذلك شرطاً في قيد الحرية, فيقولون: إنه شرط فاسد.