الروض المربع - كتاب الصلاة [94]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [فإذا سلم من الصلاة خطب خطبتين كخطبة الجمعة في أحكامها حتى في الكلام إلا في التكبير مع الخاطب يستفتح الأولى بتسع تكبيرات قائماً نسقاً، والثانية بسبع تكبيرات كذلك؛ لما روى سعيد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: يكبر الإمام يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات. يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أغنوهم بها عن السؤال في هذا اليوم)، ويبين لهم ما يخرجون جنساً وقدراً والوجوب والوقت، ويرغبهم في خطبة الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكامها من رواية أبي سعيد والبراء وجابر وغيرهم].

خلاف العلماء في عدد خطبة العيد

قال المؤلف رحمه الله: (فإذا سلم من الصلاة خطب خطبتين كخطبة الجمعة)، هذا المذهب عند الحنابلة أن تكون الخطبة بعد الصلاة كخطبة الجمعة؛ وهي خطبتان، خطبة أولى ثم يجلس ثم يقوم فيخطب الخطبة الثانية، وجعلوا حكمها كحكم صلاة الجمعة، والدليل على هذا، ما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو أحد الفقهاء السبعة، أنه قال: ( من السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس )، والحديث رواه الإمام الشافعي وغيره.

والقول الثاني في المسألة: أن للإمام أن يخطب خطبةً واحدة، واستدلوا على ذلك بما جاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء )، فقالوا: وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان متكئاً على بلال كما ذكر جابر فإنه وعظ الناس وذكرهم وحثهم على طاعته، ثم تقدم فمضى فأتى النساء، وليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ثم جلس ثم قام فخطب الثانية، إلا أن تكون خطبته للنساء هي الخطبة الثانية، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر النساء ابتداءً دون ثناء ولا حمد في ابتدائه، فلما وصل إلى النساء قال: ( يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار )، الحديث. وهذا القول قوي، ومما يؤيده من الآثار ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ميسرة بن أبي جميلة قال: شهدت مع علي بن أبي طالب العيد، فلما صلى خطب على راحلته. قال: وكان عثمان يفعله، وجه الدلالة: أن الذي يخطب على راحلة ليس مثل خطبة الجمعة يقوم ثم يجلس ثم يقوم، خاصة أن الحنابلة يقولون: يستحب القيام والجلوس بينهما، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب في ذلك خطبتين، بأن أثنى على الله في الخطبة الثانية؛ ولهذا فإن القول بأن الخطبة يمكن أن تكون خطبة واحدة ليس ببعيد، حيث أن ظاهر النصوص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب خطبة واحدة، وفعل السلف خطبتين كما قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فدل ذلك على جواز الأمرين، والله أعلم.

حكم حضور واستماع خطبة العيد

الحنابلة يقولون: هذه الخطبة كخطبتي الجمعة في أحكامها حتى في الكلام، يعني: أنه واجب الاستماع، ( ومن قال لأخيه: أنصت فقد لغا )، وهذا القول الأول.

والقول الثاني في المسألة: أن وجود الخطبة هو الواجب، وأما استماعها فعلى أمرين: من جلس فيجب أن يستمع، وإلا فيجوز للإنسان أن ينصرف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من شاء منكم أن يستمع ومن شاء أن يخرج )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم جوز للناس أن يخرجوا بعد الصلاة، فلو كانت هاتان الخطبتان كخطبتي الجمعة لما جاز للناس أن ينصرفوا، فدل ذلك على أن استماعهما ليس كاستماع خطبتي الجمعة، إلا أن جلوس الإنسان يوجب عليه الاستماع، حيث أن حركته أو كلامه والإمام يخطب لا معنى له؛ لأنه سوف يؤذي الحاضرين.

وعلى هذا فإننا نقول والله أعلم: إن من جلس لها يجب عليه الاستماع، ولكن يجوز الخروج عنها، فدل ذلك على أنها ليست كالجمعة، والله أعلم.

لكن يجب الإنصات فقط على من جلس؛ لأنه لا معنى أن يقال: إنه يجب على الإمام أن يخطب ولا يجب الإنصات، فمن جلس فيجب أن ينصت حتى يستمع الآخرون، وأما أن يجعل حكمها كحكم الجمعة، بأن من قال لأخيه: أنصت فلا جمعة له أو فلا خطبة له فليس بصحيح؛ لأن قوله: (أنصت) أهون من أن يخرج الناس ويتحدثون وهم في الطريق.

قال المؤلف رحمه الله: (إلا في التكبير مع الخاطب)، ومعنى التكبير يعني: إذا كبر الإمام فإن من معه يكبرون.

ما يبدأ به الخطيب

قال المؤلف رحمه الله: (يستفتح الأولى بتسع تكبيرات قائماً نسقاً)، يعني: أنه يستحب للإمام إذا شرع في الخطبة أن يبدأ بأن يكبر تسع تكبيرات، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، ثم يقول: إن الحمد لله، أو الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علماً إنه سميع قريب مجيب، ثم يأتي بالصلاة والسلام على رسول الله، فيثني على الله بما هو أهله.

(والثانية) يعني الخطبة الثانية: يكبر (بسبع تكبيرات)، البدء بالتكبير في الخطبة هو مذهب جمهور أهل العلم ومنهم الحنابلة، واستدلوا بما رواه سعيد بن منصور وغيره، من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: ( يكبر الإمام يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات )، وفي رواية: ( من السنة )، وهذا الحديث أخرجه كذلك ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي وغيرهم، وهذا الأثر تكلم الحفاظ فيه، ورأوا أن في إسناده بعض المقال.

وذهب بعض أهل العلم وهو القول الثاني في المسألة: إلى أنه يبدأ بالثناء على الله كسائر خطب الجمعة، وهذا وجه عند الإمام أحمد ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وقد قال: ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبةً بغير الحمد؛ لا خطبة عيد ولا استسقاء ولا غير ذلك، وكذلك ذكره ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وهذا القول أظهر، إلا أنه لا مانع اقتداءً بسنة الخلفاء أن يثني على الله بما هو أهله، ثم بعد ذلك يكبر، فيجمع بين الأمرين، وقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يبدأ الإمام فيكبر تسعاً لعله بعد الثناء، فيكون بدايته من: أما بعد، فإذا قال: أما بعد، فالله أكبر الله أكبر، فهذا بداية بعد حمد الله والثناء عليه، ولا يكون هذا معارضاً بالثناء على الله؛ بدليل أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه كما جاء ذلك في صحيح مسلم قال: ( فبدأ فوعظ الناس وذكرهم )، فليس هذا معناه: أنه بدأ بالموعظة دون ثناء على الله، فدل ذلك على أن قوله: (يبدأ)، يعني بعد الثناء على الله بما هو أهله، وفي هذا الجمع حسن. والله أعلم.

ترغيب الخطيب الناس بإخراج زكاة الفطر وبيانها

قال المؤلف رحمه الله: (يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أغنوهم بها عن السؤال في هذا اليوم ) )، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني وذكره ابن عدي في كتاب الكامل في ترجمة أبي معشر، وهو نجيح بن عبد الرحمن وجعل ذلك من منكراته، أعني به: ابن عدي في الكامل، وهناك فائدة أن كل ما يذكره ابن عدي في كتاب الكامل من أحاديث فإنها مما استنكر على المؤلف أو على الراوي، فلا تقول: أخرجه ابن عدي بسند حسن، فهذا لا يمكن؛ لأن هذه الأحاديث تذكر من باب التمثيل، وكذلك الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، فإذا ذكر الإمام الذهبي بعض الأحاديث فهذا مما استنكر، كذلك العقيلي يذكرها في كتاب الضعفاء، وأما البخاري في كتاب التاريخ الكبير فإنه ليس على إطلاقه، فمرة يذكره على سبيل التضعيف، ومرة يذكره على أنه ليس له إلا هذا الحديث، ومرة يذكر ما اشتهر به من أحاديث، فهي تحتاج إلى دقة وتروي.

قال المؤلف رحمه الله: (يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة)، من المعلوم أن الصدقة لا تجزئ إلا أن تكون قبل الصلاة، وكيف يحثهم على الصدقة وقد أدوها؟ يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين للناس أحكام زكاة الفطر، ثم بعد ذلك أراد أن يبين حكمها مرة ثانية، كما بين صلى الله عليه وسلم ما يلبسه المحرم في خطبة المدينة، وبين ما يلبسه المحرم وهم في عرفة في حديث ابن عباس كما في رواية الدارقطني : ( فقام بعرفة فخطب الناس )، وكما أشار صلى الله عليه وسلم في خطبة الأضحى: ( ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم )، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرر بعض الأحكام لأجل أن يفقهها الناس، فلربما من كان غير حاضر في السابق أن يفقه بعد هذه الخطبة، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ويبين لهم ما يخرجون جنساً وقدراً والوجوب والوقت)، يعني: أنهم استحبوا لمن تحدث بخطبتي العيد أن يذكر زكاة الفطر، ما هو الذي يجزئ فيها، هل الأصناف الخمسة هي المقصودة، أم المقصود القوت والقدر وهو الصاع؟ ويذكره بالوزن التقريبي، والوجوب يعني: متى يجب إخراجها، وما هو الوقت الذي يجب على الإنسان أن يخرجها؛ لأن الوجوب له علاقة بالوقت، فيقول العلماء: من غربت عليه شمس يوم الثلاثين من رمضان وقد مات بعد ذلك وجب عليه أن يخرج صدقة، فإن مات قبل ذلك فلا يجب، والمولود إن ولد بعد غروب الشمس فلا يجب، وإن ولد قبل ذلك فيجب، وعلى هذا فقس، ويذكر الوقت المجزئ، وهو قبل العيد بيوم أو يومين، والوقت المستحب وهو عند خروج الناس إلى المصلى، وغير ذلك.

يعني: ويذكرهم بأحكامها، أو ويحثهم على فضلها، كل هذا سائغ؛ لأجل الإنسان الذي لم يخرج، فإذا سمع وعرف حكمها جاز له أن يخرج بعد ذلك؛ لأن التكليف إنما يكون بعد العلم بالخطاب.

ترغيب الخطيب الناس بالأضحية وبيان حكمها

قال المؤلف رحمه الله: (ويرغبهم في خطبة الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها)، لا شك أن الأضحية إنما تجب وتجزئ بعد الصلاة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: ( فمن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه إلى أهله، ليس من النسك في شيء، ومن ذبح بعد الصلاة فهو نسك، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله! إن عندي عناقاً )، والعناق هو أصغر من الثني وهو: الماعز التي أقل من سنة، والماعز لا تجزئ إلا ما لها سنة، ويسمى الثني، والضأن ما له ستة أشهر، إلا أنه يجزئ في الضأن الجذعة، وإلا فإن كل بهيمة الأنعام لا بد أن تكون ثنياً، وثني الإبل خمس سنوات، وثني الماعز سنة، وثني البقر سنتان ( قال: يا رسول الله! إن عندي عناقاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك )، فهذا جهل حكم ذبحها قبل الصلاة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لم أكن أعلم فذبحت، وليس عندي بعد ذلك إلا هذه )؛ لأنه يجب عليه أن يذبحها؛ لأنه عيّنها، فمن عين أضحيته فيجب عليه أن يذبحها في الوقت، فمن ذبحها قبل الوقت فإنه يجب عليه أن يعيد، فقال: ( إن عندي عناقاً، فقال: اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك )، وهذا يدل على أن هذا من باب خصوص الأشخاص لا خصوص الأوصاف، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما خص بها أبا بردة، وهذا هو مذهب عامة أهل العلم.

وذهب ابن تيمية إلى أن ذلك من باب خصوص الأوصاف، وأن كل من كان جاهلاً بالحكم فذبح قبل الصلاة فإذا علم وليس عنده إلا عناقاً فإنها تجزئ عنه، فقوله: ( ولن تجزئ عن أحد بعدك )، يعني: لن تجزئ عن أحد إلا من كان كحالك بأن ذبح جاهلاً، ثم علم بعد الخطبة، والقول الأول أظهر، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكامها من رواية أبي سعيد والبراء وجابر وغيرهم)، يعني: الأحكام الشرعية المتعلقة بالفطر والأضحى، أما حديث أبي سعيد فإنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم، ويأمرهم )، وهذا كما قلت: يفيد أن الخطبة خطبة واحدة.

وحديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء )، والحديث متفق عليه، والحديث الثالث أيضاً حديث جابر الذي مر معنا سلفاً.

قال المؤلف رحمه الله: (فإذا سلم من الصلاة خطب خطبتين كخطبة الجمعة)، هذا المذهب عند الحنابلة أن تكون الخطبة بعد الصلاة كخطبة الجمعة؛ وهي خطبتان، خطبة أولى ثم يجلس ثم يقوم فيخطب الخطبة الثانية، وجعلوا حكمها كحكم صلاة الجمعة، والدليل على هذا، ما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو أحد الفقهاء السبعة، أنه قال: ( من السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس )، والحديث رواه الإمام الشافعي وغيره.

والقول الثاني في المسألة: أن للإمام أن يخطب خطبةً واحدة، واستدلوا على ذلك بما جاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء )، فقالوا: وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان متكئاً على بلال كما ذكر جابر فإنه وعظ الناس وذكرهم وحثهم على طاعته، ثم تقدم فمضى فأتى النساء، وليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ثم جلس ثم قام فخطب الثانية، إلا أن تكون خطبته للنساء هي الخطبة الثانية، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر النساء ابتداءً دون ثناء ولا حمد في ابتدائه، فلما وصل إلى النساء قال: ( يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار )، الحديث. وهذا القول قوي، ومما يؤيده من الآثار ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ميسرة بن أبي جميلة قال: شهدت مع علي بن أبي طالب العيد، فلما صلى خطب على راحلته. قال: وكان عثمان يفعله، وجه الدلالة: أن الذي يخطب على راحلة ليس مثل خطبة الجمعة يقوم ثم يجلس ثم يقوم، خاصة أن الحنابلة يقولون: يستحب القيام والجلوس بينهما، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب في ذلك خطبتين، بأن أثنى على الله في الخطبة الثانية؛ ولهذا فإن القول بأن الخطبة يمكن أن تكون خطبة واحدة ليس ببعيد، حيث أن ظاهر النصوص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب خطبة واحدة، وفعل السلف خطبتين كما قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فدل ذلك على جواز الأمرين، والله أعلم.

الحنابلة يقولون: هذه الخطبة كخطبتي الجمعة في أحكامها حتى في الكلام، يعني: أنه واجب الاستماع، ( ومن قال لأخيه: أنصت فقد لغا )، وهذا القول الأول.

والقول الثاني في المسألة: أن وجود الخطبة هو الواجب، وأما استماعها فعلى أمرين: من جلس فيجب أن يستمع، وإلا فيجوز للإنسان أن ينصرف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من شاء منكم أن يستمع ومن شاء أن يخرج )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم جوز للناس أن يخرجوا بعد الصلاة، فلو كانت هاتان الخطبتان كخطبتي الجمعة لما جاز للناس أن ينصرفوا، فدل ذلك على أن استماعهما ليس كاستماع خطبتي الجمعة، إلا أن جلوس الإنسان يوجب عليه الاستماع، حيث أن حركته أو كلامه والإمام يخطب لا معنى له؛ لأنه سوف يؤذي الحاضرين.

وعلى هذا فإننا نقول والله أعلم: إن من جلس لها يجب عليه الاستماع، ولكن يجوز الخروج عنها، فدل ذلك على أنها ليست كالجمعة، والله أعلم.

لكن يجب الإنصات فقط على من جلس؛ لأنه لا معنى أن يقال: إنه يجب على الإمام أن يخطب ولا يجب الإنصات، فمن جلس فيجب أن ينصت حتى يستمع الآخرون، وأما أن يجعل حكمها كحكم الجمعة، بأن من قال لأخيه: أنصت فلا جمعة له أو فلا خطبة له فليس بصحيح؛ لأن قوله: (أنصت) أهون من أن يخرج الناس ويتحدثون وهم في الطريق.

قال المؤلف رحمه الله: (إلا في التكبير مع الخاطب)، ومعنى التكبير يعني: إذا كبر الإمام فإن من معه يكبرون.